كنت بين الفترة والأخرى أفكر في أحجام الناس وتناقص أطوالهم، خاصة عندما يمر بي حديث أن آدم عليه السلام كان طوله ستون ذراعا في السماء وأن الناس بدأو يتناقصون بعد ذلك.
وأثناء قراءاتي المتفرقة في تاريخ الأرض والإنسان والمستحدثات والجيولوجيا كنت أتأمل فيها، وأحاول الجمع بين الأمور والوقوف مع الفوارق، ولعلي هنا أذكر وقفات يسيرة في هذا الموضوع.
ما ورد في كتب السير من أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان طويلا جدا وأن قدماه كانت تلامس الأرض وهو فوق الخيل أظن أن هذا مبالغ فيه من قبل القُصَّاص وأنه لم يكن بهذا الطول المفرط، وأن الصحابة رضوان الله عليهم والناس في ذلك الزمان وأهل مكة، وبقية البشر الذين كانوا موجودين في فارس والروم ومصر والصين والهند وغيرها كانت أحجامهم بنفس أحجامنا تماما ما بين الطويل والمتوسط والقصير، وتدل المكتشفات والآثار والبنايات على ذلك.
بل أن هذا هو حال الناس حتى قبل قرابة ألفي سنة قبل الميلاد وأربعة آلاف سنة من الآن، والدليل على ذلك مقام إبراهيم عليه السلام أمام الكعبة المشرفة، فأقدامه بنفس حجم أقدامنا، تدل على أنه كان بنفس أحجام الناس الآن، ومثلها أحجام المومياوات الفرعونية المجودة في مصر.
ولما تطور الناس في العلم، وتعرفوا على اكتشاف أعمار المستحاثات والمومياوات من خلال كربون 14 والتأريخ الإشعاعي، فإن مومياء (أوتزي) رجل الثلج المكتشفة في جبال الألب سنة 1991م قدر العلماء عمرها بحوالي 3400 سنة قبل الميلاد، أي أكثر من خمسة آلاف سنة من الآن، وكان طوله 160 سم، وهو نفس أحجام الناس العاديين.
بل إن مومياء كهف الروح وهي أقدم مومياء بشرية تم اكتشافها حتى الآن، فبالكربون المشع وجدوا أن عمرها يصل إلى 9200 سنة، وهي بنفس أحجامنا أيضا.
وهي كذلك توافق أحجام الناس الذين كانوا في أقدم البنايات المكتشفة حتى الآن (كوبيكلي تبه) في تركيا التي تعود إلى 9500 أو 11 ألف سنة قبل الميلاد، وهي بنايات عادية لا تدل على أن الناس كانوا عمالقة.
ولو نظرنا في المستحاثات البشرية لعلنا نذكر مثالا لحفرية اسمها (صبي توركانا)، وهو أقدم هيكل عظمي بشري مكتمل تم اكتشافه حتى الآن، رممه العلماء وركبوا أجزاءه فكان لطفل واقف منتصب القدمين عمره ما بين 7 إلى 11 سنة، وبقياس الإشعاع تبين أن هذا الهيكل يعود إلى مليون وستمائة ألف سنة، وهو موجود في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، وطوله مثل طول أطفالنا لا يزيد عنهم.
لعل هذه الإلماحة السريعة نخلص من خلالها إلى أن البشر منذ ملايين السنين كانوا بنفس أحجامهم الآن، وأنه إن صح الحديث بأن آدم عليه السلام كان طوله 60 ذراعا في السماء، فإننا أمام احتمالات:
إما أن يكون الحديث غير صحيح مَتناً وإن صحّ سَنَداً.
أو أن هذا حال أبينا آدم في الجنة لخصوصيتها قبل نزوله إلى الأرض، وأنه لما نزل إلى الأرض اختلف حاله ليلائم سُكنى الأرض.
أو أن هذا خاص بأبي البشر آدم عليه السلام لا ذريته.
أو أن الحديث صحيح سنداً ومَتناً وهو على ظاهره في تناقص طول ذريته، وإن قلنا ذلك فهو دليل على أن تاريخ البشرية قديم جدا جدا منذ أن عمروا هذه الأرض، وأن ذلك يعود لملايين من السنين، خاصة وأن العلماء يقدرون عمر الأرض بحوالي أربعة مليار ونصف من السنين، فمنذ مليوني سنة كان طول الناس بنفس طولهم الآن، ولكي يكون طولهم ستون ذراعا فإن نسبة التناقص تحتاج إلى ملايين وملايين من السنين والآماد والحقب والدهور الغابرة.
وإن قال قائل فما بال العماليق الذين ذكرتهم كتب التاريخ الإسلامي فنقول إن هؤلاء صنف من الناس اختصهم الله بطول الأجساد وضخامتها، ولكنها لا تصل إلى الحد الذي يقترب من طول أبينا آدم عليه السلام، وهؤلاء العمالقة والجبابرة مثلهم قوم عاد الذين قال الله فيهم: {إردم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد}، أو طالوت الذي قال الله فيه: {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطةً في العلم والجسم}.
وهذا لا يمنع من وجود أناس يزداد طولهم عن غيرهم بسبب طفرة جينية كأن يصل طول إنسان إلى 272 سم وهو طول أطول بشر تم تسجيله حسب موسوعة غينيس للأرقام القياسية للأمريكي (روبيرت وادلو)، فإن هذا يختلف عن موضوع تناقص أطوال البشر.
فوجود فئة من الناس يزيدون في أحجامهم عن البقية هذا أمر مقبول، وهو مثل التغير الموجود في الشعوب من ناحية أشكالهم وأحجامهم، يظهر هذا بالمقارنة بين أحجام وأشكال الآسيويين والأفارقة والأفغان والأوروبيين، وهلم جرا. لكن الحديث عن طول إنسان يمتد لستين ذراعا في السماء قريبا من 27 مترا ثم تناقص ذراريه بعد ذلك ليصل طول الواحد منهم إلى 170 سم؛ فهذا هو الموضوع اللافت الذي يحتاج إلى مزيد بحث وتأمل.