اندحار الصحافة انعكاس تلقائي وطبيعي لانهيار السياسة والقيم والوسائط وغياب المعنى، كثرت المنابر والميكروفونات وقل الصحافيون المهنيون في زمن بلا أخلاق ولا قواعد، نعيش نكسة إعلامية ولم تعد اللغة التي اعتدنا استعمالها، قادرة على وصف حالنا بدقة.
محاورة الإعلامي والكاتب عبد العزيز كوكاس هي دوما صيد ثمين، لكن فيها الكثير من الجهد والمكابدة، فهذا الإعلامي المخضرم الذي قضى في التجربة الصحافية ما يفوق ربع قرن، لا يستسلم للقناعات الكسولة، وحتى في أجوبته ينصب في طريق محاوره فخاخا عديدة، وإضافة إلى العمق الفكري واللغة الأدبية الأنيقة، يفرض كوكاس على محاوره رفع الإيقاع..
قبل أن ألتقيه هيأت أسئلة اعتبرتها مميزة، لكن ما أن انطلق النقاش حتى وجدتني أفكر في أن أقدم للقراء والزوار الأعمق بشكل حي، في هذا الحوار الذي فتح فيه كوكاس قلبه بلا تحفظ أو مواربة، أكد “أننا نحتاج إلى الرزانة والنضج في الصحافة، لأن الأمر يتعلق بمرآة المجتمع الذي نعيش فيه، وأن تجارب الصحف المميزة لا تنتشر تعبيرا عن الآراء والرغبات الذاتية لمحرريها، وإنما عندما تعبر عن آراء ومصالح أوسع لتيارات اجتماعية، وعبر بنا مسارات تجربته في الصحافة المستقلة والأسئلة الكبرى التي تواجه صحافتنا اليوم، فالصحافة كما قال هيغل هي مرآة المجتمع الحداثي..
في تقديم كتابك “أحلام غير منتهية الصلاحية”، كتبت حول مقالاتك “ثمة خيط ناظم للمواقف المعبر عنها وللقضايا التي ظلت تشغل بال الرأي العام… صحيح ثمة سذاجة تُلحظ في التعبير عن بعض القضايا، سذاجة البدايات وراءها صدق كبير، وحماس قد يبدو بمعيار النضج زائد عن اللزوم”.. يبدو لي الأمر أشبه بانتقاد لبُعد الاندفاع والجرأة التي ميزت مقالاتك؟ لو قدر لك أن تبدأ اليوم من جديد، هل كنت ستنهج نفس الأسلوب وروح المغامرة في مجال الكتابة الصحافية خاصة؟
لكل مرحلة أحلامها وانكساراتها ونساؤها ورجالاتها والأسلوب المقبول مجتمعيا لطرق التعامل مع الأسئلة والإشكالات المجتمعية التي تواجه المرء في مرحلة ما من مسار وجوده، بالنسبة لي شخصيا لم أكن مغامرا أبدا، فلي غيرة على بلدي وعلى مهنتي، ولم أملأ حياتي بالثقوب عملا بنصيحة بول بولز، ما قصدته في تقديم كتابي “أحلام غير منتهية الصلاحية” هو الاندفاع، كنت أومن بما عبر عنه فاغنر يوما “على الحقيقة أن تقال ولو تطاير العالم إلى شظايا”، لكن باحترام ومهنية ودون ادعاء أي بطولة..
أفهم أنك كنت تشير إلى المقالات التي كنت تجد نفسك فيها على مقربة من السجن وأمام المحاكم؟
بالضبط، أعتبر أن السجن ليس بطولة رغم أنني واجهته أكثر من مرة، لأنه لم ينتج عبر جل مسار التحولات البشرية غير الخيانة والمتواطئين والنادمين على ما قدموه من تضحيات لم يستأهلها الشعب بنظرهم، فأصبحوا أشد نهبا للمال العام وقناصي فرص، إلا من رحم ربك، لكن ما كنت قصدته بالضبط هو بُعد الحماس والاندفاع الذي يبدو لي اليوم مع نضج السن وفهم أعمق للواقع، أنه كان فيه نوع من “الزيادة حبّتين” كما يقال، لكن قياسا لحماس الشباب كان الأمر مقبولا، إذ ماذا كنت سأساوي خارج اندفاع سني أنا وجيلي..
اليوم لم يبق عندي ما يبتزه الألم أو يضعفني به كما يقول محمد مهدي الجواهري، فقدت شهوة المخاطرة، لذة العناد بلا حدود، ضاق الحلم، مع تقدمنا في السن نصبح أكثر نضجا، ما يعتبره الشباب محافظة، لكن صدقني لو أتيح لي أن أعيد نفس التجربة اليوم، لأعدتها بذات الصدق ولكن بنضج أعمق.
هل التقدم في السن إذن هو الباعث الأكبر على الرزانة التي إذا ما قيست بمعيار الشباب اعتبرت جبنا وتخاذلا؟
سأقول لك ما تعلمته من الروائي الروسي إيڤان تورغينيف “من يحتفظ بالقدرة على مشاهدة الجمال لا يشيخ أبدا”، العيب هو أن يرتد الإنسان عما كان يؤمن به، أما وأن تصبح أكثر فهما للواقع، وأعمق تحليلا، فهذا باب مطلوب. أعتقد في الكتابات التي يبقى وشمها حتى بعد انتهاء الأحداث التي كانت باعثا على كتابتها، لأنها تمس الجوهري في الحدث أو الأساسي المحرك للأحداث بدل الوقوف عند القشور الخارجية، وتحولك من التحليل السياسي أو الصحافي إلى المفتي الذي يصدر الأحكام ويمتلك الحقيقة المطلقة، نحتاج إلى الرزانة والنضج في الصحافة، لأن الأمر يتعلق بمرآة المجتمع الذي نعيش فيه.
تحدث الفرنكفونيون عن التجربة الإعلامية المستقلة، التي كنت في قلب صناعتها خاصة في “الصحيفة” و”لوجورنال” و”الأخبار” و”الأسبوعية الجديدة”… وغيرها، بينما لا أحد منكم أنتم الناطقون بالعربية، لا أنت ولا نور الدين مفتاح ولا محمد حفيظ ولا عبد القادر الشاوي تكلم عن تجربته الصحافية، إلا ما كان من ردود على من تكلموا من الفرنكوفونيين، إلى ما يعود السبب؟
يعود الأمر إلى اعتبارات لغوية وثقافية في تقديري، لقد تكلم بوبكر الجامعي وعلي المرابط وعلي عمار وجمال براوي وأحمد رضى بنشمسي وآخرون كثيرون من ذوي اللسان الفرنكوفوني عن ذات التجربة التي كنت أقود إلى جانب باقي زملائي أحيانا في المؤسسة ذاتها، فيما لم يتكلم من كان في اللسان العربي، أشير إلى مسألة ملفتة للانتباه هي أن كل تجارب الصحافة المستقلة الأولى بدأت باللسان الفرنسي، وبعدها تم الانتباه للتحول الحاصل في المجتمع في مجال الإعلام نحو اللغة العربية وحتى سوقها كمجال للاستثمار، فقد وُجدت “لوجورنال” أولا وتم تأسيس “الصحيفة” بعدها، الشيء نفسه مع “لاكازيط دو ماروك” التي خلقت في ما بعد أسبوعية “الحدث” ثم “تيل كيل” التي أسست نيشان، ثم “دومان” بالفرنسية التي جاءت بعدها “دومان” بالعربية، لذلك حين كانت تمر هذه المؤسسات من أزمة كانت تضحي باللسان العربي إعلاميا لتبقى الصحيفة الفرنكوفونية على عكس ما سيحدث مع “المساء” و”لوسوار” مثلا..
وبالعودة لسؤالك، كانت اللغة الفرنسية تسمح للصحافيين الذين قادوا التجربة الفرنكوفونية، بتحرر أكبر تجاه العديد من السلط، وكان يمنحهم هذا الامتياز اللغوي سلطة رمزية في مخاطبة نخبة مؤهلة اجتماعيا لاستقبال الخطاب ذاته، بالإضافة إلى السياق الثقافي الذي يقرن الفرنسية زمنها بتحرر أكبر وجرأة أقوى، نحن لا يمكن أن نحكي كصحافيين عربفونيين إن شئت، عما حدث مثلا في استجواب نتنياهو باللغة ذاتها التي تكلم بها أصدقاؤنا في “لوجورنال”، لأن زملائي في الصحيفة كانوا يعيشون مأساة حقيقية وكانوا يحسون بخجل كبير أمام القراء وباقي الفاعلين، في الوقت الذي كان زملاؤنا في “لوجورنال” يصدرون البيانات ويعقدون الندوات للدفاع عن وجهة نظرهم بطلاقة وحرية، لم تكن لزملائهم في الصحيفة الذين كانوا يعيشون جنازة حقيقية.
ربما البعد المحافظ في العربية لم يطلق لساننا للحديث بالصدق اللازم عن التجربة ذاتها، التي عشتها مثلا كصحافي ثم كرئيس تحرير فمدير للتحرير بـ”الصحيفة” وباقي التجارب الإعلامية التي قدتها أو تحملت فيها مسؤولية رئيس التحرير، بالإضافة إلى القيم الثقافية المرتبطة بذلك، جبال الملح والطعام بيننا في التجارب التي اختلفنا فيها لم تجعلنا نخرج للناس لنعرض حقائقنا ولا أن نكيل التهم لبعضنا كما قام بذلك الصحافيون الفرنكوفونيون، ثم إن السياق السياسي الذي برز في البوح بأسرار تجربة الصحافة المستقلة، كان مناخا غير سليم، فيه التنابز وهيمنة الأنوات الفردية وروح البطولة بين ذات الفاعلين الذين كانت تجمعهم نفس التجربة الإعلامية واختلفوا في ما بينهم.
صدقني أنني أحيانا كنت أقرأ بعض التصريحات لفاعلين كبار في مجال التجربة التي كنت وسطها وأعرف أسرارها، كنت أتساءل هل كانوا يتحدثون عن التجربة ذاتها التي كنت وسطها أم عن تجربة أخرى موجودة في خيالهم فقط، أعتبر أن الصحافيين “العروبيين” لم يكن ممكنا أن يدخلوا في ذات التنابز بدليل أننا اختلفنا كمجموعة تحرير في “الصحيفة” ولم نتبادل -خارج الجلسات الخاصة- أي حديث علني حول خياراتنا ولا اختلافاتنا بالمستوى ذاته الذي ميز الفاعلين في ذات الصحافة المستقلة من الإعلاميين الفرنكوفونيين.. هناك سلط غير مرئية، موجودة في قلب تكويننا وفي عمق المجتمع لربما كانت في تقديري وراء ما لاحظته في هذا الباب.
رغم أن بوبكر الجامعي وعلي عمار وأحمد رضى بنشمسي تحدثوا في الكثير من الأحيان باللغة العربية؟
لقد كانوا يتكلمون جميع اللغات بالفرنسية، أتكلم عن اللغة كثقافة وتربية ومأوى وجودي، وليس فقط كألفاظ وجمل حين فرضت العربية نفسها في الإعلام المغربي. لا أحد فينا تكلم عن الوضع المهين الذي كنا نجد فيه أنفسنا نحن الصحافيين العربفونيين في ذات المؤسسة الحداثية المبشرة بقيم الديمقراطية، من تفاوت مهول في الأجور قياسا إلى صحافيين فرنكوفونيين، أقل كفاءة منا وكانوا ينتظرون نشر موادنا للاستئناس بها، وحين كنا في عمارة إيمان سونطر في الطابق الثامن كان هناك مصعدان، مصعد سريع ومصعد بطيء دائم التعطل، فأطلق عليه صحافيو “لوجورنال” مصعد العربية، أي مصعد “الصحيفة”، وحين يتعطل أي كرسي في قاعة تحرير الصحافيين الفرنكوفونيين كانوا يأتون به إلى “الصحيفة” ويأخذون بدله الكرسي الجديد، وحين كان يتم تجديد أجهزة وحواسيب القسم الفرنسي كانوا يأتون للصحيفة العربية بما تخلف من الخردة التقنية..
مرة كنت في حديث مع الراحل خالد الجامعي، فقال لي إن قوتنا، تكمن في أن “لوجونال” تؤثر في رأس الدولة، بينما تؤثر “الصحيفة” في جسد الأمة، لقد كان نبيلا وأراد أن يعبر عن فكرة لها نصيب وافر من الحقيقة، لكنه لم يدر أنه سدد لي خنجرا، خلف لدي ما يشبه جرح اللسان العربي.. فالفرنكوفونية هي الرأس هي منطقة التفكير، هي العقل، هي مصدر القرار… فيما الصحافة العروبية، تؤثر في أسفل الجسد حيث الغرائز، حيث العوام وسواد الأمة، وترتبط بالمشاعر والعواطف، هذا ما قصدته بالسياق الثقافي واللغوي للحديث عن تجربتنا الجماعية في الصحافة المستقلة.
في واقعة أخرى، كان الزميل أحمد رضى بنشمسي يجري معي حوارا عام 2005، وكنت أتكلم لغة عربية وسطى كما أتكلم في حياتي اليومية، لم تسعفني الدارجة العامية إن صح التعبير، فقال لي بنشمسي غاضبا: لم لا تتكلم اللغة التي نعرفها؟ كان يحضرني أبو تمام وودت أن أقول له ولم لا تفهم اللغة التي أتكلمها، فَأَسَرَّهَا كوكاس فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لبنشمسي، لكني أحسست بغربة لساني في موطني..
لو فتحنا لك المجال الآن والتمسنا منك التعبير في جمل قصيرة عن تجربة “الصحيفة” و”الأخبار” وباقي الأسبوعيات التي اشتغلت داخلها أو قدت العديد منها، ماذا تقول باختصار شديد؟
هذه الجرائد جاءت في لحظة تاريخية دقيقة من بداية نهاية عهد، بداية هواء جديد كانت نسائمه قد بدأت تبرز مع الإفراج عن المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين والمغتربين وانفتاح أكبر في مجال الإعلام بعد انهيار جدار برلين وتأسيس القناة الثانية، وطلبات الملك الراحل الحسن الثاني للمعارضة، التي دخلت في تجربة التنسيق مع ظهور الكتلة، من أجل التناوب التوافقي، وما تلا أحداث فاس وتقرير صندوق النقد الدولي…
كان الأمر أشبه بيقظة نخبة حية تجسد روح مجتمع يطمح لعيش أفضل، لذلك نجحت “الصحيفة” و”لوجورنال” مثلا، لأنها كانت تعبيرا عن لحظة انتقال، عن طموح نخب في التغيير، قدرنا الجميل هو أننا جئنا في الزمن المناسب وقمنا بما كانت تفرضه اللحظة الإعلامية الجديدة في زرع الثقة في أن مغربا آخر ممكنا بتنسيق وتعاون مع كل الإرادات الحية في الوطن. لا يمكن أن نسند لأنفسنا أدوارا بطولية، كنا صحافيين تربينا في صحف الأحزاب الوطنية وجمعياتها، وتكونا على نماذج منيرة في الساحة الإعلامية ولم نكن سوى ناطقين بهذا الطموح المغربي الجماعي، فأصبحنا مثل السمك الذي احتضنته نخب متعطشة للتغيير ومجتمع غير مغامر يطمح في الحق في الكرامة والتنمية، وسبب نجاحنا هو صدقنا ومهنيتنا حتى في أشد لحظات اندفاعنا، أما الأسرار الداخلية فأعتبر أنها ملك لكل من عبروا هذه التجربة الإعلامية للتعبير عنها بالشكل الذي يرتؤون، لا أميل إلى القراءات الاختزالية ولا الخطابات التآمرية لأولئك الذين لم تكفهم عشرون سنة لينضجوا أكثر، أو لمن لا يزال سجين الحساب بأعواد الثقاب، هذه تجربة كبرى لا تنفع معها حكايات الذين لم يشبّوا عن الطوق بعد، ومازالوا يحكون عن تجربة “الصحيفة” و”لوجورنال” مثلا، كما في المقاهي والحانات.. كل الذين عبروا هذه الجرائد كانوا مثل موجة أغنت زخم بحر الصحافة المستقلة بالمغرب، لقد عبرت عن هذا الوعي في أول افتتاحية لي عام 2001 حين تحملت مسؤولية رئاسة تحرير “الصحيفة”، تحت عنوان “الاختلاف السعيد والاختلاف الشقي”.. لقد كنا نختبر ممارسة الحرية وكانت السلطة الجديدة تتعلم أيضا حدود ضبط مجالها.
إن تجارب الصحف المميزة كما يقول محمد حسنين هيكل لا تصدر وتنتشر تعبيرا عن الآراء والرغبات الذاتية لمحرريها، وإنما تصدر وتنتشر عندما تعبر عن آراء ومصالح أوسع وأكبر لقوى وتيارات اجتماعية، وحرية الصحافة تتأكد حين تكون الآراء والمصالح التي تعبر عنها أي صحيفة قادرة على حماية حقها في التعبير عن نفسها. وهو ما يسمح بخلق إمكانية تنوع الآراء تعبيرا عن تعدد القوى.
بتجربتك الطويلة والزخمة كيف تقرأ الوضع الإعلامي في المغرب؟
أعتقد أننا لسنا استثناء ضمن باقي خلق الله ممن يشبهوننا، هناك ما يشبه الانهيار العام، أو هو تحول لم نضبط بعد بوصلته، أو ربما أن المفاهيم واللغة التي كنا نصف بها الوضع الإعلامي لم تعد تملك كفاية منهجية لوصف ما نعيشه اليوم في زمن اللايقين.
ما يؤلمني هو تجربة التنظيم الذاتي للمهنة التي أتمنى من كل قلبي أن تنجح في الانتقال نحو نضج وديمقراطية أكبر، بدل تصورين سادا التجربة الأولى: تصور تبسيطي يبخس الكل وتصور انتهازي يتعامل مع المجلس الوطني للصحافة كتعويض وكمنصب ريعي، وهناك أيضا جانب التسطيح في معالجة القضايا والأحداث، لقد كثرت المنابر والميكروفونات وقل الصحافيون المهنيون في زمن الصحافي المهني المُبَطَّق، لكن لا يمكن تحميل الصحافيين وحدهم مسؤولية هذا الاندحار، الصحافة مجرد مرآة تعكس ما يوجد في المجتمع، لذا فإن اندحار الصحافة هو في جزء كبير منه انعكاس تلقائي وطبيعي لانهيار السياسة والقيم والوسائط ولغياب المعنى، لذلك أقول لكل من له يد في تدني الإعلام، احذروا، لا أحد يسكن بيتا بلا مرآة، والصحافة هي مرآة المجتمع.
فلتكسروا كل المرايا ولاحظوا كيف ستخرجون بسحناتكم على الناس، ولا أحتاج لتذكيركم بحكاية “الإمبراطور العاري”، وهي على كل حال حكاية مغربية وليست أوروبية الأصل.
كيف يمكن ربط تدني المستوى المهني للإعلام بالسياسة، هل تقصد انهيار الصحافة الحزبية؟
لا أبدا، الصحافة الحزبية مرحلة في عمر المشهد الصحافي الوطني، لها مالها وعليها ما عليها، لا يجب أن نتحدث في الصحافة المستقلة كلقطاء، كما لو نبتنا في أرض خالية، فنحن تتلمذنا على آباء الصحافة الحزبية ورموزها المشرقة، ونشرنا أولى تجاربنا أو أعمالنا في هذه الصحافة التي ساهمت في تكويننا، نحن لم نقطر من السقف أو نبتنا مثل الفطر، علينا أن نذكر بافتخار قاسم الزهيري والعربي المساري وعبد الجبار السحيمي ومحمد باهي وعبد الكريم غلاب وعبد الرفيع الجواهري ومحمد الأشعري وغيرهم كثيرون… ولكن قصدت أن سمو الفعل ونضج باقي الفاعلين في المجتمع المدني أو النقابات أو الأحزاب أو البرلمان أو مختلف المجالس المنتخبة يكون له تأثير كبير على قيمة ما يُتداول في الصحافة، والعكس صحيح.. زد على ذلك أن الروافد التي يأتي منها الصحافي اليوم أصابها الكثير من الضعف، خاصة مجال التعليم.
هل يمكن التدليل بأمثلة لتقريب القراء من فكرتك أكثر؟
سأعطيك مثالا بالأمس كنت أجلس مع الفقيه البصري أو الجابري أو بوسته أو إسماعيل العلوي أو اليوسفي أو علي يعته وأحمد لحليمي ومحمد الخليفة أو عبد الإله بن كيران أو حتى من اليمين مع العلوي المحمدي وعبد الواحد معاش دون الحديث عن باقي مكونات اليسار أمثال محمد الساسي وأحمد بن جلون… وغيرهم، فتجد أن تصريحاتهم لها سحر الغواية وتفتح لك مسارب جديدة في التحليل، إضافة إلى قياديين من الدرجة الثانية أو الثالثة غالبا ما يكونون هم مصادر الأخبار الأساسية، فإنك لا تبدل جهدا كبيرا في إعادة صياغتها، اليوم، ليس هناك غير السب والقذف وغياب عمق التحليل لدى الفاعل السياسي أو سطحية ما يدلي به، مع بعض الاستثناءات النادرة جدا من فاعلين سليلي أحزاب الحركة الوطنية واليسار خاصة، قس على ذلك جانب البرلمانيين والوزراء والفاعلين الاقتصاديين والمدنيين والنقابيين ومتزعمي موضة مراكز البحث ومقترفي التحليل الاستراتيجي والتينكتانك أو مراكز التفكير المفترى عليها وأصحاب الفدلكات اللغوية “البايخة” الذين يقولون الشيء ونقيضه… كيف تريدون أن يكون لدينا صحافيون كبار مهنيون إذا كان من يزودهم بالمادة الحيوية بسيطا وساذجا وبلا تكوين ولا خلفية فكرية..
لكن لا يمكن أن نربط بين ضعف الصحافة وضعف المشهد السياسي بشكل سببي؟
ليس بشكل ميكانيكي، هناك ضعف عام في السياسة عالميا، انظر من يحكم العالم اليوم، الشعبويون واليمينيون المتطرفون والاقتصاديون الجشعون، من أمثال ترامب وجونسون وبرلسكوني وماكرون وغيرهم، مضى عهد الكبار من القادة من دوغول حتى شيراك، من تشرشل حتى إليزابيت، ومن جمال عبد الناصر وبورقيبة والحسن الثاني وياسر عرفات، خذ في المغرب مثلا، مررنا من الزعماء الكبار علال الفاسي، بن بركة وبلحسن الوزاني وبلافريج وبوعبيد وبوسته ويعته إلى الاقتصاديين وأصحاب الشكارة والشعبويين ومن سقطوا بلا مظلات في المشهد السياسي مسنودين بالشعبوية أو بالمال فقط، بلا فكر ولا رؤية ولا تكوين، أو اعتمادا على خلق الفرجة في ظل هيمنة وسائط التواصل الاجتماعي.
كان الفعل السياسي مسنودا بالفكر والفن بالإضافة إلى بعد صوفي راق، من القادة الكبار والزعماء المؤثرين في مسارات التاريخ، أما اليوم فالاختزال والتبسيط والشعبوية والتسطيح وهيمنة المال الذي تحول إلى قيمة، هو ما يتحكم في ساستنا، كان لدينا ساسة صوفيون، ليس السؤال ما إن كانوا على خطأ أو صواب.. ذاك جواب يتكفل به التاريخ، ولكن كان يقودهم نبل قضيتهم الكبرى التي وهبوا لها أنفسهم واكتوى أغلبهم بنارها، ولم يكن همهم المناصب والثروات، بدليل أن أغلبهم مات فقيرا.
هل يفتقر ساستنا وفاعلونا اليوم للرؤية والفكر؟
أي قضية تشغل بال معظم ساستنا اليوم خارج الغزوات التنظيمية وإقصاء منافسيهم وسبل إدامة بقائهم في مناصبهم ومراكمة الثروة، هؤلاء هم منتجو الحدث ومصدر معلومات الصحافيين، في الأحزاب والنقابات والمنظمات المهنية والحقوقية والمدنية والاقتصادية وفي الحكومة والبرلمان وباقي المجالس المنتخبة، عليك أن تتصور كيف يقدمون ما ينتجون لوسيط الرأي العام، ومع شكل الصحافيين اليوم الذين يتبعون قانون الجهد الأقل والذين أغلبهم بدون تكوين ولا عمق فكري ولا سياسي إلا من رحم ربك، ومع التركيز على ما يستقطب التفاعل من الجمهور أكثر من البحث عن الحقيقة بحكم القواعد الجديدة التي فرضتها لوغاريتميات العالم الرقمي.. لذلك أؤكد أن ضعف الصحافة بالمغرب وما تعرفه من تشوهات يعود في جزء كبير لضعف باقي الفاعلين ولطبيعة التحولات الكبرى التي مست المغرب. وهنا لا يمكن أن أعمم، هناك استثناءات على قلتها تبدو مثل اليراعات التي تنير عتمة مشهدنا الإعلامي.
ما المدخل في تقديرك للخروج من هذا الوضع؟
ليست لدى أي واحد منا عصا سحرية، نحن نعيش زمن اللايقين وسرعة تبدل استثنائية، في تقديري لا بد من فهم الإشكالات المركزية للمشهد الإعلامي وتحديد الأولويات خارج أسئلة الدعم وأجور الصحافيين، هذه سياسات ترقيعية لدرجة أصبح الصحافيون غير مطمئنين لاستقرارهم الاجتماعي، لا بد من حوار مجتمعي حول الصحافة التي يستحقها المغاربة، وأن يصبح الإعلام أولوية في أجندة المسؤولين عن السياسات العمومية والحقوقيين والمثقفين.
هناك أسئلة جديدة تتناسل بيننا بشكل مستمر تطرح تحديات على الصحافة تكوينا وممارسة، بالإضافة إلى بعد التنشئة الإعلامية غير المفكر فيها بالنسبة للأجيال القادمة، حتى أخلاقيات المهنة كما ورثناها في الصحافة المكتوبة والإعلام السمعي البصري، تواجه تحديات عميقة مختلف في تقدير الأجوبة الملائمة لها حتى في التجارب الإعلامية الدولية الباذخة..
المصدر: وكالات