1
من الادعاء القول بإمكانية الإلمام بمجمل الخصوصيات التي تميّز المسار الإبداعي للكاتب إدمون عمران المليح، خاصة حين يتعلق الأمر بتركيز التفكير حول أسئلة تتجاوز في أساسها مسار كاتب مفرد، وتودّ أن تلحقه بسياق اجتماعي وتاريخي وسياسي فاعل في الساحة الأدبية والثقافية بالمغرب منذ أربعة عقود ونيف، حتى يكون بالإمكان إبراز ماهية الأدب ووظيفته كما أفرزتها تجارب متلاحقة من الإبداع تميّزت بالطلائعية والإنصات النبيه لنبض الحالة الاجتماعية على نحو صريح أو مضمر.
لقد بينت العديد من الدراسات إن الإبداع الأدبي بالمغرب كان ينسج خصوصيته من السياق الثقافي والفكري العامّ الذي ميّز التحوّلات الاجتماعية بالرغم من العوائق المتعددة التي رافقت وترافق إنتاجه وتداوله. وظلّ التساؤل عن الدور الذي يمكن أن يضطلع به الخطاب الإبداعي حاضرا سواء استمدّ منبعه من حمولات “الوعي السياسي” أو “استقلّ عنهما”، فإن توقعاته الفنية ظلت محتفلة بقيم إنسانية غنية ومراهنة على جدوى الحداثة والحرية والديمقراطية والمحبة والكرامة … رغم الوضع المفارق الذي يحياه المجتمع بين تطلعه نحو تحديث المؤسسات، وبين وضع ثقافي محكوم بعتاقة فكرية جلية وظاهرة.
وحين أعود اليوم لقراءة بعض ما أبدعه عمران المليح من قصص وروايات أفترض أن القيمة الرمزية لكتابته الإبداعية تأتي من تصوّره للأدب يقرنه بتجربته الخصبة في الحياة والسياسة؛ فتكون مقوّمات الأدب لديه ارتدادا لأصوات كينونة مهملة ولغة معتّقة، وذاكرة منسية.
يقال في العادة إن النصوص الإبداعية تتضمّن هوية كاتبها.
هذا قول يصدق على كاتبنا عمران المليح؛ لأن نصوصه تلائم وضعا وجوديا أغنته دون شكّ تجربته السياسية لمّا كان المليح مناضلا بالحزب الشيوعي المغربي، وقبل أن يعتزل السياسة ويعانق فضاء الأدب والفنّ والفكر بتلوينات نوعية متواصلة.
لم يأت عمران المليح إلى الأدب بمحض الصدفة، أو تحقيقا لنزوة مزاجية في وقت متأخر مطلع الثمانينات. كان ولوجه فضاء الأدب تتويجا لتجربة وترسيخا لموهبة. ولذلك، فإن نصوص عمران المليح تقول صاحبها دون تردّد بكلم محكم البلاغة ورشيق العبارة. لقد آمن المليح باختيار تمثلته كتابته الإبداعية يفيد بأن الأدب مطالب (على الدوام ومن حين لآخر ربما) بإيجاد صيغ جديدة لوضع الكتابة؛ ولأن المليح يكتب بالاقتناع والتجربة، فإنه يرهن أدبه بالمواقف التي تحفظ للإنسان كرامته وهويته وسعيه نحو التسامح. ولذلك، فإن قصصه ورواياته من ألفها إلى يائها تعبر عن هذه الحقيقة بدون مراوغة أو مجاز.
2
لماّ كتب المليح نصّه التأسيسي “المجرى الثابت” فقد جعله ملتقى لتقاطع تجربته الذاتية في النضال والسياسة والحياة مع تاريخ وذاكرة مجتمع مغربي قاوم الاستعمار وتخطى عتبة الاستقلال ولم تتوضح بعد معالم الأفق المطمئن؛ حتى وضْع البطل في الرواية يبدو مُضعّفا: “جوسوا” في القسم الأول، و”عيسى” فيما تبقى من فصول. “جوسوا” قرين لآخر “عيسى”، وهو قرين أسماء أخرى وحيوات أخرى، إمكانات واقعية وخيالية ومصائر متوازية تجري لكي تلتقي ربما يوما ما أو لا تلتقي أبدا (المجرى الثابت، ترجمة محمد برادة، الفنك،1993 ص 61).
“جوسوا”: صوت وصورة لطفولة تقاوم النسيان، وتحتفي بنتف حلم يدعو إلى الفرح، وعيسى صوت وصورة من لحظات نضال سياسي طافح بأهوال الاعتقال والتعذيب؛ “المجرى الثابت”: تجاور لأصوات وصور من مصير تجربة ذاتية وتاريخ سري … حكايات ثابتة للصبر الجميل (ص103).
وحين كتب عمران المليح روايته “أيلان أو ليل الحكي” بأسلوب شاعري شفاف ومرهف الأحاسيس، فلكي يتخطى واقع الخيبة والتردي والتهميش الاجتماعي الذي تلا سنوات ما بعد الاستقلال؛ واقع تشهد الرواية على انكسار أحلامه. ولذلك، تداري كل الشخصيات هنا همومها اليومية بالمكابدة، لعلها تعرف أن “الكفاح من أجل الاستقلال، التاريخ يختلط بأيام الحماية، تلك الأيام من الأمل الناعم الشفاف، من الوعود المستقبلية، من الشدة القاسية، من التضحيات، من الحياة المطالبة بحرارة ذاك التاريخ على غرار التاريخ بمفهومه المطلق، انطوى على التجريد، على الغائية المبتذلة (أيلان أو ليل الحكي، ترجمة علي تزلكاد، مراجعة محمد بنيس، توبقال 1987، ص 109).
من هنا، أعتبر هذه الرواية من أعمق نصوص المليح تعبيرا عن الحبّ والمحنة، وهي تدعونا لنؤمن بأن “الكتابة تمرّ بكل جرأة عبر الابتذال اليومي للوجوه البشرية التي تترك بصماتها على الزمن والحدث” (ص 114).
أما حين يتساءل الراوي في مستهلّ رواية “ألف عام بيوم واحد”: هل فعلا وقعت حرب لبنان؟ فلكي يعبر بنا إلى تساؤل آخر يختزل سيرة البطل “نسيم” لأنه كائن من لحم ودم وليس شخصا من تلك الشخوص الغيبية التي تحبل بها أساطير الأولين. وإذا ما كانت حياته تحاك من هاته الأساطير فذلك لأن مسافة معينة تتحفز دائما انطلاقا من مصدره الإنساني: حياة رجل عادي جدا، فلأي شيء ترجع هاته الحالة التي تحيط بحياته وتغذي الحلم وتغذي معه هذا التوثب الهائل للخيال؟ (ألف عام بيوم واحد، ترجمة أحمد صبري، الفنك 1991، ص 15 / 16).
الخيال في هذه الرواية نوستالجيا تستدعيها زيارة “نسيم” للمغرب والتقاؤه في آسفي بأصدقاء قدامى، زيارة تبدو مسكونة بفكرة التخلص من الماضي، إلا أنها تدرك في ما بعد أن الأمر بدونه يبدو مستعصيا لفهم الزمن الحاضر حين يكون شاهدا على جرائم الجيش الإسرائيلي في لبنان؛ حياة “ترسم الماضي في غضون المستقبل (ص 38)”، وتحتمي بحرارة الذكريات وصفاء اللقاءات والصداقات بآسفي والصويرة؛ يحاول “نسيم” استعادة توازنه الشخصي بعدما حلّ بالبلاد منذ بضعة أيام منهوكا إلى حدّ المرض، وكان يحاول جاهدا فكّ الخناق المضروب على أفكاره…
“السي الهاشمي” صديقه يعدّ الشاي ولقد مرّ عليه زمان وهو ينتظر زيارة “نسيم” لأنهما كانا يشعران وكأنهما من أسرة واحدة، كما كان يحلو له أن يقول دائما (ص 40). صورة معبّرة عن التعايش والتسامح بين اليهود والمسلمين كما تستبطنها ذاكرة كلّ من “الهاشمي” و “نسيم” من أعماق تاريخ ووطن مشترك.
هكذا، تبدو رواية “ألف عام بيوم واحد” منتزعة من مناطق الصمت في حياة “نسيم” حين يحكي بجرأة نادرة عن فظائع الجيش الإسرائيلي في لبنان وحياة الأصدقاء والأقارب بآسفي وأمزميز وبيروت لمقاومة وعي تحاصره الخيبة والفجيعة. يحيا “نسيم” اليومي والمألوف من أجل المحبة، ويحيا الماضي منذ ألف عام بيوم واحد من أجل الكرامة.
3
أخذا بالاعتبار ما سلف، تتضح أهمية الإبداع الأدبي الذي استطاع إدمون عمران المليح الإسهام به في إغناء حقلنا الثقافي المغربي المعاصر؛ وبوسعنا اليوم أن نقرأ إبداعه بابتهاج لأنه صنوُ الحياة وحمّال لمشاعر إنسانية عميقة تقاوم التهميش والإهمال والنسيان، وغبار الأيام، وغربة الأجساد، والأفئدة. ولا غرابة أن يكون إبداعه الأدبي موسوما بشاعرية مرهفة مصدرها احتفاله بتلوينات لغوية متنوعة، ومكتوبا بواقعية انتقادية ببعديها الساخر والرمزي.
بهذا المعنى، أفترض أن عمران المليح لم يكتب نصوصه دفعة واحدة، بل كتبها لحظة لحظة راسما بالكلمات عالما رحبا من المواقف النبيلة والحالمة بغد أفضل… يدعونا لأن نفرح ليكشف الله عنّا ما نحن فيه من غُمّة.
المصدر: وكالات