كتاب جديد يتتبع “فكرة الحراك الاجتماعي” في تاريخ المغرب الراهن منذ استقلاله سنة 1956 إلى المسيرة الخضراء سنة 1975، صدر للباحث إبراهيم أيت إزي عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان “الحراك الاجتماعي في مغرب ما بعد الاستقلال”.
وعبر صفحات تناهز الأربعمائة، يتتبع الكتاب “الحراك الاجتماعي والعسكري في المغرب منذ عام 1912، وأطرافه الفاعلة وصراعها مع السلطة وأسباب فشلها في مرحلة ما بعد الاستقلال”، للدلالة على “أشكال الاحتجاج الإنساني الرامية إلى التغيير بين عامَي 1956 و1975، تاريخ منعطف المسيرة الخضراء وتبني الخيار الديمقراطي، الذي تميز بالتوتر والصدام في سياق بناء الدولة الحديثة المستقلة وهيكلتها”.
ويتتبع هذا العمل أيضا، وفق ورقته التقديمية المفصلة، “ظاهرة الاحتجاج في المغرب منذ القرن التاسع عشر، مرورا بمرحلة الحماية، للمقارنة التاريخية المعتدلة، من دون اتهام أو تبرئة أو تعسف في الأحكام، مع تحري الحدث بموثوقية، مستعينا بعلوم السياسة والاجتماع السياسي والأنثروبولوجيا السياسية لسبر أحوال مغرب ما بعد الاستعمار”.
ويتساءل الكتاب حول “طبيعة المتغيرات التي مَست حراك المغاربة” و”المطالب والغايات”، و”هل كان نظام الحكم هو المخاطَب فيها دوما؟”، وهل تأطرت الحراكات “فكريا وتقنيا” أم ظلت عفوية كشأنها قبل الاستعمار؟ و”ما ردود فعل النظام؟ أظل الحراك يستقي من ثقافة المخزن، أم إن قوس الاستعمار أضفى عليه متغيرات وأذابَ عادات؟”.
وفي سبيل تقديم عناصر جواب، يرتكز العمل على ثلاث “دراسات حالة” للحراك الاجتماعي في المغرب بعد الاستقلال، هي: الريف 1958-1959، الدار البيضاء 23 مارس 1965، والعمليات المسلحة التي وقعت زمن السبعينيات (محاولتا الانقلاب عامَي 1971 و1972، وهجومات مارس 1973)، للكشف عن “العلاقات السببية بين أجزاء الظاهرة، وبناء تصور علمي عن ظاهرة الحراك الاجتماعي الراهن بالمغرب”.
ومن بين ما يخلص إليه الكتاب “اقتران حركية المجتمع المغربي بعامِل القَهْر والحرمان نفسه الذي حرك مجتمع القرن التاسع عشر وما قبله”؛ فـ”الجباية والتسخير فجّرا الريف بين عامَي 1958 و 1959 احتجاجا على الإهمال الاقتصادي واستفحال البطالة والفقر والأبوية المفروضة من الجنوب، كما تفجرت احتجاجات بروليتاريا الدار البيضاء في 23 مارس 1965 أمام تراجع مستوى المعيشة وأزمة التشغيل، وتوسل النظام العنف لكبح الصوت المعارض. كما أطلقا العمل المسلح لمحاولة قلب النظام بدايةَ السبعينيات، نتيجة للأوتوقراطية واحتكار أقلية سياسية للامتيازات”.
وتابعت خلاصات العمل الجديد: “التحرك الشعبي كانت نتيجته الفشل، لافتقاد الجماعات الحراكية أي بوصلة أو توجيه، وغياب المُعين الفكري، والتباس الأهداف والغايات، والعجز عن التحول إلى حركات اجتماعية منظمة وقادرة على المساهمة في التغيير العام؛ ما جعل واقع ما قبل الاستعمار يولد نفسَه مع حراك الريف القبَلي داخل إطار السيبة، وتجميد عناصر الحركة الشعبية دورها مع نداء الملك الأول في نونبر 1958، على الرغم من تواصل احتجاج بني ورياغل”.
ويضيف الكتاب أنه مع تراجُع دور القبيلة في الدار البيضاء وبروز فئات اجتماعية جديدة فيها، كالتلاميذ، انتهت الأحداث “نهاية تخريبية مؤسفة، بسبب مشاركة فئات من دون خلفية أيديولوجية ومتحدرة من بادية ممتدة لتشكل (فسيفساء) قبَلية داخل المدن من دون أي اندماج ثقافي أو مهني”.
كما كانت العمليات المسلحة في محاولتَي الانقلاب وهجومات الأطلس “عشوائية التحضير والتنفيذ، إلى درجة أن قوات هجوم الصخيرات عام 1971 كانت من طلبة يجهلون ما هم فيه ولماذا؛ بل منهم من لم يكن يعرف حتى صورة الملك. وفي العملية الثانية عام 1972، تكرر الاضطراب والفوضى (…) وفي عمليات “البلانكي” (اليسار) في مارس 1973 أتى التهافُت والتسرع على معظم عناصرها”.
ويواصل الكتاب: “التحول من البادية إلى المدينة، ومن القبيلة إلى الحزب، ومن الحِنطة إلى النقابة، ومن المخزن إلى المؤسسة الملكية، لم يمنع تعاملا مع الأحداث ينتمي إلى ما قبل عام 1912. فعلى الرغم من توافر ثقافة سياسية حديثة تأثرا بالمنظومات السياسية الكونية وثقافة ديمقراطية بحكم العيش في أوروبا، فإن الممارسة السياسية بقيت محكومة بشروط المحافظة والتقليد وثقافتهما”.
ويعود ثبات النسق السياسي المغربي بعد الاستقلال، وفق خلاصات العمل، إلى “التكاسل في التعديل الجذري للنظام القديم إثر الاحتكاك بالحضارة الغربية الحديثة؛ فاستمر النظام الأبوي يقود المجتمع، والملك عاهلا مُطلقا تحت شعار “الله والوطن والملك”، إلى جانب جهاز بيروقراطي مخالف لنظيرَيه في تونس والجزائر بعد الاستقلال، يفرض عدم قدرة المواطنين على المشاركة في أيّ من الشؤون العامة المضمونة دستوريا إذا لم تسمح به الدولة الأبوية؛ ما أجبر المواطن على العودة إلى بناه الأولية: العائلة، والإثنية، والقبيلة، والطائفة”.
ثم يسترسل شارحا أن “عطَب المجال السياسي المغربي وما يترتب عليه من أزمات اجتماعية هما وليدا تعثر الانتقال من زمن ما قبل الحماية إلى الزمن الراهن، والسبب في استمرار احتجاجات الحقل السياسي وأزماته حول فصل السلطات وكيفية توزيعها بين الملك والحكومة والمؤسسات الدستورية والمجالس التشريعية وحول مصداقية العملية الديمقراطية في حد ذاتها، وفي المحصلة لم يعد ممكنا تصور فكرة العقد الاجتماعي مع عدم إمكان المعارضة الشرعية”.
وهكذا، “كان التمرد بديلا توسل في عمله وسائل من صلب النظام القائم، ولم يستطع كل مَن ضاده مؤقتا الانفلاتَ من قبضته، كما كان قبل الاستعمار؛ فالقادة والزعماء لم يعلنوا حكمهم الجديد لاستبدال بنية بأخرى، بل لمجرد استبدال أنفسهم بزعامة أخرى وإعادة إنتاج خاصيات النموذج السابق نفسها”.
المصدر: وكالات