لا يزال عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، يكابد ويسارع الزمن لإقناع الأحزاب السياسية وبقية الفاعلين بالتعديلات التي يقترحها للقانون الجنائي ومدونة الأسرة؛ بيد أن الذين يعارضون هذه الإصلاحات، خصوصا في مسألة الحريات الفردية والجنسية، يتحدثون عن “الثوابت” و”الدين الإسلامي” و”القيم المجتمعية” و”الأعراف التقليدية” .. فكيف تعتمل هذه الثوابت في قلب المغاربة؟
التساؤل الحاضر: هل ينجح الوزير وهبي بإقناع المغاربة بجدوى الحريات الفردية في القانون الجنائي المنتظر، وهو الذي صرح سابقا: “إن غايتي أن أبرهن أن الحريات الفردية مصلحة وطنية تستجيب لمقتضيات الحداثة ولا تتعارض مع روح الدين الإسلامي”؟ وهل الدينامية القيمية التي تعتمل في جوف المجتمع المغربي اليوم يمكن أن تكون أرضية خصبة لتلقي التغيير؟
حركية بحرية
جزء من التساؤل نقلناه إلى زكرياء أكضيض، الباحث في علم الاجتماع، الذي اعتبر أن “الخروج المرتقب لهذا القانون، فيما يخص الحريات الفردية والجنسية، سيرى النور في ظل حركية وتحولات ليست مرتبطة فقط بما هو داخلي، بل بما هو كوني، ولكنها لا تسير بنفس الوتيرة لكونها لا تخترق مختلف شرائح المجتمع”، مضيفا أن “هذه التحولات مستساغة عند مجموعة اجتماعية دون غيرها. ومن ثم، لا يمكننا القول إن المجتمع المغربي متجانس من الناحية القيمية”.
وأضاف أكضيض بأن “هناك تعددية تجعل كل فئة لها نمط قيمي مقتنعة به وتريد أن تعيش به. لذلك، فأية صيغة قانونية ستضع المجتمع في مأزق، سواء في اتجاه ما يمكن أن نسميه بالقيم المحافظة أو القيم التي تقدم نفسها كقيم حداثية وكونية”، مفيدا أن “هذا الصدام سيُطرح، وموازين القوى داخل المجتمع هي التي تمتلك القدرة على التشريع، والقانون ستكون له صبغة عامة تسري على كافة أفراد المجتمع؛ والقاعدة القانونية تبقى متعالية وفوق حركية المجتمع”.
وشدد الباحث في السوسيولوجيا على أن “ما هو أساسي في هذا النقاش هو ما يجري داخل بنية المجتمع، والناس لا تحتكم للقانون بشكل حصري، لكونه يجرم العلاقات الرضائية وتمارس في السر.. يعني هناك عادات وممارسات تحكم الناس في سلوكاتهم العادية، وهي ليست بالضرورة متعارضة مع القاعدة القانونية”، موضحا أن “الذي علينا أن نحذره هو أن حركية المجتمع وديناميته ينبغي ألا ننظر إليها من زاوية أيديولوجية معينة، فيجب ألا نقول إن المجتمع يجب أن يسير في هذا الاتجاه أو ذاك أو وفق هذا النمط أو ذاك”.
وختم أكضيض بأن “علينا أن ندع هذه الحركية تسير بحرية في الاتجاه الذي ستصل إليه، لأنه إذا حددنا نمطا معينا، فهذا ليس مقبولا من الزاوية السوسيولوجية والأنثروبولوجية، بما أن كل مجتمع له إيقاعه القيمي الذي لا يمكننا تشبيهه بمجتمع آخر.. يجب احترام إيقاع المجتمع في التطور والحركية، وأن نترك للبنية المجتمعية إيقاعاتها الذاتية بما أن زمن الثقافة ليس هو زمن الأفراد”، مسجلا أن “القانون بطبيعة الحال يجب أن تكون له حمولة اجتماعية، ولا بد أن ينبه إلى التعايش كقيمة والتعددية كخلاص”.
تحديث قسري
بالنسبة للباحث السوسيولوجي مضطفى بنزروالة، فإن التفاعل مع هذا الموضوع ممكن من خلال ثلاثة مداخل، أولها أن ثمة ضرورة التمييز بين “الجدل النخبوي”؛ قائلا: أركز على كلمة جدل لأنه لا يزال لم يرق إلى توصيف الحركية ولا التصور المجتمعي، بل لا يزال حبيسا لجدال إيديولوجي وأسيرا لاصطفافات حزبية وتنظيمية ضيقة وتحيزات مسبقة؛ ومن ثم، لا يمكن، بأي حال، على الأقل من الناحية العلمية، الحديث اليوم عن رأي الشارع وبتوصيف أدق الرأي العام.
وبخصوص المدخل الثاني، قال بنزروالة إن “المشكل الذي يعترضُ صانع القرار عامة والمشرع تحديدا هو ما يمكن أن نسميه بالتفاوت الحاصل على مستوى الدينامية الاجتماعية والدينامية المؤسساتية”، موضحا “أننا نعيش زمن “السير بسرعتين”؛ سرعة النخبة التي تتحكم في دواليب المؤسسات والتي تنهج نوعا من التحديث القسري بفرض نماذج ونصوص وتصورات قانونية أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها لا تأخذ بعين الاعتبار معطى ثقل التاريخ والعادات والعرف والثقافة…
وأضاف الباحث في علم الاجتماع أن “السرعة الأخرى مرتبطة بسرعة البسطاء، باهتماماتهم وقضاياهم وإشكالاتهم والتي تعد قضايا المدنيات والفرديات والسرديات الحقوقية اهتماما زائدا في نظرهم مع التنسيب اللازم طبعا”، مفيدا أن “المدخل الأخير يتصل بأنه بات لزاما اليوم على مؤسسات الوساطة الاجتماعية ومؤسسات التنشئة السياسية استعادة المبادرة واستعادة النقاش العمومي حول قضاياهم الحقيقية”.
وأجمل المتحدث بأن “هذا وحده ما سيساهم في خلق نقاش مجتمعي ويحفز التعاقد الإرادي الحر حول قضايا الحريات الفردية عوض تهريب النقاش إلى ضيق الحزبية والقسر والجبر”، معتبرا أنه “ينبغي قلب السؤال وعكسه ليصبح هل المغاربة ساهموا في اختيار وإعداد القانون؟ قبل أن نسأل هل سيقبلونه أم لا.. القيم متجذرة في وعي المغاربة، ومن ثم هي تتحرك بقوة ذاتية لكونها تتمتع بحواضن اجتماعية وخطابات تخدمها”.
المصدر: وكالات