بدأت تلوح في الأفق معالم مواجهة جديدة بين التيار الحداثي وغريمه المحافظ في الساحة المغربية، وذلك على خلفية النقاش الدائر حول إصلاح مدونة الأسرة ومنظومة القانون الجنائي الذي تعكف وزارة العدل على وضع لمساتها الأخيرة على مضامينه قبل إحالته على البرلمان.
أمارات المواجهة بدت واضحة مع المناوشات التي شهدتها جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس النواب، الإثنين الماضي، وفضل من خلالها وزير العدل والأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، عبد اللطيف وهبي، فتح النقاش وإطلاق شرارته الأولى من خلال التلاسن مع رئيس المجموعة النيابية لحزب العدالة والتنمية الإسلامي المعارض.
واعتبر متابعون أن وزير العدل دخل بقوة في الموضوع، وأطلق هذا الأسبوع مجموعة من “الطلقات” لجس نبض التيار المحافظ، وعلى رأسه “البيجيدي”، حول الموضوع، بعدما اتهمه في البرلمان بممارسة “الديكتاتورية الدينية” لإيقاف وكبح أي تعديلات يمكن أن تطال مدونة الأسرة.
“دكتاتورية دينية”
وزير العدل، الذي لا يتردد في الإفصاح عن نواياه التقدمية في مراجعة النصوص والقوانين وجعلها أكثر انفتاحا وتقدما، أقر بوجود صعوبات تعترض رغبته في تنزيل الإصلاحات التي ينشدها هو وحزبه، وذلك عندما أشار إلى أنه “لا يملك السلطة بيده”، مقرا بأن هذا المجال ديني “ويرتبط بمؤسسات دستورية لها رأيها فيه”، وزاد: “هناك قرار لجلالة الملك باعتباره المسؤول عن المجال الديني.. والوزير لا يحمل قلم رصاص ويشرع. وهناك مجالات يجب أن يكون فيها توافق وطني”، وهي العبارات التي تبين حجم الصعوبات والتعقيدات التي يواجهها على هذا المستوى.
بعد يوم واحد من الهجوم الذي شنه وهبي على حزب العدالة والتنمية في البرلمان، انتقل وزير العدل إلى ندوة نظمتها مؤسسة الفقيه التطواني، ليواصل انتقاداته للتيار المحافظ، واتهامه بتوظيف العبارة الشهيرة في خطاب الملك محمد السادس، التي قال فيها: “لن أحل ما حرم الله ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية”، لتحقيق أهداف ومكاسب وصفها بـ”الصغيرة”.
واعتبر الوزير أن المقولة المعبرة عن الالتزام بمبدأ الشرعية تم توظيفها “توظيفات حرفتها عن روحها ومقاصدها ووظيفتها الأسمى في تأطير الاختلاف، ورفع الخلاف، تحقيقا لوحدة الأمة بمختلف مكوناتها؛ كفالة لحقوق أفردها وضمانا لحرياتهم وكرامتهم”.
مصادرة حق
في تفاعلها مع تصريحات وزير العدل، اعتبرت بثينة القروري، رئيسة منتدى الزهراء للمرأة المغربية والقيادية في حزب العدالة والتنمية، أن “وهبي أعطى لنفسه الحق في الحلول محل الملك بصفته أميرًا للمؤمنين، وشرع في تفسير المقصود بقولته التاريخية: ‘بصفتي أمير المؤمنين فلن أُحِلَّ ما حرم الله ولن أُحرِّم ما أحل الله”، ليشحنها بالمضامين التي يريدها هو”.
وأضافت القروري، في تصريح لجريدة هسبريس، أن وزير العدل “روج مجموعة الادعاءات والافتراءات عن علم المقاصد الشرعية الذي له أدواته العلمية والمعرفية التي يفتقر لها السيد الوزير؛ ليهاجم كل من يستشهد بهذه المقولة في النقاش المجتمعي الدائر حول موضوع الأسرة، متهما إياهم بـ’الدكتاتورية الدينية’ و’التوظيف الإيديولوجي’ للمقولة”.
وأكدت القيادية الإسلامية أن الوزير “ليس من حقه مصادرة حق القوى المجتمعية بمختلف مشاربها، وإن اختلف معها، في النقاش العمومي، وممارسة ديكتاتوريته السلطوية على الناس ليحدد لهم متى وكيف يستشهدون بمضامين الخطاب الملكي”، مشددة على أن ما سمتها “القوى الحية في البلاد” يحق لها أن “تدافع عن رؤيتها الإصلاحية لمدونة الأسرة انطلاقا من المرجعية الإسلامية التي هي مرجعية أمير المؤمنين”، حسب تعبيرها.
ونبهت المتحدثة ذاتها إلى الضوابط التي وضعها ملك البلاد بصفته أميرا للمؤمنين في هذا الإصلاح، وأعربت عن حق التيار الذي تمثله في التصدي بالحجة العلمية لمن يريد “نسف الدلالات الشرعية والتشريعية لمؤسسة أمير المؤمنين”، معتبرة أن الخطاب الملكي “واضح لا يحتمل التأويل”.
وتابعت القروري مبينة أن “الاجتهاد الذي يتحدث عنه أمير المؤمنين في خطابه له أهله القادرون عليه، ولا يحتاج رئيس المجلس العلمي الأعلى وأعضاؤه لأمثال وهبي ليشرح لهم مقاصد الشريعة الإسلامية وضرورة الاجتهاد”، كما شددت على أن إصلاح الأسرة “لا يرتبط فقط بمدونة الأسرة، ولكن له علاقة مباشرة بالشروط الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها الأسرة المغربية، والتي هي نتيجة طبيعية للسياسات العمومية التي هي مسؤولية هذه الحكومة”.
وأعربت المتحدثة ذاتها عن خشيتها من أن تكون “الإشكالات” التي تعيشها الحكومة هي الدافع وراء “افتعال المواجهة الإيديولوجية في موضوع يحتاج إلى نقاش هادئ بين المتخصصين على أرضية ما تعيشه المرأة والأسرة المغربيتين من مشاكل حقيقية”، حسب تعبيرها.
مواجهة ساخنة
المحلل السياسي محمد شقير يرى أن الجدل الحاصل بين وزير العدل وحزب العدالة والتنمية حول إصلاح مدونة الأسرة والقانون الجنائي إعادة للصراع الذي واكب إعداد المدونة، “من خلال المسيرات التي كانت قد نظمت من طرف الحداثيين والإسلاميين، إلى أن تم إصدارها سنة 2004”.
وأضاف شقير في حديث لجريدة هسبريس: “الأمر نفسه يحدث بالنسبة لتعديل هذه المدونة، بعدما ظهرت بعض النقائص فيها. والصراع سيكون محتدما خلال الأسابيع والأشهر المقبلة بين المعسكرين، وكلما تم النقاش في ما يتعلق بتفاصيل المدونة إلا وزاد هذا التجاذب”.
واعتبر المحلل السياسي ذاته أن “من بين المواضيع التي تثير الجدل بين التوجهين مسألة زواج القاصرات والعلاقات الرضائية وقضايا الإرث والإجهاض، والتي تشكل الأسس الإيديولوجية والسياسية لحزب العدالة والتنمية، الذي يعاني من تراجع كبير بعد النكسة الانتخابية التي مني بها في 2021، وسيركز بالأساس على مثل هذه المواضيع لاسترجاع بعض تعاطف الرأي العام وقوته الانتخابية والسياسية”.
“الشعبوية” ومصلحة الدولة
وسجل شقير أن وزير العدل الذي يحسب على تيار الحداثيين “معروف بنوع من الشعبوية”، وزاد: “أظن أن هذا الأمر سيزيد من حدة هذا الجدل، لأن المسألة تنعكس من خلال تبادل الرؤى والاتهامات، ما يجعلها تأخذ بعدا ليس قانونيا، وإنما شعبويا وسياسويا، نظرا لطبيعة رئيسي الحزبين (وهبي وبنكيران)”.
وأشار المتحدث ذاته إلى أهمية الابتعاد عما سماها “الخرجات الدعائية”، والتركيز بالأساس على المصلحة العليا للدولة في ما يتعلق بالمدونة والقانون الجنائي، مطالبا النخب بخلق إطار لمناقشة هذه المواضيع يتسم بـ”الرزانة والمسؤولية، لتطوير وتعديل مدونة الأسرة وتجنب كل العيوب التي شابتها خلال أكثر من 20 سنة، كما هو الشأن بالنسبة للقانون الجنائي”.
وشدد المحلل ذاته على أن الأهم بالنسبة للمغرب هو “الحصول على ترسانة قانونية تتجاوب مع الأوضاع الجديدة والتطورات التي عرفها المجتمع، بعيدا عن البهرجة السياسية”، لافتا إلى أن “الملك حدد الإطار الذي ينبغي أن يجري فيه الإصلاح بشكل واضح، عندما قال في خطابه إنه لن يحرم ما أحل الله ولن يحلل ما حرم الله؛ وبالتالي على مكونات المشهد السياسي ألا تنساق وراء تجاذبات عقيمة، وإنما تركز بالأساس على ما يهم الدولة وإيجاد الحلول للمشاكل التي تواجهها مكونات المجتمع المغربي”.
المصدر: وكالات