جرت السنن الكونية أن ينبّه الله تعالى مخلوقاته ويحذرهم بشتى أنواع عقوباته؛ فقال: “وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً “وعادة ما تقع للناس بعد حدوث الكوارث والسيول والزلازل إغماءات واضطرابات نفسية، وأوهام، وتراهم سكارى وما هم بسكارى، فتنسل الإشاعات، وتكثر المنامات، وتظهر الكشوفات والتنبؤات، بل والخرافات، وينفرد كل واحد منهم بعبادات خاصة وطقوس غريبة.
ويكفيك من ذلك ما حدث أثناء وقوع زلزال الحوز قبل أيام، فاضطربت وقتها أحوال الناس، فمنهم من يقرأ القرآن، ومنهم من عجز عن نطق ألفاظ الشهادة فنسيها من شدة هول اهتزاز الأرض، وآخرون يبحثون عن الدعاء الخاص بالزلزال، وطائفة أسرعت إلى الصلاة، وأخرى جثت على ركبها مستقبلة القبلة متضرعة إلى خالقها، أما السواد الأعظم من الناس فسجد لله شكراً على نجاته بعد نهاية الارتدادات والهزات، فتعددت تصرفات الناس وأحوالهم بعد وقوع هذه الفاجعة.
وكل هذا والحمد لله فيه دليل على قوة وصلابة تدين المغاربة وسلامة عقيدهم، لأنهم اتفقوا طراً على أن الفاعل هو الله تعالى: “وما يعلم جنود ربك إلا هو” فعلموا أنه هو “الذي ينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء” وهو القائل في سورة الزلزلة: “يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها”، ولو كان الزلزال بفعل الكوارث الطبيعية كما هو مشاع في العلوم العصرية والعقائد المادية ما تضرعوا إليه، ولا خافوا منه، ولا توكلوا عليه.
ومن هنا اشتدت الحاجة إلى معرفة ما ورد في الشرع الحنيف أن يفعله المسلم أثناء وقوع الزلازل وخاصة في المذهب المالكي، ليعرف الناس دينهم حتى لا يتيهوا وسط سيل من المهاترات التي تتقاذف بها منصات التواصل الاجتماعي كل يوم، فناسب أن يحذَّر الناس من تحريفها، وتصحيح مغالطاتهم حولها، وتنبيههم على التمسك بالصحيح منها، وتجنب السقيم فيها.
موقف المذهب المالكي من تخصيص الزلازل بطاعة معينة:
جاء في المدونة الكبرى 1/143 “قال ابن القاسم: وأنكر مالك السجود في الزلازل..” وأعقب ابن القاسم ما تقدم بحديث الكسوف، فدل على أنه لم يشرع بعد وقوع الأهوال في الشرع شيء سوى صلاة الكسوف، ثم نقل قول شيخه مالك فيما دون الكسوف بقوله: “ولم يعمل أهل بلدنا فيما سمعنا وأدركنا إلا بذلك..” المدونة 1/ 143 ففيه دلالة على عدم وجود أي نص في الزلازل، ولا عهد أهل المدينة تخصيص عبادة مخصوصة لشيء غير الكسوف.
وفرّع الإمام المازري في شرح التلقين 1/ 1100 على ذلك إجازة السجود عند النعمة والشكر، فقال عاطفاً عليه: “قال بعض أشياخي يتخرج على هذا جواز السجود عند الخوف من زلازل وغيرها، يسجد هذا شكراً وهذا خوفاً، وأما الصلاة حينئذ فتجوز قولاً واحداً..”.
وقصد بأحد أشياخه الإمام اللخمي في كتابه التبصرة 2/ 216 وإن لم يصرح به، قال أبو الحسن اللخمي: “وكره في المدونة السجود عند الزلازل وسجود الشكر، وروي عنه أنه أجاز السجود عند النعمة والشكر، وعلى هذا يجوز السجود عند خوف الزلازل وغيرها، يسجد هذا شكراً وهذا خوفاً، وأما الصلاة حينئذ فتجوز قولاً واحداً..”.
ونقل ابن بطال في شرحه على البخاري 3/ 26 عن ابن المنذر قوله: “اختلفوا في الصلاة عند الزلزلة وسائر الآيات، فقالت طائفة: يصلى عندها كما يصلى عند الكسوف استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم: “إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل”، وكذلك الزلزلة والهاد وما أشبه ذلك من آيات الله. وروينا عن ابن عباس أنه صلى في الزلزلة بالبصرة. وقال ابن مسعود: “إذا سمعتم هادا من السماء فافزعوا إلى الصلاة”، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وكان مالك والشافعى لا يريان ذلك. وقال الكوفيون: الصلاة في ذلك حسنة، يعنى في الظلمة والريح الشديدة. قال المؤلف: وقوله في هذا الحديث: “فإذا رأيتم شيئاً من ذلك..” تضم الزلازل وجميع الآيات، فهو حجة لمن رأى الصلاة عند جميعها..”.
فتبين أن مشهور المذهب المالكي لا تجوز فيه الصلاة، ويعضّد ذلك قول ابن عبد البر في التمهيد 3/ 317 “وكان مالك والشافعي لا يريان الصلاة عند الزلزلة ولا عند الظلمة والريح الشديدة..” خلافاً لعبد الرحمن الجزيري فقد قال في كتابه: الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 334 ما نصه: “وأما الصلاة عند الفزع فهي مندوبة، فيندب أن يصلي ركعتين عند الفزع من الزلازل أو الصواعق أو الظلمة والريح الشديدين، أو الوباء، أو نحو ذلك من الأهوال.. إلى أن قال: “وهذا متفق عليه عند المالكية والحنفية، أما الحنابلة فقالوا: لا تندب الصلاة لشيء من الأشياء المذكورة إلا للزلازل..” وليس الأمر كذلك، لأن المالكية لا يرون الصلاة في ذلك، ولعل سبب عزو هذا القول لهم آتٍ من اختيار الإمام اللخمي، وهو الذي شهّره ونقله عنه من بعده من شراح المدونة وغيرهم، وإن سبقه إلى ذلك أشهب.
واعتمد على خطإ الجزيزري في التأصيل بعض المعاصرين المالكية حين رجح جواز “صلاة ركعتين عند الفزع من الزلزال، أو الصواعق، أو الريح الشديدين، أو الظلمة أو الوباء، لأنها آيات من آيات اللَّه تعالى يخوف بها اللَّه عباده ليتركوا المعاصي، ويرجعوا إلى طاعته.. وصلاتها كالنوافل العادية بلا جماعة ولا خطبة، ولا يسن فعلها في المسجد، بل الأفضل أن تؤدى بالمنازل..” ينظر كتاب فقه العبادات على المذهب المالكي للحاجة كوكب عبيد ص/ 199.
ولا وجود لمستند شرعي في تخصيص ركعتين بعد الزلازل في كتب السادة المالكية، ولو عكس الجزيري النقول فأسندها لأصحابها لأصاب، أما تصريح الحنابلة بالصلاة عند الزلازل ففيه نظر، لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي، بل هو تعبدي محض يحتاج لنص قطعي الثبوت والدلالة، ولا دخل للاجتهاد فيه، ولعلهم قاسوا صلاة الكسوف على الزلازل بجامع الهول والخوف في كليهما، وهو قياس مع فارق لا يصلح للاحتجاج كما هو مشهور في كتب الأصول، اللهم إن اعتمدوا على فعل ابن عباس، وقول ابن مسعود.
وحاصل المسألة أن من فهم من حادثة الكسوف إطلاق جنس تلك العقوبة على غيرها عمّم الصلاة في مثلها، ومن تمسك بظاهر النص خصّصها بها وحدها، وألزم المخالف بنص جديد في نظائرها، مع العلم أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل غالباً على نفي الحكم عمّن عداه.
ومن تتبع مصنفات السادة المالكية عَلم عِلم اليقين أن السواد الأعظم من شيوخهم يجمعون على عدم مشروعية الركعتين، اللهم إذا اتفق حذاق العلماء فيه كأشهب من المتقدمين واللخمي من المتأخرين، ومن سار على قولهما من المعاصرين على أن يفزع الناس إلى الصلاة بعد الرياح الشديدة والأعاصير والبراكين والزلازل، ويمكن حمل ما تقدم على توسيع دائرة النزاع في المسألة داخل المذهب، مع أن أصوله لا ترى مانعاً في جواز تخريج صحة ذلك على أصلي مراعاة الخلاف، وقول الصحابي، وإن كانت الأعراف المغربية تنافيه، لأن انفراد أحد المالكية ولو كان مجتهداً بقول أو رأي لا يعد مسوّغاً على جريان العمل به في المذهب، فأحرى مشهوره.
والذي يظهر أن الزلازل لا تقاس بالكسوف، لأن صلاتها شُرعت لعلة مخصوصة ظهرت بسب أمارات محددة فوجب تعلق حكمها بها، ولو تعدّت إلى غيرها من أشباه عللها لوقع الحرج في الأحكام، والمشقة للأنام، وهذا المسلك في التخريج يجب سدّه، لأنه باب تلجه البدع وتتسرب منه الحوادث والخرافات، وقلما ينجو متخرج عليها من مزالق، لاسيما مع كثرة الأهوال والفتن في هذا الزمان.
نعم روى البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه تحت رقم [1059] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد صلاة الكسوف: “هذه الآيات التي يرسل الله، لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله به عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك، فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره” لكن على تقدير تسليم قياس الزلازل على الكسوف فإن النص حدّد أوصافاً مخصوصة غير الصلاة، مما يدل على أن علّة الصلاة خاصة بالكسوف وغيرها من الأهوال بالذكر والدعاء والاستغفار.
فتحصل من مجموع ذلك أن هذا النص فيه حكمان الأول: مشروعية صلاة الكسوف، والثاني: الأوصاف المذكورة لغيرها من الأهوال كالذكر والدعاء والاستغفار، ومن جعل حكم النص واحداً قاس الزلازل على الكسوف فخالف بذلك السنة وجمع حكمين مختلفين لعلتين منفصلتين في واحدة، لفعله فعلاً غير منصوص عليه بالتكلف في التأويل والقياس، مع تركه للمنصوص وهو: “فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره” الثابت بنص الحديث الصحيح، فدل هذا على صحة مذهب مالك في المسألة.
عوائد الناس أثناء وقوع الزلازل في التراث الإسلامي:
تتعدد تصرفات الناس بعد وقوع الزلازل في مختلف البلدان والأقطار، فقد نَقلْتُ من كتب التاريخ أربع زلازل في أزمان مختلفة وقعت في أمصار متعددة، وكل تصرفات الناس أثناء وقوعها تختلف عن الأخرى في التقرب إلى الله بأنواع القربات وصنوف الطاعات كما سيظهر منها.
الحادثة الأولى: جاء في كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي 1/ 242 في حوادث سنة 100 لما وقع الزلزال أيام الخليفة عمر بن عبد العزيز فكتب “إلى الأمصار وواعدهم يوماً بعينه، ثم خرج هو بنفسه رضي الله عنه في ذلك اليوم وخرج معه الناس، فدعا عمر وتضرع إلى الله فسكنت الزلازل ببركته..”.
الحادثة الثانية: ذكر ابن عذارى في كتابه: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 2/ 211 في حوادث سنة 332هـ، وقوع: “زلزلة عظيمة بقرطبة ليلة الاثنين لتسع خلون من ذي القعدة، لم ير قط مثلها ولا سمع من قوتها، ووقعت بعد العشاء الآخرة فدامت ساعة، ففزع أهل قرطبة لها فزعاً شديداً، ولجئوا إلى المساجد فيها، وضجوا بالدعاء إلى الله تعالى في كشفها حتى أغاثهم وصرفها عنهم..”.
الحادثة الثالثة: أرّخ أبو شامة في كتابه: الروضتين في أخبار الدولتين 1/ 335 عدة وقائع حدثت في سنة 552هـ، إلى أن ذكر كثرة تتابع الزلازل حتى “نفر الناس من هولها إلى الجامع والأماكن المنكشفة وضجوا بالتكبير والتهليل، والتسبيح، والدعاء، والتضرع إلى الله تعالى..”.
الحادثة الرابعة: بيّن القزويني في كتابه: التدوين في أخبار قزوين 3/ 498-499 جملة من الوقائع فذكر كثرة الزلازل إلى أن قال عقبها: “إذا كثرت الزلازل فصوموا كل يوم اثنين وخميس حتى يسكن وتوبوا إلى اللَّه ربكم مما جنت أيديكم .. فإنها تسكين إن شاء الله..”.
غريبة:
لما أرادت طائفة أن تشارك الله سبحانه وتعالى في قدرته، وتجاحده في تدبير كونه؛ خصّ الله تعالى بفضل حكمته الطيور والحيوانات كالحمار فضلاً عمن فوقه من الدواب بالتنبإ بحصول الزلازل قبل وقوعها بأكثر من عشرين دقيقة، ويستشعرون ذلك قبل حصولها كما دلّت على ذلك التجارب والوقائع، وأكده العلم الحديث، خلافاً لعلماء الزلازل فإنهم لا يعلمون متى ستقع وأين ؟ رغم وجودهم وسط المختبرات، ومدجّجين بالآلات، ومحاطين بسائر التقنيات، خلافاً للدواب فإنها تحس بها قبلهم وهي نائمة في الاصطبلات، فتأمل أيها العاقل بعض أسرار عجائب الله في خلقه، وما خصّ كل واحد منهم به.
مسك الختام:
تحصل مما سبق أن هذه المقالة استطاعت أن تجيب بمقدار على عنوانها: هل نحن مأمورون بعبادة محددة عند وقوع الزلازل على ضوء المذهب المالكي ؟ فتبين منها إنكار مالك رحمة الله عليه السجود والصلاة اتباعاً لعمل أهل المدينة، ولا يضر انفراد أشهب واللخمي بجواز ركعتين عقب الزلازل فقد سيق في هذه المقالة وجوه تأويل ذلك.
والذي عليه السواد الأعظم من الناس مشرقاً ومغرباً هو التضرع إلى الله تعالى والانكسار التام له، أثناء وقوع الزلازل مع رفع الأصوات بالتكبير والتحميد والتهليل والاستغفار، والاجتماع في أماكن مكشوفة وإظهار الندم والاستعجال بالتوبة وغير ذلك من القربات التي هي القصد الأصلي والباعث الشرعي على حدوث تلك الزلازل.
(*) مرشد ديني -المجلس العلمي لاشتوكة أيت باها-
المصدر: وكالات