هل نَحْنُ فِعْلاً نَعْرفُ مَنْ نَكُون؟
1
هل نحنُ ذواتنا أم مُجرد انعكاسات لذواتٍ أُخرى غريبة عَنّا، نعرفُها ولا نعرفُها؟
سؤال محوريّ يمثل خلاصة بحث صدر منذ عقد من الزمن تقريبا لعالم اجتماع وأنثروبولوجي عُرف باجتهادات عميقة ذات الصّلة بظواهر الذاتية في مجتمعاتنا المعاصرة وتفاعلاتها مع مختلف التأثيرات الاجتماعية والثقافية؛ يتعلق الأمر بـ David Le Breton في دراسته DISPARAÎTRE DE SOI, Une tentation contemporaine.
يتناول عالم الاجتماع ديفيد لوبروتون في دراسته المسارات المتعددة “لاختفاء الذات”، مستندًا في ذلك إلى مراجع أدبية وفكرية في غاية العمق والغنى؛ للاختفاء في هذا السياق معنى “السعي ليكون المرء ذاته” بمعزل عن الأدوار والروابط الاجتماعية مهما كان نوعها؛ الاختفاء ظاهرة مُعقدة قديمة وحديثة في آن يَقرنها لوبروتون بمفهوم “البياض”، ويعني فَكِّ الارتباط بالهُوية حين تتحرَّرُ الذات من القُيود التي يفرضها عليها العالم المحيط، ويفْقدها الانتماء لأي مكان أو زمان.
“وُجودنا يُثْقل كاهِلنَا أحْيانًا”.
بهذه العبارة الافتتاحية يلخّص ديفيد لوبروتون أطروحة مؤلفِه.
من منّا لم يحلم، أو على الأقل تمَنّى للحظات أو ساعات أن يتخلّص من أعباء الحياة، ومن الروابط الاجتماعية التي جُبلنا على الحفاظ عليها ورعايتها؛ من منا لم يتمنّ ذات يوم الهروب- بقصد أو بدونه – من الأعباء التي يفرضها علينا وجودنا؟
يتناول كتاب “الاختفاء من الذات” لديفيد لوبروتون (في ترجمته العربية: اختفاء الذات عن نفسها؛ ترجمة زكية البدور، مراجعة عبد السلام بنعبد العالي ط.2/ 2023) بعض أهمّ الأشكال التي تتجسّد فيها رغبةُ الإنسان في إحداث قطيعة تامة، أو تغيير حياته ليوم واحد، أو تغييرها دفعة واحدة وإلى الأبد.
يُولي ديفيد لوبروتون في هذا البحث اهتمامًا بالغًا لما يميز الفرد ويجعله كائنا استثنائيا، مُركزًا في ذلك على التفاصيل الاجتماعية الدقيقة والخفيّة في حياتنا اليومية، وعلى كل ما يشكل العابر فيها ولا يحظى باهتمامنا.
لماذا يهرب المرء من ذاته ومن ضغوط الحياة المعاصرة؟ ولماذا يرغب في الاختفاء؟
2
في عالمٍ مُشبع بالمعلومات والمتطلبات الاجتماعية المتزايدة، رصد ديفيد لوبروتون ظاهرة متنامية تتمثل في رغبة الأفراد في الاختفاء وتجنّب الظهور والامتثال لأيّ صنف من الأداء الاجتماعي.
لا تُعَدّ الرغبة في “الاختفاء عن الذات” هروبًا من العالم الخارجي، بل محاولة لإعادة اكتشاف شكل من السلام والأمان الداخليين، وهي أيضًا رفض للأمر الدائم بـ”أن يكون المرءُ نفسه” في مجتمع يتطلب من أفراده، وباستمرار، تحديد هويتهم، وتقديم أنفسهم، والاستجابة للتوقعات الاجتماعية.
وعلى هذا الأساس، يحلّل لوبروتون مظاهر متنوعة كامنة وراء كل رغبة في الاختفاء، من قبيل الانجذاب نحو الممارسات المتطرفة، أو الاستكانة إلى الطبيعة، والتزام الصمت، وإخفاء الهوية، وتعلّق البعض بالسلوكيات المُدمرَة للذات مثل الإدمان وتشويه الجسد. كما يذكر لوبروتون أشكالًا أخرى مثل الاكتئاب باعتباره وسيلة للهروب من المطالب المستمرة للوجود، والمشاركة الفعالة في الحياة الاجتماعية. تُعَدّ جميع هذه الظواهر استراتيجيات لهروب الفرد من مجتمع يُنظر إليه على أنه قمعي واجتياحي، وهي تسعى لاستعادة شكل من أشكال السيادة على وجود الفرد.
في صفحات مُضيئة من كتابه يحلّل لوبروتون حالة الإنسان المعاصر وحيْرته أمام المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية التي تضبط علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين. يصبح السّعي للاختفاء استجابةً لأزمة الهوية، حيث يبحث الفرد عن معنى للوجود، وعن مساحة يتخلص فيها من صخب الحياة المعاصرة.
بهذا المعنى، يدعونا دافيد لوبروتون للتفكير في الديناميات غير المرئية التي تشكل حياتنا المعاصرة وكيف يمكننا استعادة الشعور بالتوازن في عالم لا يكفّ عن التحول والتطوّر.
يستثمر لوبروتون في دراسته العديد من منطلقات الأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة من أجل فهم معنى الاختفاء لا باعتباره هروبا، بل شكلا من أشكال مقاومة “مجتمع الفرجة”. ففي عالم يُعتبر فيه كل شيء مسرحًا، حيث يُطلب من الفرد باستمرار أن يكون في دائرة الضوء، يصبح الاختفاء وسيلة لرفض تحويل الذات إلى مجرد سلعة.
3
يمكن تفسير الرغبة في الاختفاء بوصفها مَسْعى روحياً وتصوّفياً، كما هو الحال في العديد من التقاليد الدينية مثل الزهد والخلوة والاعتكاف. وهكذا، يصبح الاختفاء سبيلًا لتحقيق يقظة داخلية وانفصال عن أوهام الأنا، والتوحد مع شيء أو فكرة تتجاوز حدود الذات.
بهذا المنظور، يعترف لوبروتون بأن الرغبة في الاختفاء قد تُفهم باعتبارها استعارة لأزمة المعنى في المجتمع الحديث. ولذلك يختار بعض الأفراد محْوَ ذواتهم استجابةً لقلق وجودي نشأ في ظل مجتمعات الحداثة وما بعد الحداثة، وتحت تأثير تكنولوجيا الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت مصدراً لـ”الإرهاق الذاتي” ذهنيا ووجوديا.
هل يمكن اعتبار الاختفاء شكلاً من أشكال إعادة ابتكار الذات والكينونة؟
يمثلُ محْوُ الذات وإبعادها عن دائرة الأعراف والتقاليد الاجتماعية، خارج الأطر المعيارية التي يفرضها المجتمع، مدخلاً فكريًا ملائمًا لإعادة فتح النقاش حول أشكال جديدة للذاتية، واستراتيجيات التحرر الفردي في ظل رهانات العالم المعاصر؛ لذلك يبينُ لوبروتون كيف يصبح الفرد المعاصر غير متعلق بشيء بعينه، فهو يسعى إلى الاقتراب من الآخرين، وفي الوقت ذاته يتوقُ إلى الابتعاد عنهم.
الحياة منبع للفرح والسّرور، لكنها كذلك مصدر للعناء والشقاء. وعندما يصل الإنسان إلى حالة من التشبع والامتلاء، يظهر البياض بوصفه استجابة تعبيرية عن هذا الشعور، وإشارة لرغبة دفينة في تخفيف الارتباط بالآخرين. ومن هذا المنطلق يصبح البياض وسيلة لمقاومة متطلبات بناء الهوية في إطار النزعة الفردية التي تسود المجتمع المعاصر.
بهذا المعنى قد يُعبّرُ التعلّقُ بالاختفاء عن رغبة عميقة في التحرر من القيود المفروضة على الذات، سواء كانت ناتجة عن المجتمع، أو العائلة، أو التوقعات الشخصية.
ليس الاختفاء بالضرورة غيابًا ماديًا، بل هو رغبة في تجاوز الأنا والتحرر من الهويات الصَّارمة.
لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.
The post اخْتفَاءُ الذَّات… appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.
المصدر: وكالات