يعيش العالم تطورات جيواستراتيجية متسارعة، تمهد لميلاد نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، كما تعيد هذه المتغيرات تشكيل طبيعة العلاقات بين القوى الكبرى والقوى الإقليمية، وبالتالي تتم من خلالها إعادة رسم مناطق النفوذ، وبروز قوى جديدة، واندحار وتقهقر أخرى. وهو المخاض الذي ترافقه أزمات وحروب تجارية وعسكرية وديبلوماسية وإعلامية وسباق استثنائي للتسلح وتقاطبات مختلفة.
في هذا السياق المتعدد المخاطر السياسية والاقتصادية والعسكرية والبيئية والوبائية، تظهر حاجة ملحة ومستعجلة وضرورية، إلى الانخراط في تكتلات إقليمية متضامنة للعمل الجماعي من أجل رفع التحديات وتحقيق التكامل وتعزيز الأمن والاستقرار في مختلف أبعاده، والرفع من القدرة التفاوضية دفاعا عن المصالح الحيوية لهذه التجمعات، أمام بقية القوى والتكتلات.
جدير بالذكر، أن البلدان المغاربية (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا وموريتانيا)، انخرطت منذ سنة 1989 ضمن “اتحاد المغرب العربي” الذي تأسس في مدينة مراكش بحضور قادتها آنذاك (ملك المغرب الحسن الثاني، رئيس الجماهيرية الليبية معمر القذافي، رئيس جمهورية تونس زين العابدين بن علي، رئيس جمهورية الجزائر الشاذلي بن جديد، ورئيس الجمهورية الموريتانية معاوية ولد سيدي أحمد الطائع).
ورغم أن الفكرة (الحلم)، ظلت تراود نخب هذه الدول منذ الفترة التي سبقت حصولها على الاستقلال، غير أنها استغرقت عقودا طويلة قبل أن تجد طريقها للتأسيس الرسمي كما لم تترجم إلى تفعيل عملي فعال وظلت شبه مجمدة، بسبب عدة إشكاليات وعوائق، أبرزها نتيجة مخلفات الاستعمار الفرنسي للمنطقة، الذي ترك إشكالات وخلافات حدودية مازالت عالقة إلى يومنا هذا، بعد فرضه حدودا مصطنعة لا تتناسب مع الحدود الأصلية لعدد من البلدان.
ومع أن القيادة المغربية ممثلة في الملك محمد السادس، بذلت كل الجهود في سبيل ضخ روح جديدة في هذا الإطار المغاربي، ونهج سياسة اليد الممدودة والجوار الحسن والدعوة المتجددة إلى فتح الحدود مع الشقيقة الجزائر، وتعزيز التعاون الاقتصادي وتوثيق العلاقات مع مختلف البلدان المغاربية. إلا أن هذه المبادرات، قابلتها سلسلة من المواقف المتشددة للقيادة العسكرية الجزائرية، التي أقدمت على خطوات تصعيدية ذات بعد سياسي واقتصادي وأمني وإعلامي، تضاف إلى جهودها الحثيثة في مختلف المحافل الدولية لضرب الوحدة الترابية للمملكة المغربية، من خلال احتضان ودعم وتسليح وتمويل ميلشيات انفصالية بمخيمات تندوف تستهدف زعزعة استقرار قسم عزيز من تراب المغرب.
أمام هذا الوضع المتصف بالجمود الذي لا يخدم مصلحة شعوب المنطقة الطامحة إلى التعاون والتنمية وفرص الرقي، ولتجاوز التعطيل الذي أصاب تفعيل الاتحاد المغاربي، تظهر فرصة مواتية، للانتقال إلى تأسيس تجمع إقليمي أوسع يضم بلدان الساحل أيضا “تجمع بلدان المغرب والساحل”، لاستغلال السياق الدولي والإقليمي الجديد والمتغيرات الجيواستراتيجية المتلاحقة.
ونظرا للقرب الجغرافي والتحديات المشتركة وعمق وتشعب الروابط التاريخية والرغبة الجماعية للنخب والقيادات الجديدة وشعوب المنطقة في الانعتاق من وصاية ومخلفات الإرث الاستعماري، تتوفر أرضية خصبة وفرصة كبيرة لانطلاق المشاورات والتنسيق بين البلدان المغاربية الراغبة في الانضمام لمشروع التكتل الجديد، وبين دول الساحل ممثلة في كل من تشاد والنيجر وبوركينافاسو ومالي.
ويعزز هذا الأمل، الجهود التي يقودها الملك المغربي محمد السادس في سبيل إنجاح مبادرة تمكين بلدان الساحل من ولوج الواجهة الأطلنتية، والتي توجت بالبيان الختامي للاجتماع الوزاري المنعقد بتاريخ 23 دجنبر 2023 بالمملكة المغربية، بحضور وزراء خارجية بوركينافاسو ومالي والنيجر وتشاد والمغرب.
وسيتطلب التفكير في توسيع التكتل الإقليمي لبلدان المغرب والساحل، تشبيك العلاقات بين النخب السياسية والاقتصادية والمدنية والأكاديمية الجديدة في المنطقة، والطامحة جميعها لاستكمال استقلالها وسيادتها بعيدا عن أجندات المستعمر القديم، وعن أشكال الاستعمار الجديد، وأيضا لمحاربة جماعات الإرهاب والتهريب والتخريب والانفصال، التي تحول دون السماح بتحقيق التنمية والازدهار لشعوب ودول المنطقة.
ومن جهته، سيعمل المنتدى الإفريقي للتنمية والأبحاث الجغرافية والاستراتيجية، على فتح باب التفكير والنقاش الأكاديمي والعلمي والمدني، من أجل تدارس جدوى وقابلية وفرص النجاح لمشروع التكتل الإقليمي الجديد المقترح، وهو منفتح على جميع المقترحات والأفكار والنخب والمؤسسات ذات الاهتمامات المشتركة الراغبة في المساهمة وإثراء النقاش.
المصدر: وكالات