انتقد الأكاديمي سعيد يقطين “الوعي الزائف” لـ”بعض المدافعين عن الأمازيغية، الذين صاروا يَسْتَعْدُونَ كلمة المشرق”، قائلا إن “من إيجابيات “طوفان الأقصى” أنه أيقظ الهوية الثقافية التاريخية التي تجمع المغرب بالمشرق العربي”، أما “الهوية والحديث عنها بمنظور سجالي فلا يمكن أن يؤدي إلا إلى خلق مزيد من التفرقة والتمايز والصراعات الهامشية، التي لا يستفيد منها الشعب المغربي”، علما أنه “علينا أن نطرح دائما سؤال: إلى أين نسير؟”.
جاء هذا في محاضرة افتتاحية للموسم التكويني لمؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة، استقبلها، السبت، مقر المؤسسة بالعاصمة الرباط، وذكر فيها الناقد البارز أن الواقع الذي يعيشه المغرب “ناتج عن لحظة من لحظات تراجع الفكر والحضارة والمؤسسات، وإذا لم نعمل على التفكير الجماعي في كيفية تجاوزه لا يمكن إلا أن يستمر، إلا بتدخل عوامل خارجية يمكن أن تخلق لنا مسارا جديدا”، مع تحميله مسؤولية النقاشات اليوم ومضامينها لـ”المثقفين”، الذين رفض ربطهم بـ”نعوت ذات حمولة غير دقيقة مثل “الحداثة” و”التنوير””.
وتابع قائلا: “الهوية إحساس واع أو فطري بالانتماء إلى جماعة اجتماعية أو نسق فكري وثقافي، وهناك من يعتبرها خرافة أو واجهة لشحن المجتمعات. لكن التعريف الأول يضعنا أمام مقومَي الانتماء والاشتراك؛ وفي التراجم والطبقات كان يُعَرَّف الإنسان بقبيلته ومدينته ثم المجال الذي يبحث فيه: الفقيه أو القاضي (كذا) المراكشي أو الدرعي أو الإشبيلي أو التازي… ثم سيأتي الاستعمار بمقاربة جديدة للأشياء؛ فمع الدولة الحديثة لم نعد نتحدث عن الانتماء إلى الفضاء أو القبيلة، بل إلى الوطن، أي أن الجنسية هي التي تحدد هويتنا في مقابل الآخر”.
وواصل: “في بداية السبعينيات كان يمكن الحديث عن هوية إيديولوجية محددة لكل واحد منا: من أي حزب ومن أي جبهة، وكانت تصنيفاتنا وعلاقاتنا ببعضنا البعض تتحدد بهذه الهوية. لكن في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، مع انهيار جدار برلين وسقوط الاشتراكية، لم يعد من الممكن هذا الانتماء، ثم حدث غزو العراق وظهرت الطائفية والعرقية، ومع الربيع العربي ستتكرس الهويات الجديدة والاصطفاف الهوياتي الجديد، فضلا عن ظهور التيار الإسلامي قبل هذه المرحلة، مما جعل سؤال الهوية مطروحا أيضا، أي من أنت؟ وما موقفك من الآخر؟”.
ويرى يقطين أن “العِرقية، عالميا ومغربيا وعربيا، هي بحث عن رؤية جديدة وهوية جديدة، وتتوجه ضد الإسلام المختصر خطأ في الدواعش، وضد القومجية”، مع العلم أن هناك نوعين من هذه الهوية: “واحد يذهب إلى التاريخ، والآخر يجيء من التاريخ”.
وأردف شارحا: “يدخل هذا فيما يسميه الأنثروبولوجيون الحنين إلى الأسلاف، وهو حنين نجده عند الإسلاميين والسلفيين الدينيين والسلفيين العرقيين، فهويتهم تتحقق في زمن موغل في القِدم، وتوجد حملة كبيرة على الإسلام ليس من منظور علمي أو رؤية جديدة تركها مفكرونا للعوام للحديث فيها، وصارت معها كل عناوين التراث الإسلامي والشخصيات العَلَامات مجرمين وخونة بتأويلات لا قِبَل بها، وطريقة تعامل (غير منصفة) مع شخصيات مسهِمة في التاريخ”.
وزاد: “الهوية صارت عند جماعة عرقية هي الأساس، بنوع من السجال والجدال العقيم عند من يدافع عن الهوية العربية الإسلامية أو الهوية الأمازيغية ومن يهاجمهما، إلى أن وصل الأمر إلى معيار الحمض النووي لكشف هوية الإنسان، علما أنه حتى الحيوانات لها حمض خاص بها، فبماذا يتميز، إذن، الإنسان؟”.
واسترسل قائلا: “كل اتجاه يريد فرض نفسه، يخترع الأكاذيب والافتراءات والأساطير، وهو ما تلاحظونه مع الصهيونية حاليا، فالصهاينة يدركون ألا علاقة لهم بتلك الأرض، فيعمدون للرجوع إلى الأساطير والخرافات للاستهلاك وممارسة الصراع، وأبان لنا “طوفان الأقصى” ألا علاقة للغرب بالتنوير ولا بالحداثة، بل هو أكثر ميلا للقوى التي تفرض هيمنتها وسلطتها”.
ومن بين الإشكالات التي طرحها يقطين كون “التيار الديني في الفضاء الشبكي يملؤه من يجعل الحديث عن الإسلام والدين موضوعا للسخرية، سواء من خلال فتاوى وموضوعات، ولو اعتبرناها نوعا من التفاهة، إلا أنها هي التي تنتشر وتَذيع وتجد من يدافع عنها ويتبناها، وهناك موضوعات كثيرة تفرض نفسها ولها جمهور واسع” نتيجة مشكلات تعليمية واجتماعية وسياسية.
ويرى الأستاذ الجامعي أن هذا نتيجة مستمرة لكون “المجتمع السياسي غير منظم وغير قادر على الجمع، هو الذي كان يجمع في السبعينيات والثمانينيات وكان يخلق المجتمع الثقافي مثل اتحاد كتاب المغرب، وجمعيات حقوق الإنسان”، وبالتالي فـ”تدهور المجتمع السياسي أدى إلى تدهور على جميع المستويات، أكاديميا وثقافيا، في الساحة العمومية”.
ويؤكد أن “الجامعة للبحث العلمي، ومن يشتركون خاصة داخل كليات الآداب والعلوم الإنسانية عليهم أن يكونوا علماء لا مثقفين، فالكلية التي لا تخلق الباحثين والخبراء في الاختصاص ستنتج مثقفين يتحدثون في كل شيء”.
ويوضح المتدخل أن “أي هوية خاصة يجب أن تتكون من طبقات من الهويات، ولا يمكن لأي هوية خاصة إلا أن تتأطر في إطار هوية عامة”، مضيفا “لا ننكر أن الأمازيغ هم الأصل، لكن هل يمكن أن نتحدث عن هوية ثقافية وحضارية كان لها أثر في المغاربة واستمر أثرها إلى الآن؟ اللُّقى والآثار أمر مهم. لكن ما علاقة المغاربة ببورغواطة التي صارت تقدم حركة ثورية؟ وبحاميم المتنبئ؟ وماسينيسا حتى المثقفون عرفوه أمس، وما علاقة المثقفين كمغاربة بنصوص القديس أوغسطين وأبوليوس؟”.
وعلق قائلا: “ليست لهذا هوية ثقافية وحضارية، فما نجده في الهويات الثلاث الكبرى للعالم، “اليهودية المسيحية” و”البوذية الآسيوية” و”العربية الإسلامية”، أنها “لا ترتبط بعرق معين (…) ولا يمكن أن نرجعها إلى وطن أو عرق معين، بل لها لغات وثقافات متعددة، لكن يوجد في كل منها ما هو عام ومشترك رغم الفروقات الموجودة من فرق ومذاهب”.
وتابع في السياق نفسه: “الزمن الذي نعيشه منذ الألفية الجديدة يستمر فيه الصراع بين هويتين، لا بسبب تحولات العصر الحديث من ثورة نفطية وجعلِ الشرق الأوسط بؤرة للسيطرة على العالم، بل بفعل تاريخ الصراع بين المسيحية واليهودية والإسلام؛ وهذا الصراع الدينيُّ تجلِّ لصراعات مرتبطة بالهوية واللغة، وفرنسا تقدم لنا مثالا واضحا لهذا في علاقتها بالمهاجرين، وألمانيا تقدم المثال الأوضح في علاقتها بـ”طوفان الأقصى””.
واعتبر يقطين أن “من أكبر مشاكل المدافعين عن الأمازيغية مقارنتها بالعربية الفصحى، فهذا أكبر خطأ، وهو تضليل، بل المقارنة يجب أن تكون مع الدوارج المغربية”، أما إطار الفعل الحقيقي فهو تقديم هذا التراث؛ فـ”أي تراث إنساني، والثقافة الشعبية هي الرأسمال الرمزي الذي تتميز به ثقافة عن أخرى، وبالمقابل نخدم التراث الشعبي المغربي، وعمر أمرير، مثلا، قدم خدمة جليلة للثقافة المغربية، وبرنامج محمد عاطر المتنقل بين الدواوير مهم، فهذه هي الثقافة المغربية الحقيقية؛ ثقافة الإنسان في حياته اليومية، التي تفيد في الكتابة الأدبية وصناعة الأفلام، والثقافات لا قطائع بينها، فالراوي الشعبي لم يكن جاهلا، وكذلك شاعر الملحون، بل كانت له لغة وثقافة للسماع، وهذا ما يمكن أن نبحث فيه”.
ويؤكّد يقطين أن “هناك نوعا من التفكير لا يمكن أن نواجهه إلا بالبحث العلمي”، مضيفا “لنوظف العلاقات الإنسانية المغربية بما يخدم هذا الوطن، وأي خدمة لهذا الوطن سيكون لها أثر في العالم الذي نعيش فيه، عالم التكتلات والصراع”، علما أن “”طوفان الأقصى” أظهر أن موقع العرب في العصر الحديث هو أننا خارج الزمن، وما يحدث بين المغرب والجزائر صراعات تغذيها الصهيونية، بل حتى صراعاتٌ داخلية”، قبل أن يختم بالقول: “إلى متى سيبقى العامل الخارجي مؤثرا فينا؟”.
المصدر: وكالات