بين تاريخ الجمال وتصوراته، وتاريخ المغرب وتعدد تعبيراته، وتاريخ الثقافات والشعوب التي أثرت وتأثرت بهذا القطر من أقطار العالم الواسع، يقدم “المتحف الوطني للحلي” بالأوداية بالرباط تجربة خاصة ودالة وغنية.
هذا المتحف يقطن الحديقة الأندلسية بقصبة الأوداية التاريخية، التي تحد مصب نهر بوركراك في المحيط الأطلسي، وبنايته، التي تعود إلى القرن 17، جزء من هذا النسيج العام المغربي، معمارا، زلّيجا، رحابة، أبوابا ومنافذَ للضوء والنسيم، ونقوشا يضمّها رياض رحب.
هذا المتحف لا يقتصر على استعراض حليّ تزيّنت بها مغربيات وتجمّل بها مغاربة عبر التاريخ، بل يجدد خطابه بناء على تطورات الاستكشافات الأثرية، مقدما من جهته خطابا يتحدى افتراضات وتأويلات صاغها مؤرخون آمنوا بالمركزية الأوروبية زمن الاحتلال الأجنبي، كما يقدم الحمولات المختلفة لوسائل الزينة المتعلقة بالدين، والانتماء، واعتقاداتِ دفعِ الشر.
ومن بين ما يستثمره المتحف ما تخبر به الاكتشافات الأركيولوجية في مناطق مثل بيزمون بالصويرة، التي وجدت بمغارة من مغاراتها أقدم حلي في العالم إلى حد الآن تعود إلى ما يزيد عن 142 ألف سنة، فضلا عن لقى ومواقع ونقوش بمناطق متعددة، كانت دليلا على وجود ورشات صنعت في مراحل تاريخية ولّت ألبسة وحليا وأكسسوارات أخرى.
هذا المتحف يتميز أيضا بعرض مجموعة من الحلي تنتمي إلى المجموعة الخاصة للملك محمد السادس، وهي مجموعة غنية تضم حليا من الريف، الأطلس المتوسط، الأطلس الكبير، الأطلس الصغير، الأطلس الصغير الأوسط، الأطلس الصغير الغربي، الجنوب الشرقي، المناطق شبه الصحراوية، وصولا إلى الصحراء المغربية.
وإلى جانب هذه الحلي والألبسة من المناطق القروية، يعرض المتحف حلي الحواضر الكبرى مثل مراكش، فاس، مكناس، تطوان، وجدة ومدن أخرى، وتقاليد اللباس والتجمّل عن المغاربة، مسلمين ويهودا.
وخُصص جانب من المعرض للقفطان المغربي، النسائي والرجالي، ومدارس إنتاجه الخمس. كما خصص جانبٌ آخر للتطور التاريخي لصناعة الحلي بالمغرب، وأدواتها، وألوانها، مع الوقوف عند الأثر المتوسطي في تطوير التقنيات وما يعتبر مغربيا، بفضل “العلاقات التجارية والثقافية”.
هذا المتحف هو أيضا بوابة للتعرف على بعض معاني الثقافة المغربية، بروافدها الواعية بذاتها أو المستمرة عبر الرموز والمعتقدات وتمظهراتها في الحلي واللباس، مثل “الخميسة” التي سمّاها دليل العرض “يد فاطمة”، ووصفها بكونها “أحد العناصر المركزية للثقافة في شمال إفريقيا”، وذكر ما يرتبط بها من تصورات وقائية استمرت مع الحضارة الإسلامية.
وفي “قالب سينوغرافي جميل وقالب علمي رصين” يقدم هذا المتحف، وفق عبد العزيز الإدريسي الذي أشرف علميا على فريق إعداده، “قراءة لتاريخنا الأثري والإثنوغرافي المتعدد، وبالتالي هذه محاولة لتقديم هذه الحلي على اعتبار كونها تمكن من استقراء وقراءة تاريخنا”.
هذه القراءة تهتم بتاريخ المغرب “تحقيبيا وجغرافيا”، وفق مدير متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر، وتبرز “الخصوصيات المحلية لكل منطقة على حدة، ونقاط الالتقاء بين المناطق من خلال هيمنة نوع معين من الحلي في فترات معينة، مما يعني اهتماما في لحظات بما أنتجته مدرسة من المدارس أو محترف من المحترفات، وهذا مهم جدا”.
وتابع الإدريسي، في تصريحه لهسبريس، قائلا إن “البحث الأثري وتطوره مكنا من وضع اليد على مجموعة من اللقى الأثرية المهمة، التي تعود إلى فترات متعاقبة فينيقية ورومانية…، ووضعت في قالب يمكن الزائر من الوقوف على هذه القطع في مراحلها المتعددة، منذ فترة ما قبل التاريخ وصولا إلى المراحل الإسلامية”.
الإدريسي أشار في كلمته خلال “الجولة الصحافية” إلى أهمية ما يقدَّم في المتحف لتجاوز أطروحات أوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين حول المغرب في العهد الروماني وما سبقه، صوَّرته متلقيا سلبيا.
يذكر أن هذه الأطروحات انتُقدت تاريخيا باستمرار في الجامعة المغربية وفي أبحاث عالمية، حول البلاد وبلدان أخرى، تسائل “المركزية الأوروبية أو الغربية”، أو تسائل من كتبوا “تاريخ عالَمهم الصغير، وهم يظنون أنهم يكتبون تاريخ العالَم”، حسب تعبير الأكاديمي لطفي بوشنتوف.
وفي ختام تصريحه لهسبريس، ذكر الإدريسي أن المعطيات الحديثة المبنية على الاكتشافات الأثرية أُدرجت في مسار عرض المتحف “من أجل المساهمة في إعادة قراءة تاريخنا”. قبل أن يجمل قائلا: “لقد تطورت ولله الحمد آليات البحث في هذا البلد، ولدينا متخصصون وباحثون وأساتذة يمكنهم أن يغيروا نظرتنا لتاريخنا. من الضروري أن يكون هذا أيضا أحد أدوار المتحف”.
المصدر: وكالات