قال الدكتور إدريس كراوي، رئيس الجامعة المفتوحة للداخلة، إن جائحة كورونا ومخلفات الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعيات التغيرات المناخية الفجائية انعكست على الأوضاع الاجتماعية لفئات عريضة من المجتمعات البشرية عبر العالم.
وشدد الكراوي على أن هذه الأوضاع ستزداد تفاقما وحكامتها تعقيدا خلال العقود المقبلة، متسائلا في مقال له عن مضمون الكرامة ومعنى قيمة الإنسان في علاقاتهما بقضايا التنمية؟
واعتبر المصدر ذاته “الميثاق الاجتماعي الجديد”، الذي وضعه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وثيقة تجسد بحق مضمون المقاربة المغربية لكرامة وقيمة الإنسان.
وهذا نص المقال
قد يبدو هذا الموضوع في أول وهلة غير ذي جدوى، ولكنه في الحقيقة يجب أن يحتل مكانة أساسية في السياسات العمومية في بلدنا وفي أجندة كل المنظمات الإقليمية والدولية التي تهتم بظروف عيش الإنسان. ومرد هذا لما لاحظناه من انعكاسات لجائحة كرونا، ومن مخلفات للحرب الروسية الأوكرانية، ومن تداعيات التغيرات المناخية الفجائية على الأوضاع الاجتماعية لفئات عريضة من المجتمعات البشرية عبر العالم، وبالتالي على كرامة وقيمة الإنسان داخلها. وما من شك في أن هذه الأوضاع ستزداد تفاقما وحكامتها تعقيدا خلال العقود المقبلة من القرن الواحد والعشرين.
لذا، فهاتين الرافعتين ستصبحان أنجع وسيلة للبناء المستقبلي الرصين لكل نموذج تنموي يتوخى وضع الإنسان في صلب اهتماماته، ويصبوا إلى السمو بالتماسك الاجتماعي إلى هدف جوهري للسياسات العمومية في مجتمعات هذا القرن، والضامن الحقيقي لسلمها واستقرارها.
فما هو يا ترى مضمون الكرامة ومعنى قيمة الإنسان في علاقاتهما بقضايا التنمية؟
تعني الكرامة أساسا، حالة الكائن البشري من زاوية تلبية كل حاجياته، انطلاقا من استفادته الفعلية من جميع الحقوق الإنسانية الأساسية في إطار معاملة لا تقوم على التمييز حسب الجنس أو السن أو الوسط الاجتماعي أو مقر الإقامة أو الوضعية البدنية والصحية للفرد. وتشمل هذه الحقوق التربية والتكوين والولوج إلى المعرفة والتكنولوجيا، بما فيها الرقمية، والصحة، والحد الأدنى من الدخل، والشغل اللائق، والغذاء، والسكن، والثقافة، والترفيه، والعيش في بيئة سليمة، و كذا الحق في التقاعد، والتغطية الصحية الأساسية، والتعويضات العائلية، وتعويضات الشيخوخة، والتكفل في حالة الإعاقة، إضافة إلى الاستفادة من الخدمات الاجتماعية، وأساسا الحق في الماء والطاقة والنقل، فضلا عن تكافؤ الفرص، والمساواة في المعاملة، والعدالة والإنصاف، وحرية التعبير، وحرية المعتقد، والحق في الأمن والسلامة.
وبعبارة أخرى، تعني الكرامة حالة الكائن البشري المتحققة عن طريق إنجاز أجندة 2030 لأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، التي تجد مرجعتيها في كل الإعلانات العالمية المتعلقة بحقوق الإنسان، وأرضية الحماية الاجتماعية الشاملة، وكذا ما سطر من أهداف الألفية للتنمية في أعقاب المؤتمرات الأممية منذ سنة2015 .
وفي ما يخص قيمة الإنسان، فإنها تتحقق بفعل ثلاثة عوامل متلازمة، وهي الاعتراف بمكانة المواطن في المجتمع، واعتبار دوره داخله، وإشراكه في اتخاذ القرار وفي تدبير شؤونه. ومن معايير قيمة الإنسان الديمقراطية والإنصاف والعدالة والمساواة وسمو قيم الاستحقاق والكفاءة والإدماج المؤسسي والاجتماعي والثقافي والمهني.
انطلاقا من هذا التعريف يمكن اعتبار “الميثاق الاجتماعي الجديد”، الذي وضعه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، هو الوثيقة التي تجسد أكثر وبحق مضمون المقاربة المغربية للكرامة وقيمة الإنسان.
فهذا الميثاق جدير بالنظر لما يكتسيه من أهمية بالغة على هذا الصعيد، خاصة وأن العديد من المجالس الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسات المماثلة لها، أعضاء اتحاد المجالس الاقتصادية والاجتماعية بالدول الفرنكوفونية، اعتمدته ضمن مرجعياتها. ذلك أن المجلس قد عمل، منذ تنصيبه من طرف جلالة الملك محمد السادس بتاريخ 21 فبراير 2011، على تشكيل فريق عمل مختص لإعداده، حيث أقر منهجية عمل تقوم على الإنصات للفاعلين والقوى الحية في البلاد، تم إغناؤها بنقاش مثمر وبناء بين أعضاء المجلس. وفي هذا الإطار، تم الإنصات إلى 70 فاعلا يمثلون كل مكونات المجتمع المغربي من حكومة ومركزيات نقابية وجمعيات ومنظمات مهنية وفاعلين بالمجتمع المدني وهيئات ومجالس استشارية وطنية.
وقد مكنت هذه المقاربة التشاركية من إعداد ميثاق اجتماعي حدد أهدافا يتعين التعاقد بشأنها. وتمت المصادقة عليه خلال الدورة التاسعة للجمعية العامة للمجلس بتاريخ 29 نونبر 2011.
ويمثل هذا الميثاق إطارا مرجعيا للحقوق الإنسانية التي تحظى بالقوة القانونية، كما هو منصوص عليها في الدستور المغربي وفي المعاهدات الدولية والمواثيق والاتفاقيات التي صادقت عليها بلادنا. وعلى هذا الأساس تم اعتماده من طرف المجلس في بلورة النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية للمملكة.
ويتضمن التقرير ثلاثة أجزاء متكاملة. يشمل أولها حقوق الإنسان الأساسية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية، يُعَدُّ احترامها ضمانة لإنجاز الأهداف الكفيلة بصيانة كرامة المواطنين المغاربة وتعزيز تماسك المجتمع وتحقيق التنمية البشرية المنسجمة والشاملة والمستدامة. ويستعرض الجزء الثاني الأهداف الإجرائية التي تمكن من تجسيد المبادئ والحقوق المعنية، فيما يحدد الجزء الثالث المؤشرات الضرورية لتتبع إنجاز الأهداف.
ويتضمن هذا الإطار المرجعي 39 مبدأ وحقا أساسيا يحظى بالقوة القانونية، ويتفرع إلى 92 هدفا إجرائيا، ويقوم على 250 مؤشرا للتتبع والتطوير. وينتظم الميثاق الاجتماعي حول 6 عناصر متكاملة: 1) الولوج إلى الخدمات الأساسية والرفاه الاجتماعي، 2) المعرفة والتكوين والتنمية الثقافية 3) الاندماج والتضامن، 4) الحوار الاجتماعي والحوار المدني والشراكات المبتكرة، 5) حماية البيئة، 6) الحكامة المسؤولة والنهوض بالحقوق الاقتصادية والديمقراطية الاجتماعية.
وتتضمن العناصر الخمسة الأولى عرضا للحريات والحقوق الفردية والجماعية التي يتوجب الاعتراف بها وضمان ممارستها والنهوض بها كأساس ضروري لميثاق التماسك والتقدم الاجتماعي في المغرب. أما الفصل السادس فيستعرض أدوات التنفيذ والتفعيل، حيث يحدد الشروط الضرورية والمسارات التي تمكن من تجسيد أحكام الميثاق على أرض الواقع.
وتقع مسؤولية تنفيذ الحقوق المتضمنة في كل فصل على حدة على عاتق الفاعلين الوطنيين المعنيين على أساس التعاقد والشراكات، علما أن أي هدف أو حق منصوص عليه يمكن أن يشكل موضوع عقد واحد أو تعاقدات كبرى متعددة. فهذه التعاقدات الاجتماعية الكبرى التي دعا جلالة الملك إلى وضعها، تشكل الأساس لتحقيق التماسك الاجتماعي والتنمية البشرية المستدامة.
ولقد كان من المأمول أن تتملك هذا الميثاق المؤسسات التي تعنى بوضع المؤشرات الإحصائية وبإنتاج المعلومات، وكذا تلك التي تهتم بحقوق الإنسان وبالتنمية البشرية كمرجعية لبلورة السياسات العمومية ولقياسها في إطار وطني موحد. لكن كل هذا لم يتحقق، ليبقى هذا الميثاق في رفوف المؤسسات والإدارات المختصة المعنية بتفعيل مضامينه.
والمغرب بصدد البحث عن سبل تقوية أسس الدولة الاجتماعية، وعن إعطاء مضمون عملي للنموذج التنموي الجديد، وعن اختصار المسافة في مجال تنفيذ أجندة 2030 لأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة وأجندة 2063 للاتحاد الإفريقي، فإنه من المجدي جدا الرجوع إلى هذه الوثيقة الهامة، التي هي نتاج ذكاء جماعي ونبوغ وطني، ساهمت في بلورتها جميع الفئات الحية للنسيج الاجتماعي ببلادنا، وذلك في أفق استثمار خلاصاتها وتوصياتها الغنية ضمن مقاربة قوامها التدبير التراكمي الجدي والجيد للزمن المؤسسي الوطني.
المصدر: وكالات