الذي يروي القصة كما سمعها من شهود عيان هو جيمس ڭراي جاكسون James Grey Jackson. أقام بالمغرب ستة عشر عامًا كتاجر بريطاني في مدينة موڭادور أو الصويرة الحالية. وذلك في الفترة الممتدة من نهاية القرن الثامن عشر إلى بداية القرن التاسع عشر. وقد صادف مقامه هناك العهود المتتالية لكل من سيدي محمد بن عبد الله ومولاي يزيد ومولاي سليمان. تاريخ ميلاده ووفاته غير معروف بدقة.
خلال مقامه بالمغرب قام في البداية بجمع العديد من الروايات عن البلاد عن طريق باقي زملائه من التجار وعن الرحالة. جمعها فقط كمذكرات لاستخدامها الشخصي. لكن بعد رجوعه النهائي إلى إنجلترا جمعها في كتاب نشره بلغته الإنجليزية سنة 1809 تحت عنوان An Account of Morocco and the District of Suse أو تقرير عن المغرب وإقليم سوس. وأعيد طبعه عدة مرات خلال العقد التالي، وتُرجم إلى الفرنسية ونُشر في باريس عام 1824. وهو الكتاب الذي روى فيه قصة حكم سيدي محمد بن عبد الله بالقصاص في حق تاجر بريطاني. رواها في معرض حديثه عن القضاء بالمغرب. فماذا عن تفاصيلها؟
بدأ القصة بقوله إنه كانت هناك معاهدات سلام بين سلاطين المغرب والعديد من القوى الأوروبية، ومن بينها بريطانيا. والغرض من إحدى بنود تلك المعاهدات كان دائما هو حماية الرعايا الأجانب. هكذا إذا ما ارتكب مواطن إنجليزي جريمة معينة في الإمبراطورية (كما كان يُعرف المغرب في أوروبا) فلا يخضع لأحكام القانون المحمدي (بدلا من الإسلامي)، بل يحاكم بموجب القانون الخاص ببلده. فينبغي تسليمه إلى القنصل حتى تُصفى قضيته بالتراضي بين الطرفين. لكن خلافا لذلك، يقول جاكسون، العديد من التقارير قد ذهبت إلى الخارج فيما يتعلق بالسيد لايتون التاجر البريطاني في موڭادور، الذي تم اقتلاع سنين من أسنانه بأمر من الإمبراطور سيدي محمد بن عبد الله كقصاص في قضية بينه وبين امرأة مغربية. فمن المُهم، يضيف جاكسون، عرض تفاصيل هذه الواقعة في إطارها الحقيقي.
قال إن السيد لايتون قد كان الشريك الأول في شركة تجارية محترمة وذات رأس مال كبير بميناء موڭادور. وكان الشريكان الآخران فرنسيين. وقد تم إخطارهما رسميًا بأن ملك فرنسا (إذا قبل الثورة) قد قطع جميع العلاقات مع المغرب. الأمر الذي اضطر معه التجار الفرنسيون إلى الخيار بين مغادرة البلاد أو البحث عن حماية أخرى. ومع انتشار معاملات تلك الشركة في جميع أنحاء المغرب صعب على الشريكين الفرنسيين الرحيل المفاجئ والتخلي عن مصالحهما. فاقترحا على شريكهما الإنجليزي أن يسجل الشركة باسمه لوحده. تلك كانت حيلة حتى تصبح مصالحهما محمية في شركة إنجليزية محضة.
وبعد ظهر أحد الأيام، خرج الشركاء الثلاثة للصيد على ظهور الخيل برفقة كاتب، ومعهم كلاب سلوقية في ملكية الشريك الإنجليزي السيد لايتون. وفي طريق العودة إلى موڭادور هاجم أحد الكلاب عجلًا في ملك أحد أهالي قرية مجاورة. فأطلق “الشلْحْ” (هكذا سمى جاكسون ساكن منطقة الصويرة) صاحب العجل النار على الكلب. فتلا ذلك اشتباك. وسرعان ما اندلعت ضجة في القرية. وأثناء العراك شوهدت نساء “الشلوح” يرجمن الصيادين الثلاثة بالحجارة. فأصيب أحد الفرنسيين برضوض شديدة. كما تبادل معهم السيد لايتون الركل عدة مرات. ولما عاد إلى موڭادور قدّم على الفور شكوى إلى الحاكم الذي وعده بتحقيق العدالة.
ونتيجة لذلك تم استدعاء باقي الأطراف الذين أصروا من جانبهم على تحقيق العدالة لهم، مدعين أن لايتون كسر سنيْن لامرأة، متوسلين الإمبراطور بالله وبرسوله كي ينصفهم. فأجبر هذا النداء الحاكم على الكتابة إلى سيده بمراكش، وأمر جميع الأطراف بالذهاب إلى هناك. وفيها تم إحضار شهود ضد السيد لايتون الذين قالوا إنه كسر سنين من أسنان المرأة بمؤخرة سوطه السميكة. فاضطر الإمبراطور إلى إصدار أمر بخلع اثنين من أسنانه كقصاص منه لفقدان السيدة لسنيها. ومع ذلك لم يبد ميالًا لتنفيذ الحكم، يحكي جاكسون. لكن الناس الذين تجمعوا بأعداد كبيرة في هذه المناسبة غير العادية هتفوا بصوت عال مطالبين بتنفيذ حكم القصاص في حق الجاني. ولما لوحظ أن بريطانيا أهملت الدفاع عن مواطنها صار يُقال فيما بين المغاربة إذا الدول الأوروبية لم تكلف نفسها عناء حماية رعاياها فلماذا نحميهم نحن؟
وعندما اقترب الجلاد من السيد لايتون طلب منه إزالة اثنين من أسنانه الخلفية بدلاً من سنين أماميين. الأمر الذي تطلب موافقة الإمبراطور. ولما كان جلالة السلطان معجبا بالشجاعة التي تحلى بها السيد لايتون من أجل الخضوع للعملية، يحكي جاكسون، وافق على طلبه واعتذر له في اليوم التالي. وأفهمه أنه لم يكن بوسعه تفادي الأمر بتنفيذ حكم القانون، لأنه كان من الضروري تهدئة غضب الناس. ووعده بأن يمنحه أي امتياز يطلبه منه. فطلب لايتون الإذن بتحميل وتصدير شحنة قمح. فما كان من الإمبراطور إلا أن استجاب لطلبه. “وأعتقد أنها كانت شحنة معفاة من أداء الرسوم الجمركية”، يقول جاكسون.
وأضاف أن الإمبراطور قدم خدمات مماثلة إلى السيد لايتون وأبلغه بأنه يرغب في أن يتم تعيينه قنصلًا بريطانيًا، لكنه رفض. ومع ذلك، كرر الإمبراطور هذه الرغبة له في كثير من الأحيان، مشيدا بمزايا التفاوض مع شخص يمكنه التحدث معه بلغته الخاصة. ووعده، في حال ما صار قنصلا بأن يمنح بلاده كل الامتيازات التي ترغب فيها. وبما أن لايتون لم يحظ بدعم بلاده من بعد الإساءة التي تعرض لها، أو لأي سبب آخر، ارتأى أن يرفض تلك المبادرات المتكررة من سيدي محمد.
ونقول من جهتنا إننا نعتقد أن كل ما جاء في الفقرة الأخيرة من تنازلات السلطان عن كبريائه لترضية الجاني يصعب تصديقها، وإنها كانت على الأرجح مجرد أماني الذين حكوها من الأوروبيين والذين كانوا يتمنون أن تكون حقائق تصون كبرياءهم المجروح بسبب القصاص الذي طال أحدهم. وما عدا ذلك، ففي مثل هذه القصص فوائد بخصوص معالم العلاقات التجارية بين المغرب وأوروبا، وبخصوص بعض من أحوال مقام التجار الأجانب في البلاد وبعض من طبيعة العلاقة بينهم وبين السلطات والأهالي.
المصدر: وكالات