رحلة دوّنها العلَم المغربي تقي الدين الهلالي سنة 1936، تخرج للقراء في كتاب جديد أعده أحمد بن علي الريسوني، الباحث في التصوف والتاريخ، وأصدرته دار “سليكي أخوين” بعنوان “رحلة من الزبير إلى لا أدري… من الزبير إلى جنيف”.
وكتب الباحث أحمد الريسوني، في تصديره للعمل الجديد، أن “فرادة هاته الرحلة” تكمن في أنها “رحلة فكرية وأدبية وعلمية ووجودية وقارية للشيخ العلامة محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله تعالى انطلاقا من قارة آسيا، في اتجاه أوربا، ووصولا إلى إفريقيا… وعبر هذه القارات الثلاثة، يضعنا الأستاذ وسط بحار ضاجة بالمعرفة الآسرة”.
وتابع قائلا إنها “رحلة غير مسبوقة بما تحويه من ظلال وارفة”، و”نص تاريخي ظل غميسا لعقود من الزمن”.
وكتب أحمد بن علي الريسوني أن هذا العمل “إضافة حقيقية ونوعية بالنسبة (…) لحقل أدب الرحلة؛ نظرا لحساسية المرحلة، ولأهمية الشخص، ولأسلوبها الأدبي الرفيع”.
ثم زاد: هذه “الرحلة اللطيفة (…) عاش فصولها الشيقة، ودون أحداثها الماتعة، العلامة المجتهد والخطيب المفوه والشاعر المضلاع الأديب الداعية الشيخ الدكتور محمد تقي الدين بن عبد القادر الهلالي رحمه الله تعالى، هذه الرحلة التي تؤرخ لفترة هامة من حياة الدكتور، كانت محطة بارزة في مسيرته العلمية، إذ انتهت به محاضرا وطالبا في جامعة “بون” الألمانية”.
وواصل الكتاب: “لقد كان ابتداءُ رحلة الهلالي من قرية الزبير العراقية – التي كان مقيما بها بعد عودته من الهند – نحو مدينة جنيف السويسرية سنة 1355 هـ 1936 م، قصد ملاقاة رجل الدنيا أميرِ البيان شكيب أرسلان، وهو الذي كتب رسالة توصية إلى أحد معارفه بالخارجية الألمانية، لم يكن سوى سفير ألمانيا بسويسرة، جاء فيها: “عندي شاب مغربي أديب ما دخل ألمانيا مثله، وهو يريد أن يدرس في إحدى الجامعات، فعسى أن تجدوا له مكانا لتدريس الأدب العربي براتب يستعين به على الدراسة”.
وذكر الكتاب أنه “بعدما قضى الهلالي زهاء ثلاث سنوات في “بون” وقد تعلم الألمانية، توجه إلى “برلين” ليعمل أستاذا محاضرا بها، ومن “برلين” كان صوته الناقد والرافض للاستعمار الفرنسي بالمغرب يُسمع من خلال الإذاعة العربية التي كان مشرفا عليها، وكان الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، وهو بمنفاه بجزيرة “لا ريونيون” شرق مدغشقر يستمتع ويتسلى بخُطب تقي الدين البليغة والرائعة، التي كان يلقيها من الإذاعة العربية”.
وسجل أحمد بن علي الريسوني أن تقي الدين الهلالي قد تمتع “بحظوة كبرى لدى رجال الحركة الوطنية بالمغرب، بل ولدى رجال الإصلاح والتجديد في العالم العربي الإسلامي؛ لأنه كان يحمل هم الأمة الإسلامية، ويريد تحريرها من قيود التبعية والاستعمار والانقياد الأعمى والاستسلام للعادات التي تتنافى وأصول الشرع الحنيف، الأمر الذي بوأه المكانة السامية والاحترام الكبير اللذين دفعا بأبرز رجال الوطن العربي والإسلامي لتحميله رسائل موجهة إلى قادة العمل السياسي”.
كما قال الباحث إن “التكوين العلمي للدكتور الهلالي، وكثرة اطلاعه، مع تنوع علاقاته وتميزها، كل ذلك جعل منه شخصية مازجت بين روح التشريع الإسلامي ومظاهر التمدن الغربي، محاولا الجمع بين الأمرين بمنهج يراعي الثوابت الدينية والمتغيرات الاجتماعية؛ لكن اصطداماته بالمغرب، وخصوصا في شماله الغربي، حدت من يفاعة نشاطه الذي رأى فيه البعض تطاولا على الرموز والمقدسات”.
وأورد الكتاب أن الرحلة، إضافة إلى قيمة تعبيراتها واستشهاداتها الأدبية، هي “سجل اجتماعي وسياسي يرصد اللحظة التاريخية بكل امتداداتها وتجلياتها”، و”تميزت من الناحية البنائية بقدرة تفصيلية هائلة على تدوين تفاصيل دقيقة، ارتبطت في تأريخها حتى استطاعت أن ترصد لنا الفلس والفلسين ومكان صرفهما، واستطاعت أيضا أن تُبرز مقدار العلاقات التي أقامها الشيخ إنسانيا مع كثير من الأصدقاء، وكرست بنظرة أدبية ثاقبة رؤيتها للجغرافيات ومكوناتها من بشر وحجر وعادات وتقاليد”، كما أنها “سجل آخر من سجلات نشأة الصهيونية والفكرة الإسرائيلية”.
وتتضمن الرحلة أيضا “صدمة الحداثة التي ميزت تقي الدين الهلالي، وغيرت وعيه وخلخلت مفاهيمه، وهو يندهش للعادات والنظام والمدنية الفائقة التي وجدها في أوروبا، وأحس بالهوة الحضارية الفاصلة بين العالمين الشرقي والغربي. وقد دون هذه الملاحظات بكثير من الأسف والحسرة والإعجاب والانبهار، حتى لتجاوز الوصف النثري، ليصفها شعرا جماليا حرك إحساسه ووجدانه، كما أدهش عقله”.
المصدر: وكالات