ليس سهلا إجراء حوار مع مُفكر جاوز المئة سنة، ومع ذلك فقد قَبِل إدغار موران زيارة مجلتنا والإجابة على بعض أسئلتنا. أسئلة يتقاطع فيها الأنثروبولوجي بالاجتماعي، بالفلسفي، بالسياسي، وهي عينها المجالات التي استرعت اهتمام موران طيلة مساره الحياتي والفكري. هذا دون نسيان موقفه من بعض الأحداث الراهنة، وعلى رأسها الحرب على غزة. حوار شيق مع مُفكر مُغامر.
اليوم في عامكم الثالث بعد المئة، كيف حالكم؟
أنا فريسة لبعض الآلام الجسدية، لكن الذهنية صامدة!
لماذا أنتم مِئوي؟
آه لو كُنت أعلم! لا أملك سوى فرضيتين: فقد حافظت على كل طموحاتي، وعلى كل أنشطتي الفكرية، وعلى كل حبي لروائع الحياة واشمئزازي من وَحْشِيَاتِهَا. فَقَدْتُ الكثير من الأحباء لكن يَتَبَقَّى لي بعضهم. الصداقة وخاصة الحب، الحاضران دائما، يَصُونان حياتي. قَلَّمَا كانت لَدَيَّ ضغائن، أو غَيْرَات، أو مطامح باستثناء تمني أن تُنشر كُتبي وتُقرأ. هذا منعني من الضمور مع التقدم في العمر. أعتقد، في الحقيقة، أن الحب والفضول، اللذين حركاني طوال حياتي، يسمحان لي اليوم بالمُحافظة على الشباب في الشيخوخة.
أُضِيف، وهذا مهم، أنِّي عَانَيْتُ في وقت متأخر من مرضين خطيرين أنقذتني يقظة زوجتي منهما. الطبيب النسائي الذي قام بتوليد أمي أنقذني من الولادة مَيّتا؛ صَبَاح (زوجتي) أنقذتني من الموت في السنوات الأخيرة. مُرُونتي لوحدها لم تكن كافية؛ كان ضروريا في كل مرة أن يتدخل شخص آخر لإنقاذي.
خلال حياتكم، نَشَرْتُم من الكتب ما يفوق عدد سنوات عمركم. وَاحِدٌ من الأسئلة الكبرى الذي يعبر أعمالكم هو معرفة ما هو الكائن البشري. هل توصلتم إلى جواب؟
لقد كَتَبْتُ، في الواقع، حوالي عشرين كتابا مُهِمَّا في نظري. معرفة الإنسان حاضرة دائما بالنسبة لي كموضوع مُزدوج للاشتغال وللتفكير. من جهة، لم أتوقف عن مُسَاءلة المعرفة الإنسانية، واعيا بالأخطاء العديدة التي تجرها معها هذه الأخيرة (أخطاء الإدراك، والتواصل، والأيديولوجيا، الخ.)، في ما دعوته بمعرفة المعرفة. من جهة أخرى، منذ ندوة رويومونت حول “وحدة الإنسان” لسنة 1972، كُنت قد أدركت أنه لا ينبغي فصل الإنسان البيولوجي عن الإنسان الثقافي، ثم إنها العلاقة طبيعة-ثقافة ما استوقفني، الشيء نفسه عن الحيوانية المُتأصلة فيما فوق حيوانية الإنسان.
لم يكن ذلك سوى تمهيد، بما أني قد طورت بشكل أدق تصوري للإنسان في المجلد الخامس من “المنهج”، المَوْسُوم بـ”انسانية الإنسانية”، الصادر في 2001. أُعَرِّفُ الإنسان ثَالُوثِيا بصفته نوعا بيولوجيا، وحيوانا اجتماعيا، وفردا مُتفرِّدا. ولا بُعد من أبعاد الثالوث نوع-مجتمع-فرد يُمكن فصله عن البقية، بما أن كل اصطلاح، تم إنجابه من طرف اصطلاح آخر، يُنجب بدوره هذا الاصطلاح. الأفراد المُنْجَبِين يُنْجِبُون بدورهم أفرادا. الشيء نفسه عن المجتمع، فهو يرى النور بفضل التفاعلات المُنَظِّمَةَ بين الأفراد ويجعل منهم كائنات كاملة الإنسانية من خلال منحهم اللغة والثقافة.
في واحد من مؤلفاتكم الأولى “الإنسان والموت” (1951)، تَلْفِتُونَ النظر مسبقا إلى طبيعة ثنائية للبشر: الإنسان، بصفته حيوانا، فهو كائن حي لكنه أيضا حيوان واسع الخيال يسعى إلى نفي وضعه البيولوجي. هل هو أولا شكل من الالتباس الذي يُثير اهتمامكم عِنده؟
إن نفي وضعنا البيولوجي هو أمر حضاري. نحن في حضارة يطبعها التوراة حيث الله خلق الإنسان على صورته، وبالتالي مُختلف بشكل جذري عن الحيوانات. علاوة على ذلك فقد اتسمت حداثتنا بفصل ديكارتي بين الإنسان المُتَمَتِّع بعقل والحيوان (آلة محضة). ثم جاءت الحضارة الصناعية، سواء كانت رأسمالية أو سوفياتية، لتُتلف المحيط الحيوي بكافة أشكال التخريب والتلويث، واضعةً إيانا في مواجهة مُشكلة كبيرة يُمثلها الحفاظ على الكوكب.
عبثا حاولنا مَعْرِفة داروين، فنحن نُواصل حَجْبَ طبيعتنا الإنسانية المُنغمسة في الطبيعة الحَيَّة. أما بخصوص هذا الاهتمام بالطبيعة المُتعددة للإنسان، فيُمكن ملاحظة قيامي بِتَعْقِيد مفهوم الفرد: هذا، باحتوائه على كل إمكانيات العقل والجنون في الآن ذاته، فإنه إنسان عاقل بقدر ما هو إنسان مجنون. يبدو لي أن مشكلة الإنسان الكبيرة تَكْمُن في العلاقة عقل/عاطفة التي يجب جَدْلَنَتُهَا دون توقف: لا عاطفة بدون مصباح يُمثله العقل؛ لا عقل بدون عاطفة (إضافة إلى أن العقل المحض نفسه غير معقول بسبب تجريده).
لقد قٌمت أيضا بالتفريق بين الإنسان الصانع، صانع الأدوات، التقني، والإنسان صانع الأديان أو الأساطير، الإنسان الذي لا يُمكنه الاستغناء عن الأديان أو الأساطير. كذلك مَيَّزْتُ بين الإنسان الاقتصادي، الذي لا يبحث سوى عن مصلحته الشخصية، والإنسان ذي الأنشطة المجانية الكريمة أو اللاَّهِيَة. أخيرا، أردت تطوير معنى مقولة هرقليطس: “مستيقظون، ينامون”. فنحن أشباه ةمُشَاة أثناء النوم، بِنا مسُّ من القوى التي تجعلنا نعيش وتستثير نوازعنا.
إننا نملك داخل وعينا الكثير من اللاوعي، وهذا ما يستكمل التعقيد البشري ويجعل مِنَّا كائنات تراجيدية-كوميدية.
علاوة على الإنسان، هَوَسُكُم الكبير إذن هو الموت. فقد واجهتموه مُبكرا، بما أنكم وُلدتم ميتا وفقدتم والدتكم في سن العاشرة، حدث مَرِضْتَ جدا في أعقابه
نعم، لا أحد قبلي سبق له دراسة سلوك ومُعتقدات الإنسان أمام الموت من وجهة نظر المجتمعات والحضارات والتاريخ. الموضوع قد مَسَّنِي فعلا عن قرب بحكم الأحداث التي أشرتم إليها. هناك أيضا فترة الاحتلال والمقاومة، حيث كِدتُ في ثلاث مرات أتعرض للاعتقال من طرف الغيستابو. أعمام تم ترحيلهم وقتلهم؛ رفاق في المقاومة تم تعذيبهم وماتوا في السجن أو الترحيل. لقد أصبحتُ مُقاوما بِتجاوز خوفي الخاص من الموت في سن العشرين.
مَثَّلْتُم منذ سنة 1956، من خلال أعمال من قبيل “نقذ ذاتي” و”صُلب الموضوع” وعديد اليوميات التي نَشَرتُم، ما كان غير مألوف وحتى مُدَان في ذلك الوقت من طرف العلوم الإنسانية. كيف تقترن هذه الذاتية المُتَبَنَّاة بطريقتكم في فهم الكائن الإنساني؟
واحدة من مقولاتي المأثورة هي: لا معرفة من دون معرفة ذاتية. من أوجه قصور العلم الكلاسيكي إقصاؤه لمفهوم الـ”ذات” ولحقيقة أن الباحثين يُمثلون مواضيع إنسانية، الأمر الذي بَيَّنه الفيلسوف إيدموند هوسرل في سنوات 1930 في كتابه “أزمة العلوم الأوروبية”. الكثير من علماء الاجتماع، بعدم قدرتهم على المراجعة والنقد الذاتين، كأنهم على عرش أعلى من العالم الإنساني الذي ينتمون إليه.
لقد أنجزت تعريفا لمفهوم الـ”الذات”: إنه وضع المرء نفسه في مركز عالمه، ما ينجم عنه مركزية يتعذر تخطيها ونزوع نحو تغذية النفس والدفاع عنها. غير أن هذه المركزية تتسم، على النقيض، بميل نحو حب الآخر، ونحو البحث عن الوحدة والجماعة، الحب والأخوة. وهكذا نحصل-وخاصة في حضارتنا التي دَمَّرَت العديد من أشكال التضامن-على أفراد تغلب عليهم الأنانية، لكن نحصل أيضا على الكُرماء والمُحِبِّين.
نَشَرْتُم سنة 1973 كتاب “البراديغم المفقود”، تقترحون فيه ربط معارف العلوم الإنسانية فيما بينها ووصلها بالعلوم البيولوجية. ثمة بَحْثُ عن الوحدة الإنسانية ضد نظرة مُقَطَّعَة للمعارف التخصصية. يبدو أن فكرة الوحدة هذه لا تتماشى مع مصطلح “التعقيد” الشهير الخاص بكم، الذي استخدمتموه بعد ذلك
إن كلمة “تعقيد” تأتي من الكلمة اللاتينية «complexus»، “الذي يحتضن”. الفكر المُعقَّد فكر لا ينفي كل ما هو بسيط لكنه يُعانقه من دون أن يتوقف عنده. هو يسمح بالتفكير في كَوْنِ الوحدة لا تنفي التعدد، والعكس صحيح. المُشكلة هي أن بعض الأذهان تخلط بين التعقيد والتَّعَقُّد.
لقد تمت تربية الأغلبية على فصل الأشياء والمعارف والتخصصات، وليس ربطها حين يكون الموضوع مُعقدا. إنه ميل يُلاحظ بالمناسبة أكثر فأكثر في الأوقات الحالية.
إذا قَبِلْنَا بأن الإنسان لا يُعرَّف فقط بِما هو، وبِما كان، ولكن أيضا بكل الاحتمالات التي يحملها داخله، ما هو موقف عالم الإنسان الذي تكونونه من مشروع الإنسانية الانتقالية؟
يهدف مشروع الإنسانية الانتقالية إلى منح الإنسان قدرات فوق إنسانية، بدون أدنى تفكير أخلاقي. إنه يقترح تَقَدُّمات كمية محضة – ليس من قبيل الصدفة أن الحديث يجري عن إنسان مُزَيَّد – في حين كُنَّا بحاجة أولا إلى تحسين العلاقات الإنسانية والتقدمات الكيفية – إنسان “أفضل”.
الإنسانية الانتقالية تطمح إلى الخلود، الأمر الذي ليس سوى طُوبى لأن الشمس نفسها سوف تموت. وهي تميل أيضا إلى سيطرة الذكاء الاصطناعي على المجتمع. أعتقد أن العلوم والتقنيات سَتُواصل التطور وأن الإنسان بوسعه غزو كواكب. لكن هذه التطورات ستكون في حاجة إلى تجديد أخلاقي وتضامني مُفْتَقَدَيْنِ لدى دُعاة الإنسانية الانتقالية.
ليس فقط المُستقبل الذي يشغلكم، وإنما الحاضر أيضا، ولا سيما الأخبار الدولية. كانت لكم مؤخرا مواقف قوية حول الحرب في أوكرانيا، وهجوم السابع من أكتوبر والضربات الجارية في غزة. كيف تنظرون إلى الأمور اليوم؟
إن التاريخ الإنساني المُعَوْلَم يتعرض منذ العقود الأخيرة لانتكاسة سياسية وفكرية وأخلاقية في الآن ذاته، يُساهم فيها التدهور الايكولوجي للكوكب، خاصة مع محاولات نسيانه وحجبه أكثر فأكثر. حرب أوكرانيا ثم حرب غزة قامتا بمفاقمة وتوسيع هذه الانتكاسة، وباستثناء طارِئ يظل مُحتملا دائما، فإننا نتجه صوب كوارث مُحتملة. أما فيما يخص حرب أوكرانيا، فقد فشلت محاولة الضم الروسية، حتى إنها خلفت ضدها طلبات لحماية الناتو من طرف الدول الشمالية.
لقد استقر الوضع الحربي لشهور، ما كان بوسعه أن يسمح بضغط متعدد الجنسيات من أجل سلام كان بإمكانه أن يضمن الاستقلال السيادي لأوكرانيا، تحت حماية الناتو إذا اقتضى الأمر، لكن أيضا الطابع الروسي للأقاليم الانفصالية والطابع الخاص لشبه جزيرة القرم (1. 4 مليون روسي في إحصاء 2014 مُقابل 500 ألف أوكراني و300 ألف تتاري).
في الواقع، هذه الحرب، مع بقائها في حدود إقليمية، لم تُعولم فحسب، وإنما تنطوي على النزاعين الامبريالية الروسية والامبريالية الأمريكية التي تتمنى إضعاف روسيا بشكل دائم. وهي تُفاقم من ديكتاتورية بوتين ومن كراهية الأجانب المُعَادية للروس في أوكرانيا. كل هذا يقود إلى التصعيد بينما ينبغي أن يحدث دفع عالمي كبير نحو السلام. إن فلاديمير بوتين ديكتاتور فظيع، لكن الزعيم الصيني الذي خصصنا له استقبالا شرفيا منذ بضعة أشهر في باريس، أليس هو أيضا على رأس ديكتاتورية نيوتوتاليتارية؟
بخصوص غزة، أتفهم الصدمة الكبيرة التي سببها قَتْلُ ألفي إسرائيلي من طرف حماس، لكنِّي أجد غير مُتناسب الرد الذي يُبيد 30 ألف غزَّاوي ويتواصل حاليا على رفح. المشكلة الفلسطينية وجدت نفسها من جديد في قلب اهتمام العالم، غير أن لا حل – سواء حَلُّ الدولتين أو تشكيل كيان إسرائيلي-عربي كبير – مُمكن في ظل الظروف الحالية.
ما يبدو مُتوقع الحدوث، هو تحويل الاستعمار إلى أَسْرَأَلَةٍ شاملة للضفة الغربية. سيُطْرَدُ الفلسطينيون منها وسيُصبحون شتاتا في العالم كما كان اليهود في ظل الإمبراطورية الرومانية لقرون – لكن الشتات الفلسطيني سيكون هنا من فعل اليهود الذي يتولون مقاليد الحكم في الدولة الإسرائيلية.
إننا نعيش داخل فترة سوداء جديدة من التاريخ، تجرفنا صيرورة ستتضافر فيها التراجيديا الإيكولوجية للكوكب مع تراجيديات الحروب وأشكال الهيمنة والاضطهاد. إنها احتمالات ستكون مُيَئِّسة، لولا الإمكانية الحاضرة دائما لِغَيْرِ المُتَوقَّع الذي يُخلِّص ويُنقِذ.
ماذا تعتقدون أنكم أنجزتم؟ وماذا سَتُحِبُون أن يُؤخذ عنكم؟
كتابي “المنهج”، ومساهمتي في نزعة إنسانية مُتجددة.
إدغار موران، والله في كل هذا؟
أعتقد، مثل سبينوزا، أن خاصية الخلق تُوجد في الطبيعة، ولا يُمكن أن أؤمن بإله يقع خارج العالم. إذا كان هذا الإله موجودا، فسأتساءل عن خَالِقه. فكُلما تقدمت المعارف حول العالم، تقدمت الألغاز والغموض. ينطبق الشيء نفسه على الحياة. أنا أؤمن بالغامض، بمُتعذِّر المعرفة، بمُتعذِّر البلوغ من طرف ذكاءاتنا، ربما يُمكن استشعاره في الدفق الصوفي. إنه من حولي، إنه بداخلي، إنه في كل مكان.
Sciences Humaines, hors-série n°30, Août et Septembre 2024, Edgar Morin : le penseur instable
المصدر: وكالات