كتاب جديد وقعه الأكاديمي ووزير الاقتصاد سابقا فتح الله ولعلو، يشرّح فيه واقع بروز ثنائية قطبية عالمية جديدة، ويحث فيه على ضرورة “الانتباه إلى أنفسنا” في ظلّ تطورات “العالم المعقّد”، لا الاكتفاء بمتابعته في التلفاز.
وبالمعرض الدولي للكتاب والنشر، الذي اختتم أطوار دورته 28 أمس الأحد في الرباط، ذكّر ولعلو بمعالم القطبية العالمية السابقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، والحروب الجهوية الحقيقية في كوريا، وفيتنام، وسؤال الصواريخ السوفياتية بكوبا سنة 1962 التي كانت ستؤدي إلى حرب عالمية.
هذه التطورات “خلقت توازن الخوف”، بالنسبة للمتدخل، مع “استمرار التنافس” بين القوّتين، في ظل محاولة خلق “قوة ثالثة” في فترة حصول عدد من الدول على استقلالها، في باندونغ سنة 1955، التي حضر علال الفاسي اجتماعها باسم المغرب.
وذكّر ولعلو بتطور التنظير للبلدان في طريق التنمية، ومفهوم “العالم الثالث”، الذي صاغه ألفريد سوفي واستعمله سنة 1952، وبزوغ “دول عدم الانحياز” في بلغراد، باعتبارها ليست مع القوتين العالميتين. كما استحضر بعض ما نتج عنها سياسيا من طرف جمال عبد الناصر وحزب “البعث”، اللذين خلقا “أنظمة يحكمها الجيش أو الحزب الوحيد”، قبل أن يفقد التحالف البديل بسرعة “وحدته وفعاليته” بعد الهزيمة العربية سنة 1967.
هذا العالم شهد أيضا، حسب المتحدث، ظهور القوى الاقتصادية النامية مثل كوريا واليابان، وقادت فيه الأزمات البترولية سنة 1973 دولا كاملة إلى الغنى دون أن تكون نامية، قبل أن يزيد: “لقد خسر العالم الثالث الكثير بانهيار الاتحاد السوفياتي”.
هذا الانهيار جاء في عالم عولمة الاقتصاد، ومنافسة بلغت “حرب النجوم” في عهد الرئيس الأمريكي ريغان، واستمر بعده “تصعيد المنافسة التقنية”، التي “لم يستطع مواكبتها الاتحاد السوفياتي”، مع كشف الاقتصادي أسبابا أخرى للقوة الأمريكية في المنافسة، منها اختيار الرئيس الأمريكي نيكسون، عند الانتباه إلى الضعف النسبي للاقتصاد الأمريكي أمام اليابان وأوروبا وخاصة ألمانيا، وضعَ حدّ للاتفاقات حول المالية العالمية، وتقوية مكانة وتموقع عملة الدولار عالميا.
ويرى ولعلو أن من التواريخ الأساسية المؤثرة في انهيار القطبية الماضية سنةُ 1979، وهي سنة الرئيس ريغان ورئيسة الوزراء تاتشر، و”النيوليبرالية”، والعودة إلى “ليبرالية اليد الخفية”، وقرار البابا البولندي بول الثاني “مناهضة الشيوعية”، وغزو أفغانستان من طرف الاتحاد السوفياتي، وثورة الخميني بإيران، والهجمات على مكة، التي كانت “إرهاصات ظهور ما سمي بعد ذلك بالإسلام السياسي.”
وبعد الانهيار، ذكّر وزير الاقتصاد الأسبق بنظرية “نهاية التاريخ” لفوكوياما؛ فـ”لا يوجد إلا الاقتصاد الليبرالي والديمقراطية”، ونظرية “صدام الحضارات” لهنتنغتون، عصرا يلي عصر الصدامات السياسية والإيديولوجية والاستراتيجية، وهي النظرية التي ستجد من يدفعها بعد أحداث 11 شتنبر 2001.
وهكذا لأكثر من عشرين سنة عاش العالم عهد “الهيمنة الفائقة” للولايات المتحدة، التي كانت “تدير العالم”، إلى حدود صعود الصين، ولو أن “الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال القوة الأولى عالميا، ولا تزال تدافع عن موقعها”، الذي من بين أسباب قوته أن “الهجرة في أمريكا تمكن النظام من التجدد”، فضلا عن “قدرة الإشعاع الثقافي للنموذج الأمريكي الذي يخترق كل المجتمعات، لسانيا وسينمائيا وموسيقيا، ويهين ماليا مع الدولار”.
رغم كل هذا لأمريكا “حدود”؛ فهي “مجتمع منقسم مع ظاهرة ترامب، و”البيض” يخافون من أن يصيروا أقلية، وسيصيرون، فيقاومون مقاومة غير يسيرة، لكن للبلد بفضل الهجرة قدرة على تشبيب ديمغرافيته”.
أما الصين، ثاني القطبين العالميين، فقد صارت خلال 40 سنة “قوة كبرى، بعدما كانت بلدا فقيرا في التنمية؛ وهي القوة الصناعية الأولى في العالم، وفي التصدير، وقوة تقنية”.
الصين، حسب المحاضر المقدِّم معالمَ كتابهِ الجديد، “مختلفة عن القوى الكبرى، فهي قوة شاملة لأن لها تاريخا، وهو ما ليس للولايات المتحدة التي يوجد تاريخها بأوروبا، وهي قوة اقتصادية وهو ما لم يكن للاتحاد السوفياتي ولا لروسيا اليوم، فهي اقتصاديا مثل إسبانيا أو إيطاليا. كما أن الصين قوة نووية، واستراتيجيةٌ عكس أوروبا التي ليست لها وحدة سياسية واستراتيجية”.
هذه الصين يهددها “مشكل الشيخوخة، الذي تعيشه منذ ثلاثين سنة اليابان، وتقاومه الأولى، بعد عقيدة الطفل الواحد التي اقتصدت 400 مليون إضافية في تعداد الساكنة، لكن بعد رفع الحظر تريد العائلات اليوم الحفاظ على هذه العادة ولو أن الدولة تشجع على الولادة”.
الصين أيضا “لها مشكل أن محيطها دولٌ معادية، مثل اليابان وكوريا وفيتنام والفلبين وأستراليا”، لكن “قوتها العظيمة أن هناك حاجة مشتركة بينها”، أي أن لها رغم القرب من الولايات المتحدة مصالح مشتركة مرتبطة.
ويفسر ولعلو الموقع العالمي الحالي للصين بعدد من العوامل، أولها “11 شتنبر”، وانضمام الصين سنة 2001 إلى “منظمة التجارة العالمية” لأن الرئيس الأمريكي كلينتون “ظنها ستندمج بذلك تماما في الاقتصاد العالمي”، ثم لما حلّت “أزمة 2008 المالية، التي ولدت في الولايات المتحدة وانتشرت خاصة في أوروبا، وصارتا مدينَتين، أخذ الرئيس الأمريكي مبادرة مجموعة العشرين وبها الصين، إلى جانب الدول الأكثر تنمية “جي 7″، وبالأَولى الصين، للنهوض ضد الأزمة”.
وهكذا أنقذت الصين “أزمة 2008، وتغيرت موازين القوى، بل ساعدت أمريكا، وصارت “مجموعة العشرين” أهم من “مجموعة السبع”، وصارت اليوم في قلب “مجموعة العشرين” مجموعة الاثنين “ج 2″، الولايات المتحدة والصين، اللّتين باتفاقهما نجحت مثلا قمة المناخ بباريس”.
ومع حرب أوكرانيا، يقدّر ولعلو أن “الدول النامية” ستبدأ بفرض اسمها، كما ذكر أن “مشكل تايوان أساسي؛ فهي قوية اقتصاديا، وشريكها الاقتصادي الأول هو الصين، ويحتاجان بعضهما بسبب التصنيع”، قبل أن يتابع قائلا: “من يهيمن على شِبه الموصلات والذكاء الصناعي سيهيمن على العالم”.
وحول حرب أوكرانيا ذكر المحاضر أن “الولايات المتحدة والصين لهما كلمتهما في إنهاء هذه الحرب، لكن الجديد أن “دول الجنوب”، العالم الثالث القديم، صار لها وعي بأن لها دور، مثل السعودية التي كانت تعتبر تابعة للولايات المتحدة الأمريكية، وصارت مستقلة أكثر فأكثر، ومن بين أوجه ذلك رفضها زيادة الإنتاج البترولي الذي طلبته الولايات المتحدة”.
وفي قراءة المشهد الدولي، نبّه ولعلو إلى ضرورة عدم نسيان “الهند التي لها تقليد في عدم الانحياز، وإندونيسيا التي تمثّل قوة كبرى؛ فهما تبنيان الجنوب العالمي: استراتيجية تجيب عن احتياجاتهما، ومصالحهما الاقتصادية”.
وزاد: “ما يهم أمريكا في العمق هو آسيا، فهي تعرف أن المواجهة غدا ستكون مع الصين، لذلك تريد الخروج شيئا فشيئا خلال الثلاثين أو الأربعين سنة القادمة من أوروبا والشرق الأوسط، بعدما لم تعد لها حاجة بالبترول الذي سيتم تجاوزه، والسعودية مع القيادة الجديدة فهمت أنه يجب التحضير لما بعد النفط”. كما تبحث أمريكا عن “حل المشكلة مع إيران، لكن الاستراتيجية الأساسية هي آسيا، ووقع فيها ارتباك بسبب أوكرانيا، فعادت إلى أوروبا لتطويق روسيا وتحييد الصين قليلا”.
كما قال إن “الولايات التي أرادت الابتعاد عن أوروبا والشرق الأوسط، مع سؤال أوكرانيا عادت إلى أوروبا وصارت تهيمن عليها، ولو أن أوروبا تبحث عن الاستقلالية”، وهو ما تمنى أن تعيه هذه القارة لأنها “القارة الجارة، ولنا علاقات تاريخية وجغرافية”، ولو أن “المشكل مع الجنوب هو تاريخ الاستعمار، وهو مجهود يُنتظَر أن يتم”.
وواصل: “إفريقيا تعرف انفجارا سكانيا مذهلا، وفي نهاية القرن 40 في المائة من الساكنة العالمية ستكون إفريقية، وتعداد ساكنة نيجيريا سيصير أكثر من الصين، مع تشكيل الشباب نصف الساكنة اليوم”، ثم قال: “ما يهمني نحن، وقدرتنا على الجواب على هذه الرهانات، آمل هذا، وعلينا العمل من أجله”، في ظل توجه إلى “عالم متعدد الأقطاب”، علما أن “الأهمية لقيمة العمل، والانضباط لقيمة العمل، ثقافيا وعمليا، يولد القدرة على الوجود، وأن تكون هنا (حاضرا)”.
المصدر: وكالات