بعد سنوات من “شبه استقرار سياسي” عرفته عدد من الدول الإفريقية، وسط محاولات لتوطين الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وإرساء قواعد اللعب الديمقراطي النظيف، يعود من جديد “وباء الانقلابات العسكرية” ليبعثر الأوراق السياسية في القارة السمراء، التي أنهكها الفقر والصراعات الداخلية، رغم الموارد الطبيعية الهائلة التي تنام عليها الشعوب الإفريقية.
انقلاب يجر الآخر، هكذا يبدو المشهد اليوم في إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء على وجه الخصوص، حيث خرج الجنود من ثكناتهم ليتصدروا المشهد، وليرسموا معالم “الانتقال السياسي المأمول”. من تشاد إلى غينيا ومالي فالنيجر، وصولا إلى الغابون، تستمر الانقلابات العسكرية بوتيرة متلاحقة تسائل الأسباب المُفسرة لـ”تهافت الجيش على السلطة”، والمآلات المستقبلية لهذا الوضع في ظل التنافس والصراع الدوليين المحمومين حول هذا المجال الجغرافي.
فراغ مؤسساتي وغضب شعبي
البراق شادي عبد السلام، خبير دولي في إدارة الأزمات وتدبير المخاطر وتحليل الصراع، قال إن “القارة الإفريقية من أكثر المناطق في العالم التي تعرف انهيارا لمنظومتها الأمنية والعسكرية والاقتصادية، نتيجة العديد من التطورات والتحولات الناجمة عن الفراغ المؤسساتي الذي تخلفه الحروب الأهلية وتسيد الجماعات الإرهابية والمنظمات الإجرامية العابرة للحدود، إضافة إلى توطن الحركات الانفصالية في المناطق الفاشلة أمنيا”.
وأضاف البراق أن “القارة الإفريقية اجتمعت فيها الكثير من العناصر التي تؤثر على المسارات التنموية واستقرار المجتمعات المحلية”، مبرزا أن “هذا الوضع هو نتيجة حتمية لمجموعة من العوامل متعددة الأبعاد، أهمها فشل أو إفشال الدول المستقلة عن الاستعمار في تأسيس بنيات وظيفية قوية تؤهلها لممارسة دورها الكامل كدول ذات سيادة، وبالتالي تنامي ظاهرة الانقلابات العسكرية والإرهاب واستفحال الجريمة”.
ولفت المتحدث عينه إلى أن “إفريقيا وبشكل خاص منطقة الساحل والصحراء تشهد حالة استقطاب حاد وصراع جيو-إستراتيجي مرتفع الترددات بين القوى العالمية والإقليمية، بسبب مصالح لها ارتباط بالوضع العالمي، ما يحولها إلى ملتقى دولي تتقاطع فيه المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية، وحلبة مفتوحة لتنافس المحاور والقوى العالمية، خاصة أن المنطقة أصبحت لها أهمية كبرى في ظل بروز بوادر تشكل نظام عالمي جديد مُغاير لما أفرزته مرحلة ما بعد الحرب الباردة”.
في الصدد ذاته أوضح البراق أن “البيئة الاقتصادية والأمنية الهشة، إضافة إلى التدخلات الأجنبية في هذه المنطقة، كلها عوامل تؤثر على الديناميكيات السياسية المحلية، وتزيد من التوترات وعدم الاستقرار السياسي الذي يُترجمه تواتر الانقلابات”، مضيفا أن “عدم احترام المواثيق الديمقراطية ولجوء الحكام المدنيين إلى تمديد فترات حكمهم بشكل غير ديمقراطي يٌعزز أيضًا الغضب الشعبي، ويؤدي إلى البحث عن وسائل أخرى لإحداث التغيير السياسي، ويزيد من احتمالية حدوث الانقلابات العسكرية كوسيلة للشعب للمطالبة بالتغيير”.
وخلص المصرح لهسبريس إلى أنه “رغم تعدد الأسباب إلا أنه لا يمكن تعزيز الاستقرار والتنمية المستدامة في القارة الإفريقية من خلال الانقلابات العسكرية، ذلك أن بناء مؤسسات ديمقراطية قوية واحترام حقوق الإنسان وتعزيز الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة هي فواعل أساسية لتحقيق الاستقرار في هذه القارة”.
تنافس دولي وإعادة إنتاج
من جهته، قال محمد عطيف، باحث في العلاقات الدولية، إن “تفشي وباء الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل والصحراء راجع إلى الضعف السياسي والاقتصادي لدول هذه المنطقة”، مشيرا إلى أن “التنافس الدولي حول هذه المنطقة، لاسيما بين كل من روسيا والصين، من جهة، والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا من جهة أخرى، يُساهم بشكل كبير في توالي الانقلابات العسكرية كوسيلة لتحييد نفوذ هذه الدولة أو تلك من هذه المنطقة، في إطار التدافع الجيو-سياسي بين القوى الدولية سالفة الذكر”.
وأضاف عطيف أن “تباين أجندات الدول الكبرى وخلافاتها السياسية في عدد من مناطق الساحة الدولية، على غرار الحرب في أوكرانيا، ألقى بظلاله على منطقة الساحل والصحراء التي أضحت مجالا للتطاحن الدولي حول النفوذ”، موضحا أن “تراجع النفوذ الفرنسي في المنطقة أفسح المجال لكل من الصين وروسيا لإيجاد موطأ قدم لهما في هذا المجال الجغرافي الغني بالموارد والثروات الطبيعية التي تحتاجها كل الدول”.
ولفت المتحدث عينه إلى أن “الصدام والتنافس الدوليين حول المصالح الإستراتيجية في القارة الإفريقية، إضافة إلى تواجد عدد من القواعد العسكرية الأجنبية في هذه المنطقة، وفي ظل الانقلابات العسكرية الحالية وضبابية المشهد السياسي والأمني، يُقوي من التواجد الأجنبي فيها بمبررات إحلال الأمن والاستقرار، ويضفي المزيد من الشرعية على تحركات القوى الكبرى في هذه المنطقة الساخنة”.
وسجل المحلل ذاته أن “استقواء الأنظمة العسكرية حديثة الوصول إلى السلطة بدول أو بتنظيمات أجنبية لمواجهة نفوذ دول أخرى، أو تلافي تدخلات عسكرية قد تطيح بها، لا يخدم الأمن والاستقرار في هذه المنطقة، وإنما يعيد إنتاج نماذج الحكم السابقة، واللعبة الاستعمارية نفسها التي طالما رفضتها الشعوب الإفريقية التي تسعى إلى تحقيق استقلالية قرارها السيادي؛ في حين أن هذه الوضعية إنما تُكرس وتُشرعن التدخل الأجنبي في شؤون الدول الإفريقية”.
وخلص الباحث في العلاقات الدولية، في تصريحه لهسبريس، إلى أن “بناء دول وأنظمة ديمقراطية في القارة الإفريقية عموما، وفي منطقة الساحل والصحراء على وجه الخصوص، لا يمكن أن يتم بمعزل عن إرساء أسس ومؤسسات الدولة الحديثة، على أساس مبدأ تداولية السلطة، إضافة إلى تعزيز التعاون والتنسيق الإقليميين، بما يخدم مصالح شعوب القارة السمراء وتحقيق تطلعاتها نحو التنمية والديمقراطية ومواجهة التحديات المشتركة”.
المصدر: وكالات