“وخا تديني لميريكان، مغديش نخرج من بلادي”؛ هذا هو رد عمر (ثلاثيني) من ساكنة دوار آيت عثمان المتضرر من الزلزال عند سماعه اقتراح مغادرة قريته نحو مدن أخرى أو قرى نموذجية قصد النجاة من خطر المطر.
الدوار الواقع بجماعة أكوز بإقليم أمزميز المنكوب، بقي منه الاسم فقط وساكنته التي ما تزال مصرة على العيش على ترابه ولو كانت منازلها من الماضي، والخراب المحيط بها حاضرها المؤلم، ومطر السماء خطرا مستقبليا يحوم حولها.
ينقسم آيث عثمان إلى ستة أحياء: أكرضة، تاوريرت، أفوسة، إغري يحيى، وتوخو، تجمعها جميعا الروابط العائلية والمعاملات التي تنبني أساسا على مقايضة المنتوجات الفلاحية التي تشكل العمود الأساسي لفكرة البقاء وسط الخطر لدى الساكنة.
الفلاحة
“هاته مزرعة منزلي، لا يمكن أن أغادرها، أشم في هذا المكان رائحة بلادي وأحس بها في كل مرة ألج باحته”؛ هاته كلمات عبد الله (ثلاثيني) الذي أصبح منزله مجرد ذكرى كما هو حال ابنيه الاثنين، والذي يرفض بشكل قاطع فكرة مغادرة “تراب الأجداد” على الرغم من خطورة الأوضاع.
يفسر عبد الله فكرته لهسبريس بالقول: “هنا نحس بالانتماء، هو شعور يصعب وصفه، إذ لا يمكننا تخيل فكرة الذهاب إلى مكان آخر ولو كان قريبا من دوارنا، نحن لا نستطيع فراقه أبدا”.
تعيش الساكنة بالأساس على زراعة الخضر، ففي كل منزل تجد مزرعة في محيطه أو في خلفيته، ومع الزلزال دمِّر كل شيء، حتى المخزون لفصل الشتاء الذي تعبت سواعد رجال آيت عثمان من أجل توفيره.
عند مدخل حي “إغري يحيى” تظهر خيام الساكنة في صفين، صف خاص بالنساء، وآخر للرجال حيث قابلنا عمر الذي بسط موقف الساكنة من فكرة الرحيل قائلا: “حتى لو رحلنا إلى مدينة مراكش الآمنة، فلن نستطيع فعل شيء في حياتنا، نحن أبناء فلاحين، وأجدادنا تزاوجوا مع الأرض منذ عقود، وسنبقى على هذا المنوال إلى الأبد”.
“وخا تعطيني فيلا فلمدينة، وخا تديني لباريس ولى ماريكان، ميمكنش نعيش خارج بلادي”، يضيف المتحدث بنبرة انفعالية، مبينا أن “هويتنا توجد في آيت عثمان، والخروج من هنا يعني فقداننا لهويتنا بشكل كامل”.
تتخوف الساكنة من فقدان الأصل وأزمنة اللمة السعيدة وأوقات التضامن والمساعدة والإخاء في الصعوبات، وهي ذكريات ما تزال محفورة في الأذهان، بعضها ما يزال متجسدا على أرض الواقع، إذ تعرف المناطق الآمنة من حي “إغري يحيى” تجمعات الرجال للحديث والترفيه كما كان الحال قبل الزلزال.
أحد هؤلاء، يسمى بريك (سبعيني)، يرى أن “الخروج من الدوار أمر مستحيل، وغير مقبول تماما”، قائلا: “نحن مرتبطون بأرضنا، نزرع أغذيتنا، ونقايض بين أحيائنا، وهي أجواء لن نجدها في أرض أخرى”.
“نطالب السلطات بأن تمد يد العون لنا من أجل إعادة بناء دوارنا”، وعند مقاطعته من أجل استفساره حول خطر الأمطار المرتقبة، أجاب: “المطر عدو قديم نعرف كيف نتعامل معه تحت منازلنا، وحاليا في الخيام، سنترك الأمر بيد الله”.
غير أن صوت رجال آيت عثمان يعارضه موقف كبيرهم، وهو الحسين بونعيم (أزيد من 90 سنة)، الذي نجا بأعجوبة من الزلزال، إذ أتى على منزله بالكامل عدا بيته.
يقول بونعيم لهسبريس: “الذهاب إلى مكان آخر أمر محتمل جدا، خاصة وأن جسمي لم يعد قادرا على العيش وسط هاته الطبيعة القاسية للغاية”.
“كان الدوار في زمن قديم أحسن من المدينة، التي لم نكن نزورها إلا لماما وفور عودتنا نحس بالفرح والأمان، وهو إحساس جميل، لكن نظرا لصحتي الآن، ومع هذا الزلزال القوي، لم أعد قادرا على المواصلة هنا”، يضيف جد دوار آيت عثمان.
روابط المحبة
في الخيمة المقابلة، تبدو نساء آيت عثمان أكثر “هما” حول المستقبل، إذ يبقى الجواب حول مسألة الرحيل واضحا، وهو: “لا يمكن أبدا مغادرة هاته الأرض، على الرغم من إحساسنا بالقلق المستمر جراء خراب بيوتنا”.
مينة أضرضور، إحدى هؤلاء النسوة اللواتي يحرصن على عملية إعداد الطبخ لفائدة ساكنة الدوار، صرحت لهسبريس بأن “آيت عثمان يعرف لحظات يصعب تعويضها في أي مكان، ففترة العطل التي يأتي فيها أبناؤنا من المدن لزيارتنا هي من اللحظات التي تدخل على قلبي فرحا عظيما ينسيني هم جمع المحصول لفترة الشتاء”.
لا يقف الأمر على الفلاحة كما اتضح، فساكنة آيت عثمان “متحدة”، وتخلق بين أحيائها لحظات فرح من العدم، وهو ما عبر عنه لحسن (أربعيني)، بالقول: “في عيد الأضحى مثلا نحرص على أن تتوفر كل أسرة بدون استثناء على أضحيتها، فلا يمكن للعيد بيننا أن يمر بلا فرحة جماعية”.
وعن أسباب استحالة مغادره الساكنة أرضها، قال المتحدث لهسبريس: “في نهاية كل أسبوع، يحرص رجل كل أسرة على إقامة وليمة لجميع رجال الدوار، أما النساء فيجتمعن في بيت إحداهن من أجل الحديث عن آخر مستجدات الدوار والأشغال المنزلية”.
مساندة المحتاجين والراغبين في السفر إلى المدن الكبرى من أجل البحث عن العمل، هي أيضا من الأشياء التي توحد أبناء آيت عثمان، وهو الحال لدى إبراهيم (عشريني) الذي يعمل حاليا ميكانيكيا في وجدة بفضل مساعدات مالية من الساكنة.
يقول إبراهيم: “في تلك الليلة التي سأسافر فيها خارج الدوار، قدم لي الجميع مبلغا ماليا، ومن لم يقدر أعطاني طعاما، وبعضهم نصائح ذهبية، واليوم أعود لأرى الدمار وأشهد على فقداني أفرادا من عائلتي، وهذا الأمر يزيد من تشبتي بأرضي الأبدية”.
“حتى لو قررنا المغادرة، لن نستطيع فعل شيء في المدن أو المناطق الأخرى سوى التسول والبقاء عاطلين، نحن فلاحون ونفتخر بذلك، والزراعة داخل بيوتنا مصدر راحتنا”، يضيف المتحدث.
لا أحد يعلم الغيب
وأنت تشاهد حجم الدمار الذي حصل في هذا الدوار، تستغرب أسباب حرص الساكنة على البقاء في هذا الخطر، خاصة مع احتمال قدوم دمار جديد بحلول المطر، وهو ما تجيب عنه الساكنة من جديد بالقول: “لا أحد يعلم الغيب. المطر وغيره من المخاطر كنا نتخوف منه منذ القدم حتى قبل الزلزال، كما أننا مستعدون لأي احتمال، ما نريده حاليا هو مسكن لائق”.
لا ترغب الساكنة في منزل فقط، بل ترى أن هاته الفاجعة “مناسبة لتأهيل المنطقة بشكل كامل، من خلال مدارس وثانويات ومستشفيات”، ولول أنها أحلام بعيدة المنال في الوقت الحالي.
شمالا يظهر حي “أفوسة” الذي يتاخم الحقول، أو ما تسميه الساكنة بـ “تيبحيرين”، ومن خلاله تظهر دواوير أخرى لا يبدو أنها تعاكس رغبة آيت عثمان في مغادرة هاته الأرض الساحرة، سواء غروبا أو شروقا، ليلا أو نهارا، ولو كلف ذلك “مواجهة ساخنة” مع زخات المطر.
المصدر: وكالات