في وقت تتصاعد فيه معدلات الإصابة بالسرطان لدى من هم دون سن الخمسين في الولايات المتحدة، تبرز موجة جديدة من النقاشات داخل الأوساط الطبية، ليس حول كيفية العلاج، بل حول جدوى العلاج أصلًا. فقد بات عدد من الأطباء والباحثين يدقون ناقوس التحذير مما يُعرف بـ”فرط التشخيص”، ويشككون في الفرضية الراسخة التي تقول إن كل سرطان يجب أن يُعالج فورًا.
الأرقام لا تقبل الجدل: منذ عام 1992، تضاعفت معدلات الإصابة بثمانية أنواع من السرطان لدى البالغين تحت سن الخمسين، تشمل سرطانات القولون والغدة الدرقية والبنكرياس والكلى والدم. ورغم أن هذه الطفرة تثير الذعر بين المرضى، فإن المتخصصين يطالبون بفصل الانفعالات عن الحقائق الطبية. فبعض هذه الحالات، كما يقول الأطباء، قد لا تكون مهددة للحياة، وربما كان من الأفضل ألّا تُكتشف أصلًا.
في تقرير مطوّل نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، استعرضت الصحفية جينا كولاتا شهادات وتحليلات لعدد من الأطباء والباحثين الذين يطرحون سؤالًا شائكًا: هل نقوم اليوم بتشخيص سرطانات لم تكن لتؤذي أحدًا؟ وهل نقود مرضى شبابًا إلى علاجات مرهقة نفسيًا وجسديًا وماليًا دون ضرورة طبية حقيقية؟
وفقًا لدراسة حديثة قادها الدكتور هـ. غيلبرت ويلش من مستشفى بريغهام للنساء وكلية الطب بجامعة هارفارد، فإن ستة من بين الأنواع الثمانية التي شهدت ارتفاعًا في معدلات الإصابة، لم تُسجل فيها زيادات موازية في معدلات الوفاة. وهذا يعني ببساطة، كما تشير الدراسة، أن كثيرًا من السرطانات التي تُكتشف لدى الشباب قد لا تكون قاتلة ولا تستوجب العلاج.
على سبيل المثال، ارتفعت معدلات تشخيص سرطان الغدة الدرقية في كوريا الجنوبية بشكل كبير بعد تعميم فحوصات الموجات فوق الصوتية. لكن رغم تضاعف أعداد المرضى، لم تتغير معدلات الوفاة. وقد خلصت دراسة لاحقة إلى أن نحو 90% من الأورام التي عولجت لم تكن لتُسبب أي خطر على حياة النساء المصابات.
هذه الظاهرة ليست جديدة، لكن ما يُميّز الجدل الحالي هو تسليطه الضوء على الفجوة بين ما يُكتشف طبيًا، وما يستوجب تدخلًا علاجيًا. فالتطور الكبير في تقنيات التصوير، مثل الأشعة المقطعية والرنين المغناطيسي، يجعل من السهل اكتشاف أورام صغيرة لا تُسبب أعراضًا، ولا تنمو بسرعة. وبعض هذه الأورام قد يبقى خامدًا مدى الحياة.
رغم ذلك، لا تزال فكرة “عدم علاج السرطان” صادمة لكثيرين. فمجرد سماع كلمة “سرطان” قد يدفع المريض، بل والطبيب، إلى اتخاذ إجراءات علاجية سريعة، حتى في حالات يكون فيها خطر الورم ضئيلًا للغاية. وهذا ما حدث في تسعينيات القرن الماضي مع سرطان البروستاتا، حين أدى تعميم فحص الـ PSA إلى ارتفاع كبير في معدلات التشخيص، دون أن يقابله ارتفاع في الوفيات.
مع مرور الوقت، تغيّر موقف الأطباء من تلك الحالات. وأصبح الاتجاه السائد اليوم هو ما يُعرف بـ”المراقبة النشطة” – أي تأجيل العلاج إلى حين ظهور علامات على تطور الورم. وتجربة المريض جايمي ريغال، الذي شُخّص بسرطان البروستاتا في عمر الـ31، تُجسد هذا التحول. فعلى الرغم من ضغط الأطباء عليه للخضوع لجراحة أو علاج إشعاعي، اختار بمساعدة طبيبه أن يتبع نهج المراقبة فقط. وبعد عشرين عامًا، لم تظهر أي مؤشرات على تطور السرطان، ولا يزال يعيش حياة طبيعية.
لكن في المقابل، يرى خبراء آخرون أن الارتفاع في معدلات الإصابة لا يمكن تفسيره فقط بفكرة فرط التشخيص. الدكتورة جولي غرالو من الجمعية الأمريكية لطب الأُورام، قالت إن هناك عوامل بيئية وبيولوجية حقيقية يجب التحقيق فيها، كالسمنة، والتغييرات في النظام الغذائي، وتراجع تنوع البكتيريا المعوية، والتعرض للملوثات. وتضيف: “نحن لا نستطيع أن نغض الطرف. ما يحدث خطير، وعلينا أن نفهم أسبابه”.
الباحث تيموثي ريبيك من معهد دانا-فاربر لأبحاث السرطان يشدد هو الآخر على أن هذا “الانفجار في الأرقام” لا يمكن تجاهله، وهو يشير إلى أن السرطان لم يعد حكرًا على كبار السن.
ويرى المصدر ذاته أن الطب الحديث يقف عند مفترق طرق حساس: بين الرغبة في اكتشاف السرطان مبكرًا وإنقاذ الأرواح، والحذر من الإضرار بمرضى قد لا يكونون بحاجة للعلاج أصلًا.
المصدر: وكالات
