يبدو أن القضايا التي يتابع فيها السياسيون أمام المحاكم باتت تشكل مصدر قلق وإزعاج للنخب الحزبية في البلاد، خصوصا وأن هذا النوع من القضايا بات في الآونة الأخيرة سوطا يجلد به الساسة والأحزاب ليل نهار، وكأن الفساد ظاهرة مرتبطة حصريا بالمنتخب ولا علاقة لها بأي طرف آخر من المسؤولين في الإدارات والمؤسسات العمومية.
فقد طغت واقعة الوزير السابق البرلماني الحركي محمد مبدع، المتابع في حالة اعتقال، على الساحة، وملأت الدنيا وشغلت الناس بمحاربة الفساد طيلة الأسابيع الماضية، إلى حد إشعال الغضب لدى نخبة من الزعماء والقادة السياسيين الذين خرجوا بأشكال مختلفة لنقد هذا الطرح ومحاولة دفع التهمة الملتصقة بالساسة والسياسيين.
غضب سياسي وحزبي
انطلاقا من عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الأسبق الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، مرورا بإدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، وصولا إلى إلياس العماري، الأمين العام الأسبق لحزب الأصالة والمعاصرة، كانت الرسالة واحدة؛ هي دق جرس إنذار وإعلان “كفى” في وجه الراغبين في تأبيد وإلصاق الفساد بالأحزاب السياسية وممثليها.
في أواخر ماي المنصرم، خرجت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، برئاسة بنكيران، ببيان ناري ضد المجلس الأعلى للحسابات، استغربت فيه كون المجلس أصبح “يركز ويهتم فقط ويختزل ملف محاربة الفساد في علاقته بـ”الأحزاب السياسية وبالمنتخبين، دون غيرهم من المسؤولين المعينين على مستوى السلطات المركزية والترابية ومختلف الإدارات والمؤسسات والأجهزة العمومية”.
ونبه الحزب ذاته إلى أن ما سماها “المنهجية الانتقائية”، “بالإضافة لكونها تغفل مخاطر كبيرة في مجال التدبير العمومي والأموال العمومية لكون الميزانيات والاختصاصات المخولة للأحزاب السياسية والمنتخبين تبقى ضعيفة جدا بالنظر للميزانيات الضخمة والاختصاصات الكبيرة المخصصة للمسؤولين المعينين مركزيا وترابيا”، فإنها “تعطي الانطباع بأن الفساد مرتبط فقط بالأحزاب السياسية وبالمنتخبين، وأن باقي المسؤولين يتمتعون بحصانة، وهي منهجية (…) تساهم في تبخيس العمل السياسي والحزبي وصرف المواطنين عن الانخراط في تدبير الشأن العام”.
بدوره، خرج إدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، لينتقد وصم الأحزاب السياسية بالفساد وربطها به، داعيا إلى عدم تبخيس العمل الحزبي، مؤكدا أن الفساد “ليس حكرا على الأحزاب والمنتخبين، إنما متغول وموجود، وعلى الجميع أن يتحمل مسؤوليته، كل من موقعه”.
موقف بنكيران وحزبه جاء متناغما مع خصمة اللدود إلياس العماري، الأمين العام السابق لحزب الأصالة والمعاصرة، في لقاء حصري مع هسبريس، قال فيه: “منذ الاستقلال إلى اليوم، السياسيون الذين حوكموا من طرف القضاء والرأي العام أكثر من الإداريين والموسيقيين والسينمائيين وغيرهم”، مؤكدا أن كل “10 رؤساء جماعات يحاكمون يقابلهم واحد من الداخلية، يعني أن متابعة مسؤول في قطاع إداري يقابله 10 في قطاع سياسي”.
واعتبر العماري أن في ذهنية الناس “المجال السياسي هو أكثر عرضة للفساد، ولكن إذا ذهبنا إلى بلدان أخرى، الأمر مختلف جدا”، وذلك في انتقاد واضح منه إلى الوقائع والأحداث التي تكرس الصورة النمطية عن ربط الفساد بالسياسيين.
ليس ظاهرة حزبية
في قراءته للموضوع، يرى إسماعيل حمودي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، أن ملاحقة السياسيين والمسؤولين المتورطين في قضايا الفساد، كما تؤكد ذلك تقارير المجلس الأعلى للحسابات، “أمر مطلوب، تفعيلا لمقتضيات دستور المملكة، خصوصا في شقه المتعلق بتكريس مبادئ الحكامة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة”.
غير أن حمودي سجل، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، ملاحظات على تقارير المجلس الأعلى للحسابات، حدد أولاها في وجود تركيز على “فساد المنتخبين والسياسيين، وكأن الفساد ظاهرة حزبية فقط”، مؤكدا أن الفساد ظاهرة “بنيوية في المغرب”.
وقال حمودي: “لا يمكن الحديث عن فساد رؤساء الجماعات الترابية، مثلا، بدون إثارة مسؤوليات رجال السلطة، خصوصا الولاة والعمال”، معتبرا أن أي اختلال مالي أو تدبيري “لا يمكن أن يحصل بعيدا عن أعين رجال السلطة الذين يمارسون سلطة رقابية في هذا الصدد”.
وبيّن المحلل السياسي ذاته أن هناك تراجعا على مستوى الدور القضائي للمجلس الأعلى للحسابات في المرحلة السابقة، حيث تحول المجلس إلى “مؤسسة للتدقيق والتقييم، في حين إن محاربة الفساد لا يمكن أن تتم بدون تفعيل المقاربة الردعية، أي إعمال وتفعيل المقاربة القضائية لردع المفسدين”.
وأضاف: “هناك انطباع عام بأن بعض المؤسسات والمقاولات ما زالت فوق المحاسبة، وأبوابها مغلقة في وجه قضاة المجلس، الذي تحول من حيث لا يقصد في الغالب إلى مؤسسة لتبخيس العمل السياسي والحزبي”.
وزاد حمودي موضحا أن هناك حاجة إلى أن تكون محاربة الفساد “وظيفة أساسية من عمل مؤسسات الدولة، بما فيها المجلس الأعلى للحسابات وغيره، بدون تهويل أو تهوين”، لسبب بسيط هو أن المال العام يتعرض بـ”استمرار للنهب بطرق شتى”، مشددا على ضرورة أن تكون محاربة الفساد “عملا محايدا تقوم به الدولة تجاه كل من يستغل موقعه للاعتداء على المال العام، بدون تمييز على أي أساس كان”.
متابعة السياسيين طبيعية
من جهته، اعتبر محمد العمراني بوخبزة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، أن القضايا المثارة أمام المحاكم تبين أن هناك دينامية جديدة في محاربة الفساد، تطلبت إحداث نوع من التغيير على مستوى المؤسسات المعنية بمهام التخليق وحماية المال العام.
وقال بوخبزة، في حديث مع هسبريس، إن “السياق الجديد جعل ثقافة جديدة تتشكل إزاء مواجهة الظاهرة”، مبرزا أن الأحزاب السياسية اكتسبت الشجاعة والجرأة في أخذ مسافة من القضايا التي يتورط فيها سياسيون ينتمون إليها.
وأكد وجود “ثقافة جديدة لدى الأحزاب، وهو أمر إيجابي أصبحت معه تنأى بنفسها عن الدفاع عن أعضائها المتورطين في قضايا وتهم الفساد، عوض ممارسة الضغط والاستماتة في الدفاع عنهم في السابق، ومحاولة ربط ذلك بنوع من الاستهداف المقصود”.
وبخصوص ارتفاع عدد القضايا والملفات ضد سياسيين في المحاكم مقارنة مع باقي الفئات من موظفي الإدارة والقطاعات العمومية، أشار المحلل السياسي ذاته إلى أن هذا المعطى يجد تفسيره في أن “هذه الفئة من المسؤولين أو الموظفين تخضع لقانون الوظيفة العمومية الذي يتضمن العديد من الإجراءات والمساطر التي تشكل رادعا لدى هؤلاء في هذا النوع من القضايا”.
واعتبر بوخبزة أن “الموظفين العموميين وممثلي السلطة من الطبيعي أن يكونوا أقل بالمقارنة مع السياسيين الذين يتقلدون المهام بعد الفوز في الانتخابات والحصول على ثقة المواطنين”، حيث بين أن “موظفي وزارة الداخلية يخضعون للمراقبة من طرف لجان الوزارة التي تعمد إلى زجر المخالفين ومعاقبتهم أحيانا حتى بالعزل، في الوقت الذي لا يخضع فيه المنتخب إلى أي نوع من الزجر إلا عبر القضاء”.
المصدر: وكالات