1
“الترجمة: فن يجب حمايته”.
هذا هو الشعار الذي خصصه المنتظم الدولي للاحتفاء هذه السنة باليوم العالمي للترجمة ويصادف الثلاثين من شهر سبتمبر من كل عامّ؛ يعكس هذا الشعار، في جوهره، تحديات تتجاوز كون الترجمة مجرد عملية لغوية إلى اعتبارها فعلاً ثقافياً وفكرياً يسهم في تشكيل رؤيتنا للعالم. نعلم جميعا أن الترجمة ليست نقلاً حرفياً للنصوص، بل هي إعادة خلقها ضمن سياق ثقافي جديد، وهذا أمر يتطلب مهارات تتعدى الإلمام باللغة إلى فهم عميق للسياقات والمعاني. بهذا المعنى، يُعد المترجم فناناً يفسر النصوص ويعيد صياغتها بما يتناسب مع الثقافة الأخرى، مع الحفاظ على روح النص وجوهره الأصلي.
يواجه فن الترجمة في العصر الحديث تحديات كبيرة، خصوصاً مع التطور التكنولوجي السريع وظهور أدوات الترجمة الآلية. رغم أن هذه الأدوات أثبتت فعاليتها في ترجمة النصوص البسيطة، إلا أنها لا تستطيع تعويض الإبداع البشري اللازم لمعالجة النصوص الأدبية والفلسفية والفكرية المعقدة. فالتقنيات الحديثة لا تمتلك القدرة على فهم السياقات الثقافية والتفسيرات الرمزية التي يتطلبها النص، مما يبرز أهمية دور المترجم في الحفاظ على جودة الترجمة ودقتها.
وبفضل طبيعتها البرمجيّة، تفتقر الترجمة الآلية إلى القدرة على استيعاب الأبعاد الثقافية والرمزية للنصوص؛ فالنصوص الأدبية، على سبيل المثال، ليست مجرد تصفيف وترتيب للكلمات، بل هي تجسيد لتجارب إنسانية غنية بالعواطف والأفكار والسياقات التاريخية والثقافية المتشابكة. هذه الجوانب المعقدة لا يمكن للخوارزميات الآلية التقاطها بدقة، مما يبرز حدود الترجمة الآلية في معالجة النصوص ذات البُعد الإنساني البديع.
2
يقتضي المقام في سياق الاحتفاء باليوم العالمي للترجمة التذكير بالبرنامج العلمي الذي وضعته الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة التابعة لأكاديمية المملكة المغربية بتنظيمها لندوة دولية حول “جسور المعرفة: تأويل الغيرية في الفكر والترجمة” بالتعاون مع جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، وجامعة إرلجن الألمانية، وحلقة تمهيدية أولى حول “وضع تصور لصناعة معجم عبري – عربي للعصر الوسيط” ستتلوها حلقات دراسية أخرى من أجل تعميق النظر في هذا التصوّر، فضلا عن مائدة مستديرة حول “الأمازيغية والترجمة: أسئلة الثقافة والمجتمع” بالتعاون مع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، كما نظمت العديد من اللقاءات والمحاضرات ألقاها باحثون من مختلف الجامعات والمعاهد المغربية والأجنبية، تتلوها خلال الشهور المقبلة سلسلة أخرى من المحاضرات حول : الترجمة والممارسات الفنية- والترجمة من وجهة نظر التحليل النفسي- فضلا عن ندوة دولية تخصّ ترجمة المحتوى الرقمي الاستراتيجيات وأفضل الممارسات، إضافة إلى دورات وورشات تكوين هي الأولى من نوعها عملا بأحد اختصاصات الهيئة المتمثل في إحداث مختبرات متخصصة للبحث في مجال تطبيقات علم الترجمة والتواصل بين اللغات، يؤطرها مترجمون متمرسون من المغرب وخارجه يستفيد منها طلاب الدكتوراه من مختلف المعاهد والمدارس والجامعات المغربية؛ كما وضعت الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة برنامجا علميا لنشر حصيلتها العلمية وتوفيرها مطبوعة ليتم الاطلاع عليها من قبَل أكبر عدد من الباحثين وتكون عونا لهم في أبحاثهم ودراساتهم.
3
يجمع المهتمّون أنه لحماية فن الترجمة، يتعين أولاً، الاعتراف بالدور الثقافي الذي يقوم به المترجمون، فهم ليسوا مجرد ناقلين للمعلومات، بل هم بناة جسور تربط بين ثقافات وأمم. ويتعيّن ثانياً، تحسين بيئة عمل المترجمين، بما في ذلك ضمان حقوقهم المادية والأدبية. وأخيراً، من الضروري الاستثمار في تعليم الترجمة وتحديث المناهج الدراسية، لتأهيل جيل جديد من المترجمين بمهارات بيداغوجية ومعرفية جديدة ومعاصرة.
وعلى هذا الأساس، ليس شعار هذه السنة لليوم العالمي للترجمة “الترجمة: فن يجب حمايته” مجرد شعار عابر، بل إنه دعوة للاعتراف بأهمية هذا الفن في تشكيل المستقبل الثقافي. حماية الترجمة هي أيضا حماية للتنوع الثقافي، وللإبداع الذي لا يمكن أن يتجلى إلا من خلال التواصل بين الثقافات المختلفة؛ ففي زمن يتسم بالتنوع والاختلاف، تبقى الترجمة واحدة من الوسائل القليلة التي تساهم في خلق حوار قائم على الاحترام المتبادل والتفاهم المشترك، ولعل هذا ما قصده والتر بنيامين Walter Benjamin بإحدى عباراته الشهيرة من أن “الترجمة شكل من أشكال الفن، إذ لا تعيد صياغة النص فحسب، بل تعيد خلقه في سياق جديد؛ ولا يقتصر هدف الترجمة على توصيل المعنى، بل يسعى إلى إضاءة النص الأصلي بطرق جديدة ومبتكرة”.
لا حاجة للتذكير بهيمنة بعض اللغات على المشهد الثقافي والفكري العالمي في عصر العولمة، مما يؤدي إلى تهميش لغات وثقافات أخرى. لذا، فإن حماية الترجمة تعني أيضا الحفاظ على التنوع اللغوي وضمان وصول النصوص الأدبية والفكرية من اللغات الأقل انتشاراً إلى الجمهور العالمي.
4
لماذا نترجم؟
إذا اعتبرنا الترجمة عملية تفكير وإدراك، يمكنني أن أقترح أربعة مداخل للإجابة على هذا السؤال:
أولا: التّرجمة باعتبارها تحقُّقا للكيْنونَة
نترجم لتحقيق مفهوم الكينونة أو “الوجود في العالم”، كما وصفه مارتن هايدغر. من خلال الترجمة، نخلق مساحة للتفاهم تتيح للكيانات اللغوية المتنوعة أن “تتواجد” معًا ضمن نفس السياق، هكذا، تعيد التَرْجَمَة إذاً تشكيل الفهم بين الكائنات اللغوية المختلفة.
ثانيا: التّرجَمة باعتبارها بَحْثا عن الـ “غير” قابِل للتَّرجمة
قد تُعتبر الترجمة أيضًا محاولة للوصول إلى ما وصفه والتر بنيامين بـ “غير القابل للترجمة” في النصوص. هكذا تصبح كل ترجمة سعيًا لاكتشاف العمق الغامض الذي يتعذر نقله بالكامل من لغة إلى أخرى. في هذه الحالة، تتحوّل الترجمة إلى حوار مع المستحيل، محاولة دائمة لإيجاد ما لا يمكن الحصول عليه في اللغة الأخرى.
ثالثا: الترجمة باعتبارها فعلا للتحرر من اللغة الأصلية
نترجم لأن الترجمة وسيلة لتحرر الفكر من هيمنة اللغة الأم؛ من خلالها يتجاوز الإنسان القيود التي تفرضها لغته الأصلية، مما يتيح له استكشاف طرق جديدة للتفكير والتعبير. ولا يعني هذا التحرر التخلي عن الجذور اللغوية، بل هو تحرير الفكر من قيود اللغة الأم، مما يمكّن المرء من التفاعل بشكل أعمق مع اللغات الأخرى ومعانيها المتنوعة.
رابعا: الترجمة باعتبارها تجربة للاغتراب الإبداعي
قد تكون الترجمة تجربة للاغتراب الإبداعي، حيث يعيش المترجم حالة من التباعد بين النص الأصلي والنص المستهدف. يفتح هذا الاغتراب المجال أمام فرص إبداعية غير محدودة، حيث يكون على المترجم ابتكار طرق جديدة للتعبير عن المعاني ضمن سياقات ثقافية ولغوية مختلفة. يُثمر هذا الاغتراب إبداعًا لغويًا جديدًا، ناتجًا عن التفاعل بين النصوص والثقافات المتباينة.
على هذا الأساس، تتحدى كل ترجمة مفهوم “المركزية الثقافية”، حيث تعترف بأن لكل ثقافة جوانب خاصة بها من المعرفة. ومن خلال الترجمة، يصبح الحوار بين الثقافات وسيلة لإثراء التجربة الإنسانية وتعميق فهمنا المتبادل.
بهذا، تجعل الترجمة العالم أكثر تنوعا وتسامحا.
غالبا ما ارتبطت الترجمة بفكرةٍ مفارقةٍ: إذا كان من غير الممكن اعتبار اللغات مجرد أنظمة شكلية للعلامات، وإذا كان كل إنتاج لغوي لا يتحقق إلا في اقترانه بتصور للعالم يتقاسمه مجتمع معين وخصوصية الفرد الذي ينتجه، فإن الترجمة ستكون مهمة مستحيلة. ومع ذلك، يُقبل الباحثون والأدباء على ترجمة النصوص استجابة لدواعي متنوعة.
5
بهذا المعنى، يصبح المترجم وسيطا بين لغتين وثقافتين؛ وبين مَحْفَلَين: المؤلف الذي يكتب بلغته، والقارئ الذي ينتظر تلقي العمل بلغته أيضا. يلخّص J-R Ladmiral هذه المفارقة في إحدى دراساته: “كل شيء قابل وغير قابل للترجمة في الآن ذاته”. إن كُلّا من الإثبات والنفي يمتلك نصيبه من الصّدق في هذه العبارة، فكل التجارب الإنسانية قابلة للترجمة، وجميعها تتميز بالفرادة وتمتلك طابعا خاصا بها يصعب ترجمته أو نقله إلى لغة أخرى.
كيف تواجه الممارسة التّرجمية هذه المفارقة؟
ما صلة القضايا الفكرية والفلسفية لحقبة معينة بعملية الترجمة؟
لماذا نترجم، ولأية مقاصد؟
لنتأمل؛
وإلى حديث آخر.
المصدر: وكالات