بعنوان “في الاستشراق”، يستقبل المشهد الإعلامي والثقافي بالمنطقة العربية برنامجا جديدا، يسيره الإعلامي والأديب المغربي ياسين عدنان، لمناقشة الاستشراق، بين ماضيهِ وحاضره، وإسهامه في الاستعمار، بروح نقدٍ مزدوج “مُوجّه للثقافة الغربية وللثقافة العربية الإسلامية أيضًا”.
وفي الحلقة التي استقبلت جورج الفار، أستاذ الفلسفة بالجامعة الأردنية، ذكر الضيف أن الاستشراق “لم يكن كله في خدمة الاستعمار، فالاستشراق الفرنسي والبريطاني كانت له أبعاد سياسية، لكن هناك استشراقين ألماني وروسي خاليين من النزعة السياسية”.
وتابع الأستاذ ذاته متحدثا عن الاستشراق ذي الأبعاد السياسية والتوسعية: “المعرفة شأن إنساني للبشر جميعا، وليس شرفا لها أن تأخُذَها حيثُ تريدُ، خدمةً لك. وأيُّ تكريسِ معرفةٍ للهيمنة على شعب واستعمارِه خيانةٌ للمعرفة ذاتها؛ ولذا يوصَم الاستشراقُ الاستعماري بكونه مغرضا، وغيرَ أكاديميّ، ولا يصنف ضمن المعارف الصارمة التي تتطلب بحثا عن الحقيقة، بل هو منفعي خدم أغراضا سياسية وعسكرية، ولا يوضع في رف الكتب المعرفية التي حاولنا البحث فيها عن الحقيقة، ولا يرتقي إلى شرفها النزيه”.
ثم قال المتحدث: “تسقط المعرفة عندما تصبح نفعية، ذات غايات سياسية. والغرب يعرف جيدا أن المعرفة أصبحت قوة، وبالتالي فإن الاقتراب منها يمهد له القوة التي ستسيطر على الشرق؛ فمعرفةُ العدو تعني معرفة نقاط ضعفه، واستعماره من خلال ذاته، وهكذا استخدمت فرنسا والإنجليز مصريّين لحكم مصر”، زمن الاستعمار.
ويرجع جورج الفار بداية الاستشراق إلى “الحملات الصليبية” و”اللقاء الصادم بين الغرب والشرق”؛ ويوضح أنه كان “استشراقا غير ناضجٍ معرفيا، عسكريا إلى حد ما”، وزاد:
“بُهر الغرب في تلك المرحلة بحضارة وعادات الشرق وتقاليده، وبقي الحلم الشرقي يراود عقولهم، إلى أن جاء نابليون في نهاية القرن الثامن عشر ونجح في غزو مصر،
واصطحب معه ثلة من العلماء كانوا بداية الاستشراق المعرفي؛ وكانوا في خدمة الإمبراطور ومصالح فرنسا، لكنهم فكُّوا الخط الهيروغليفي، وانتبهوا للآثار والحضارة المصرية القديمة، ومن ثمّة إلى الشرق كله”.
وواصل ضيف البرنامج: “الاستعمار الفرنسي لمصر، والاستعمار الإنجليزي للهند، ثم مصر، جاءا بتصوراتهما للثقافة والشعب المستعمَرين؛ وهكذا نُمِّط المُستعمَرون بتصورات بقوالب معينة. ورغم تنوع الديانات واللهجات في الهند مثلا بقي الهنديُّ جوهريّا في عقل البريطاني: هو الفقير الجائع غير المتعلم الذي بحاجة إلى حماية عسكرية من الخارج… وهي معرفة استعملت مثلا في فصل باكستان عن الهند”.
وذكر المحاوَر أن خوفه ليس من وسائل الاستشراق البحثيّة، بل “مِمن يمول المستشرقين، والرحالة؛ فهناك دائرتان: عسكرية واستخباراتية، تدفعان للأفراد من حيث يدرون أو لا يدرون، لإعداد دراسات تخدم الاستعمار؛ وهي دراسات وصفية، نمطية تنميطية، واختزالية إلى حد كبير، تُقَدِّم معرفة للدوائر التي أرسلت الباحث، ولا تقدم معرفة على الرفوف تهيّئ للبشرية مجالا للمعرفة”.
وكشف المتدخل “عُدّة الاستشراق وهو يتوخّى الهيمنة”؛ منطلقا من “الرّحّالة الذين أرسلهم الاستعمار للاستكشاف ورسم الخرائط واستكشاف التجمعات السكانية والأقليات والعرقيات… وهي خرائط استخدمت في تحركات الجيوش، وعبر هذه الكتابات فهموا كيف سيطر السابقون على المناطق وكيف عمل المهيمنون والسلطة”.
أما ثاني المناهج فـ”فيلولوجي تحليلي لغوي، في فقه اللغة، يفهم أصول الألفاظ؛ وهذا جميل، فلأول مرة عرفنا هذا العلم”، والثالث “منهج تحليلي لجمع المعلومات، ووصلها ببعض، وتحليل محتواها، وهو منهج سليم معرفيا، لكنه يحتاج منهجا نقديا للفصل بين الغث والسمين، والتأكد من الخبر ومن (معرفتي)”.
وحول الرؤية الدونية للمُستعمَرين، قال أستاذ الفلسفة إنها نابعة مِن “فكرة تفوق الرجل الأبيض الذي يعتبر نفسه أعلى جنس في البشر، وهو الذي يملك العقل ليفكر به، أما الآخرون فلا، وبالتالي كان عليه أن يحكم الأفارقة ويضعهم في خدمته، وكل ذلك ليقول إن الله أعطى لنا إفريقيا، أو أرض الميعاد… هذه كلمات تُنسَب لله لتبرير الفعل المتوحش، وهو السيطرة والهيمنة على الآخرين”.
كما يرى المتحدث أن “الكنيسة ذاتها وعت في زمن متأخر بفصل الروحي عن الزمن”، مردفا: “يمكن أن نجد أفرادا خدموا الاستعمار، لكن الرسالة الكَنسية التبشيرية لم تكن أبدا تمهيدا للاستعمار أو تكريسا لهيمنةٍ غربية”.
ورغم إنهاء حركات التحررِ الاستعمارَ، ومعه الدور الاستشراقي القديم الذي كان يمارس، إلا أنّ “الاستعمار ترك موالين له من السكان المحليين، ومن ثمة ترك جسر مصالحٍ، كما ترك الرأسمالية، فكثير من الدول العربية (اليوم) تُعتبَر أطرافا رأسمالية للمركز الرأسمالي في لندن وباريس وفرانكفورت ونيويورك، وهناك مصالح بعض الطبقات المرتبطة بهذا الاستعمار وإدامة الحال… وقد وضح المهدي عامل أن اتهام العقل العربي بالتخلف (غير سليم)، بل التخلفُ في البورجوازية العربية المرتبطة بالاستعمار التي لم تدخل في الاستقلال وبقيت تابعة”، وفق المصدر ذاته.
ورسّخت هذا المستجد “موجة العولمة، وهي امتداد لرأسملة العالم”. وفي هذا الإطار يقدّر جورج الفار أن المنظمات الإرهابية الإسلامية “نوع من الاستشراق المخابراتي، فكثير منها صُنع في دوائر استخباراتية غربية، بناء على معارف بسيطة قدمها المستشرقون القدامى”، وزاد متسائلا: “من يغذي الانقسام الحاد بين الشيعة والسنة، وهو صراع كان منسيا وغير مُثار؟ ومن يغذي بعض الأقليات الدينية، وبعض الحركات الانفصالية؟ الاستشراق رحل من المكتبات والكتب إلى دوائر استخراباتية”، وقدم مثال ارتباط برنارد لويس بالبانتاغون والخارجية الأمريكية.
لكن، نبه الكاتب إلى وجود “لمحات لدى المستشرقين” يمكن “استخدامها أو إعادة البحث فيها من أجل بحث نزيه وعميق، لا يرتبط بأي دائرة استعمارية”، واسترسل موضحا: “نحن كعرب ومسلمين، والهند كذلك، يمكننا التقاط إشارات لتراثنا وتاريخنا ولغاتنا حتى نطوّرها ونخرج من تحت العباءة الغربية، إلى عباءتنا الخاصة، بعيون ناقدة في البحث في التراث والتاريخ، حتى لا نسقط في الوصفية وتمجيد الذات وتبجيل التاريخ، بل ننقُد التاريخ؛ ونرى الجميل والقبيح فيه، ونبرزه لشعوبنا وطلابنا”.
واختتم الضيف حلقة “في الاستشراق” بالقول: “علينا أن نقدم دراساتنا، لا أن ننتظر الآخرين ليدرسونا. علينا ألّا نكون مواضيع، بل ذاتا فاعلة”.
المصدر: وكالات