حاولت المحاضرات المعرفية التي احتضنتها أكاديمية المملكة المغربية، الخميس، على هامش مناظرة “العلوم الإنسانية والاجتماعية: رهانات وآفاق”، أن تبحث في سبل التعاون بين العلوم الإنسانية والاجتماعية وبقية العلوم الأخرى، سواء التداخل بين العلوم الشرعية والإنسانية والاجتماعية أو الأخيرة في تداخلها مع العلوم الطبيعية، في وقت يعرف العالم تحوّلات ناجمة عن التغيرات المناخية، التي أبرزت أن “العنصر البيئي” يستدعي أن تعيد فيه العلوم الإنسانية النظر وتستدمجه.
وركزت المداخلات، التي انطلقت من نزعة أكاديمية خالصة، على ضرورة التفكير في مداخل لهذه العلوم في المستقبل، بفعل الحاجة التي صارت ملحة إلى وضع تحديثات في التعاطي مع العلوم الإنسانية بالمغرب وتعميق البحث فيها، استحضارا لمختلف التوصيات والمفاهيم التي جرت مناقشتها على هامش هذه الندوة، خلال يومي 7 و8 فبراير؛ وذلك ضماناً لتجويد هذه العلوم أكثر وضمان مساهمتها في استئناف المسار الأكاديمي للمغرب وضمان تقويته.
نحو تصور تاريخي
المؤرخ وعضو أكاديمية المملكة المغربية عبد الأحد السبتي ألح في محاضرته على ضرورة إعادة النظر في التصور الذي ينظر من خلاله المؤرخ والباحث للبيئة، وأن تتداخل العلوم الإنسانية في علاقتها بالعلوم الطبيعية وتضمن نوعا من التعاون، خصوصا في ما يتصل بظواهر المناخ التي يبدو أنه لا رجعة فيها، مؤكدا أن “المؤرخين تعاملوا مع البيئة على أنها خلفية صامتة وسلبية؛ وكان يعتقد أن التاريخ البشري، من حيث علاقته ببيئته الطبيعية، كان شبه ثابت”.
وأبرز الأكاديمي المغربي أنه “اتضح لاحقا أن المناخ، ومن ثم البيئة عموما، يمكن أن يبصل أحيانا إلى نقطة تحول تتبدل معها هذه الخلفيات البطيئة التي تبدو مزمنة، لكن بسرعة لا يمكن إلا أن تعلن عن كوارث بالنسبة للإنسان”، مركزا على ما تعرف بحقبة التأثير البشري، أو “لأنثروبوسين”، الذي هو مفهوم متعدد التخصصات يشمل العلوم الطبيعية، كالجيولوجيا وعلم المناخ وعلم السيرة والبيئة، والعلوم الإنسانية، مثل التاريخ البيئي وتاريخ العلوم والتكنولوجيا والجغرافيا والفلسفة”.
وأضاف السبتي إلى هذه القائمة المعروفة عنصر الأدب؛ “ففي المجال الأدبي هناك تيار حاسم يسمى النقد البيئي، أي استثمار الخيال لرفع الوعي بهذه المشاكل المحيطة بالإنسانية”، مستحضرا “رواية جميلة جدا للروائي المغربي محمد الأشعري، بعنوان [من خشب وطين]، تعبّر عن حساسية بيئية داخل جو رائع”، وكشف أن “الانقسام الذي حدث في التقسيم بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية يستدعي تصورا جديدا”.
ولفت الأكاديمي المغربي، ضمن محاضرته المعنونة بـ”مقاربات للزمن التاريخي: من بروديل إلى عصر الأنثروبسين”، التي قال عنها جوابا عن أسئلة الحضور إنها خارج تخصصه، لكنه اجتهد ليحرّك التفكير للمزيد من البحث في الموضوع، (لفت) إلى أن “النظام التاريخي الجديد يتسم بالترابط بين تاريخ الكوكب وتاريخ الحياة على الكوكب وتاريخ العالم الذي يطيع منطق الإمبراطوريات ورأس المال والتكنولوجيا”، معتبرا أنه “حان الوقت لننظر للأمر بشكل مختلف”.
في الأخلاق والعلوم
وبعد عرض السبتي، تناول الكلمة ساري حنفي، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية ببيروت، ليلقي محاضرته حول التفاعل بين علوم الشرع والعلوم الاجتماعية. وأكد الباحث أنه انطلاقا من دراسات كثيرة أجراها بالعديد من الجامعات العربية في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط “اتضح أن برامج الشريعة في المغرب يغلب عليها الاتجاه المقاصدي، أو فقه الواقع والوسطية، عكس الاتجاه الأزهري الكلاسيكي أو السلفي”، معتبرا أن “مواد الشريعة مرتبطة بالعلوم الإنسانية بالمغرب، خصوصا علم الاجتماع وعلم النفس الديني”.
وأوضح حنفي، ضمن محاضرته، أن “هناك في المغرب أيضا مواد دينية مربوطة بالعلوم الاجتماعية، لاسيما الفلسفات والمناظرات الفكرية وعلم المنطق والتصوف والأخلاق والفكر الإسلامي المعاصر وعلم مقارنة الأديان وتاريخ الأديان”، مشيرا إلى أن “الإشكالية التي تعتري الموضوع هنا هي أن الدراسات الإسلامية في المغرب تعيش أزمة هوية، فليس معروفا هل هي حقل من العلوم الإسلامية أو نوع من الإسلاميات التطبيقية؟”.
وسجل المحاضر الفلسطيني في محاضرته حول “غياب تفاعل العلوم الشرعية مع العلوم الاجتماعية: تحليل مضمون مناهج الشريعة والدراسات الإسلامية في المملكة المغربية”، “وجود نوع من التجاور بين العلوم: تجاور نشط ولكن على مستوى فردي، أو تجاور هادئ في كنف من الاحترام المتبادل، أو تجاور مع نظرة مريبة”، مبرزا أن “الإشكال الذي جرى تسجيله يعد سياسيا أكثر مما هو إبستمولوجي، ويتعلق بتعالي العلوم الاجتماعية”. مع أن هذه النقطة تلقفها أحد الحضور ليعقّب بأن “الباحث يمكن أن يكون متعاليا ولكن ليس التخصص بكامله”.
“فهم جديد”
عبده فيلالي، عضو أكاديمية المملكة المغربية، أشار في محاضرته “حول العصر المحوري وفائدته للفهم الإنساني”، إلى “تحويل الدين نفسه إلى موضوع للمعرفة، وللتحليل، وبالتالي منحه منظورا جديدا خارجيا ويسمح حقا باتباع منهج علمي في التعامل معه”، مبرزا أن “العصر المحوري له العديد من المزايا التي لا يمكن نسيانها أو تنحيتها جانباً أو التخلص منها، تتمثل إحدى مزاياها في أنها تشير إلى أهمية ولادة أخرى، وهي ولادة ثانية في تاريخ العالم”.
ولفت فيلالي، ضمن محاضرته، إلى تكريس التاريخ للحقائق الموجودة في الزمان والمكان، “فالحكاية تتعلق دائما ببلد أو نظام أو ملك أو حتى فرد واحد، إلخ… وهنا تاريخ العالم ليس مهتما كثيرا بهذه الحقائق الفردية التي تظهر هنا أو هناك، وبالأحرى هو مهتم بالظواهر التي تتعلق بالتفاعلات والترابط، لذلك تاريخ العالم ليس تجاورا”، موضحا في سياق آخر أن “الدور الرئيسي للعلوم الإنسانية والاجتماعية هو إعطاء المجتمع طريقة معينة لبناء تصورات عن نفسه وتحديد أهداف للمستقبل”.
المصدر: وكالات