المغرب والجزائر.. الفوارق الخمسة
في محاولة لفهم مواقف متتابعة وصدامية من الجزائر تجاه المغرب يجب استحضار تراث سياسي كبير جمع وفرق الدولة المغربية والمنظومة السلطوية في الجزائر، وهما بالمناسبة دولتان مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية مصطلح دولة في كل سياق سلطوي من سياقات النشأة والتطور؛ مواقف عبرت عنها بشكل متشنج وقليل الترابط جهات عليا في المنظومة السلطوية “المدنية” بلسان عسكري صادم وصارم تجاه المغرب، تبادل أدوارها إعلاميا رئيس الجمهورية ووزير خارجيته أو أحد الوزراء.
لماذا يكرهون المغرب؟ ولماذا يعتقدون أن المغرب الجيد هو المغرب غير الموجود أصلا؟.
قد تتعدد العوامل والمحددات في هذا التقابل الصارخ في الخطاب والممارسة بين المغرب والجزائر، لكن يمكن أن تكون هذه العناصر خطوة في فهم التناقضات بين المنظومتين السلطويتين، وأيضا مناسبة لفهم أسس التنافر والتناقض أحيانا.
خطاب التخوين جزء من بناء الدولة: أنا أسبك إذن أنا موجود
في أنساق مختلفة من حيث البعد الزمني والمكاني ومن حيث هرمية الاتهام، وتراتبيته من حيث الهدف الأساسي المتمثل في تصريف فكرة “تخوين المغرب”، باعتباره مسؤولا عن مآسي الجزائر والجزائريين، جاء الفعل المنسوب للعدو المباشر للشعب قبل الدولة في الجزائر، فهو مسؤول عن إضرام النار في مناطق متفرقة من البلاد، ولاسيما مناطق القبائل الأقل ارتباطا بمفهوم الوطن الجزائري الجامع، ومسؤول عن اندلاع حريق في شاحنات تحمل مواد إلى موريتانيا (وموريتانيا يجب أن تكون حصان القطيعة مع امتداد المغرب إفريقيا)، ومسؤول عن أشياء كثيرة في الجزائر حدثت في مناطق مختلفة وبشكل متواتر؛ كما أنه متهم بافتعال كل شيء لكي يحاصر الجزائر ويهدد أمنها، بما في ذلك قلب مفهوم التهديد من المجموعة المسلحة الرابضة على حدود المغرب الجنوبية في إطار جماعة البوليساريو إلى مفهوم غريب قادم من الجهة المقابلة.
وهذا يعني أن يد المغرب طولى في الجزائر تمكنه من كل سيئ تجاهها، ليس فقط النظام، ولكن تجاه الشعب الجزائري، الشعب الذي كان موضوع عملية مسترسلة من الدعاية التي تضع معادلة بسيطة: كل ما هو مغربي هو سيئ يدخل في خانة العداء، ناهيك عن الموروث الثقافي الذي كرسه الإعلام من خلال الدعاية بشيطنة “المغربي”، واعتباره مسؤولا عن كل المآسي الجزائرية، فهو منافق وخنوع ووصولي وغير قادر على الدفاع عن أرضه، ويستهلك “الحشيش” ويقبل يد الملك بشكل استعبادي؛ وهو طبعا ما يحيل على كون المعيار يرتبط بما هو سياسي أعلى وأسفل، بحيث إن مقياس درجة الاستقرار في قمة السلطة رهين بمستوى التبعية في فهم مستوى العداء، الذي هو طبعا يسلط أضواءه في اتجاه عدو مفترض للتدليل على كون العدو لا يمكن إلا أن يكون خارجيا، وهو لن يكون إلا مغربيا.
لذلك تعمل الدعاية في مستويين؛ مستوى يجعل العداء ركيزة للاستمرار على المستوى الإستراتيجي، ومستوى آخر يجعل الاستمرار رهنا بوجود قاعدة اجتماعية تابعة؛ فكلما هللت الجماهير في المدرجات بكراهية المغاربة والمغرب أو المظاهرات، أو حتى الأشخاص العاديون في الشوارع، سيكون ذلك دليلا على نجاح الخطة واستمرارها.
وفي المقابل، ما هي الجزائر؟ هي الدولة التي نبتت من مقاومة الاستعمار، وكانت “عشا” لحركات التحرر؛ وهي الدولة التي تناضل مع الدول الفقيرة وتساعدها، وهي التي كانت مهدا لبروز حركات التحرر في العالم، بل نشأة دول جديدة بما فيها دول أوربية، وهي التي يحق لها أن تفتخر بتاريخ مجيد من الرومان إلى “مستقبل النانو”، كانت فيه دولة طاهرة شريفة حتى لو كانت تحت نير الاستعمار، فمستعمرها كان أحسن من المستعمر الذي وجد بالمغرب. وهي الدولة التي تحصل قائد مقاومتها على مسدس جورج واشنطن و”عباءة نابليون”، وهي دولة يجب أن تتطهر قبل النطق باسمها، ولربما كانت مهد كل الأمجاد، سواء تلك التي حلت بها أو في أمصار أخرى، وهي كل ذلك وأكثر بكثير… كما يمكن أن تصل الدعاية إلى كونها الركيزة الوحيدة التي يقف العالم منتظرا مبادراتها لحل كل أزماته، بما فيها فلسطين والأزمة الاقتصادية العالمية والأزمة السورية وزلزال تركيا وربما أزمة المناخ، إلى غير ذلك من دعايات التفوق المفترض الذي يصرف كاستهلاك داخلي لتغذية المقارنة مع الجار بالخصوص بميزان التفوق والتبعية.
لكن هذه الصورة الكاريكاتورية ما تعني حقيقة؟ تعني ببساطة أن هناك حاجة دائمة إلى إيجاد شيء تدلل به الدولة على وجودها وعلى أهميتها، ربما، فلا نسمع يوميا أن الصين بنت الصور العظيم وروسيا تحوز أكثر المساحات شساعة. ولا تتغنى الولايات المتحدة بكل اختراعاتها وقوتها الاقتصادية، ولا تقوم فرنسا بوضع فيلم كل شهر عن ثورتها، ولا يتحدث المغرب، حتى، عن أنه بلد عريق في كل مناسبة وحين، ببساطة لأن هذه الدول ليست في حاجة إلى التدليل على وجودها، ولا ترتقب الماضي وتعيش به وفيه، بل تسارع إلى المستقبل وتتنافس عليه.
السباب المتواصل دليل على الوجود، وبذلك يمكن أن يكون كوجيتو النظام السياسي الجزائري تجاه المغرب هو: “أنا أسبك إذن أنا موجود”، لأنه يعتقد أن وجود الجزائر هو دائما بنفي أصل الوجود الذي هو المغرب. ويمكن تمثيل ذلك بالحالة النفسية التي يعيشها الابن غير الشرعي مع والده (مع احترامي الشديد لهذه الفئة، لكن هذا التحليل ينطلق من ثقافة الرفض النفسي والاجتماعي لها)، هناك علاقة دموية لكنها أحيانا تكون في إطار تناقض شعور الحب مع شعور شرعية الوجود، كيف يمكن أن يكون نظام موجود خارج جبة أصله؟ وبغض النظر عن جذور تكوينه، أو على الأقل في تفاعل مباشر معه، لماذا يرفض التقارب ويصر على الصراع والتنافر، ويخلق الكيانات التي تشبه نشأته في إطار القانون الدولي؟ لأن الإحساس بالقوة مرتبط ببناء الدولة الفاعلة والمؤثرة، بعيدا عن أبوية تاريخية متحكمة في حركيته، وإزاحة الأصل يعني بقاء الإرث للوارث، فالجزائر ستكون جيدة بدون مغرب، أو بمغرب ضعيف مشتت وهش.
لماذا لا يقوم المغرب بالأمر نفسه إذن، ولماذا يصر رئيس دولته على تكرار خطاب منفتح على المصالحة ويتجاوز حطاب التخوين والمؤامرة؟ لأنه ليس في حاجة إلى ذلك، فهو قائم على مفهوم الدولة بأبعادها التاريخية والحضارية، وتوجهه إلى الجزائر قائم على بعدين؛ بعد يتجاوز فيه المعطيات التاريخية ومسألة الأحقية بالأراضي طبقا للمفهوم العادل للتاريخ، وبعد يقوم في مقابل ذلك على نفعية العلاقة وتكاملها لبناء فضاء قوي وسند مناسب في مجابهة التحديات الضارية المحيطة بهما معا. لذلك لا ينطلق المغرب من مفهوم العداء، الذي يعتبره آنيا وقابلا للتجاوز، ولكن من مفهوم القوة الجامعة التي يمكن بناؤها بناء على التكتل والمصالحة، وتجاوز كل المحبطات التي أغلبها ذات طبيعة تاريخية معاصرة يتقاسم مسؤولياتها الطرفان معا، بما في ذلك حرب الرمال وطرد المغاربة من الجزائر سنة 1975 مثلا.
دولة في حاجة إلى تاريخ
توجد حاجة دائمة بالنسبة للمنظومات السياسية المترهلة من حيث الجامع النفسي إلى امتلاك التاريخ، فلا يمكن أن نستنتج ذلك في المنظومات التي استطاعت بناء الدولة تاريخيا، والتي أحيانا يصبح التاريخ لديها عنصرا متجاوزا بالمعنى البنائي السياسي، كما هو حال الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يناهز عمرها القرنين ولا يتجاوزه ربما إلا بقليل، لكنها ليست في حاجة إلى بناء الدولة بواسطة السعي إلى ماضيها، لأنها بنت القوة على أساس الانتماء إلى الحاضر والمستقبل؛ لقد عملت على خلط المفاهيم المجتمعية التي تصهر الانتماءات في دولة واحدة من خلال المؤسسات الاجتماعية والسياسية، مؤسسات من قبيل المدرسة والحزب وما ينتجانه على مستوى الفعل السياسي في مؤسسات الدولة، التي تحترم أصلا وجودها المتنوع من خلال السماح بتعدد التعبيرات عن الانتماء داخل فضاء سلطوي جامع.
لكن الدول التي فشلت على مستوى تركيب الاندماج الداخلي، أي بناء المؤسسات وقناعة المجتمع بجدوى تركيبها السياسي والسلطوي، وورثت مفهوم الدولة بدون روح، على حد تعبير الأستاذ العروي، هي في حاجة إلى صناعة التاريخ، وربما سرقته.
تعمل الجزائر التي وجدت من خلال معطيين أساسيين؛ هما قيامها على مفاهيم حديثة للقانون الدولي، باعتبارها نبعت من خلال “تقرير المصير” الذي كان منحة فرنسية استعمارية، وعلى مجال جغرافي كان نتيجة لعملية سطو استعماري أكثر منه بناء لفضاء مندمج، (تعمل) على صناعة الوحدة الهشة التي هي جزء من بناء الدولة؛ لذلك فهي في حاجة إلى بنيان سلطوي، يعد قاعدة مقبولة اجتماعيا، لحكم البلاد تاريخيا بشرطين أساسين؛ أولا أن يكون هذا البناء خارج النسق الاستعماري، وثانيا أن يكون جامعا على المستوى النفسي مخلخلا لمفهوم الفرقة السياسية التي هي أصل ما قبل بناء الدولة الحديثة، أي إنه بناء محلي وذاتي وجامع.
والحقيقة أن نمذجة ذلك على المستوى الحالي في أنساق تاريخية تجد فيه هذه الدولة الناشئة صعوبة جمة، لأنه ببساطة لم يتحقق إلا في ارتباط مع الجوار الذي يصنف في خانة العداء، فيصبح بذلك عملية مزدوجة، من جهة بناء رؤية مقبولة تاريخيا، ومن جهة أخرى يجب أن تكون منفصلة عن بنائها الحضاري الثابت من خلال معطيات تاريخية، ولو كانت بدون مرجع أو هوية.
ينعكس ذلك في صور محرجة وتصادمية على مستوى “الحيازة الحضارية”، من الثوب كالقفطان والجلباب إلى الفن والصناعة إلى الأكل وما جاوره. والحقيقة أن المجهود الذي اختارته الدولة الحديثة في التنطع للانتماء الحضاري لكل موروثها كان يمكن تبنيه في معطياته التاريخية بدون حرج، لأن التاريخ لا يمكن تزويره ولا يمكن تغييره، فالدولة الحالية ببساطة ليست مسؤولة عن هذا الحرج المتمثل في وجود مركز سلطوي خارج المجال الجغرافي الحالي للدولة، الذي كان مركزه في دولة أخرى تصنفها الجزائر في خانة العداء المستحكم ضدها.
الجزائر تبني تاريخا أعوج، منافيا لقيم الاستمرارية، فهي من حيث لا تدري تضخم من أنا الدولة في تقابل مع مقوماتها للقوة الحقيقية. ولا يمكن أن يكون بناء الدولة الموروث أصلا من أصل استعماري عن طريق مزيد من التخوين والتنافر مع الأصل الحضاري لها. ولا يمكن أن يكون الإشباع المرحلي لنرجسية الحكام، ذوي الطبيعة العسكرية، في طهرانية المهام التي جاؤوا بها، كافيا لعدم تعرية كذبة بناء الدولة على أصل حضاري ثابت.
إن الحل الطبيعي، طبعا في إطار سياسي مختلف ليس كالذي تبناه عسكر الجزائر، هو ربط أجنحة الدولة بمساراتها التطورية الطبيعية في اتجاه الشرق والغرب والجنوب، فبناء قطر نرجسي ومتصادم مع محيطه هو هدم مستقبلي لوجوده أصلا، هو إعلان مؤجل لتفكك الدولة التي يمكن أن تحكم بالحديد والنار، تماما كما فعل الاستعمار، لكنها لن تبني نسقا مقبولا على مستوى اجتماعي عام، فبعيدا عن الصراع على الأرض هناك صراع على محتوى الدولة وغاياتها، وهنا يوجد تناقض بنيوي آخر.
غايات الدولة غير المتجانسة
إن محيط الجزائر الحديثة هو بناء حضاري متماسك اجتماعيا. طبعا هذا لا ينفي وجود حالات كثيرة عبرت فيها المنتظمات السياسية السلطوية في فترات تاريخية عن نمطية في التعامل مع الفضاء الاجتماعي هذا، بحيث سارعت مثلا قوى إلى توسيع مجال نفوذها على حساب مجموعات أخرى، لكن المنظومة انتهت بقيام الدولة وبقبول قيام الجزائر كآخر دولة نشأت في نسق تنازعي مع عدو مشترك هو الاستعمار، لكنها ورثت منه نزعته الهيمنية والتوسعية، إضافة إلى عدم تناسب مجالها السلطوي مع مجالها المرتبط بالمجموعات الاجتماعية تاريخيا وحضاريا. وإن كان هناك قبول بالوضع على المستوى السياسي الأعلى من حكومات ما بعد الاستعمار بالمنطقة، خاصة من طرف المغرب وتونس، فإن هناك إرث عدم القبول الاجتماعي تغذيه عدوانية مفرطة من حكومات الجزائر المتعاقبة تجاه هذا الفضاء الاجتماعي الجمعي؛ وارتبط ذلك بالأساس بالتوزيع الجغرافي لمنظومات السلطوية لما بعد الاستعمار على المستوى الاجتماعي.
لذلك هناك تناقض بنيوي بين غايات كل موروث من منظومة ما بعد الاستعمار، في حين تسعى المنتظمات الناضجة سلطويا، بفعل تاريخي ونفس اجتماعي، إلى بناء منظومة نامية وتطورية؛ ويتعلق الأمر أساسا بالمغرب وتونس، توجد الجزائر في نشوة بناء الدولة والهيمنة، فمساعي الأطراف متباينة من حيث الوجود والغايات المرتبطة بالوجود.
والحقيقة لا يمكن للجزائر أن تبني منظومة تطورية، في سعي المغرب نفسه مثلا، باعتباره جبهة العالم الإسلامي الحضارية العربية في تقابل صارخ مع منظومة العداء الطبيعي القادم من الشمال، أو ما يسمى الغرب في إرث الثقافة التصادمية، كما يقول التاريخ على الأقل، لأنها عنصر كابح ومفرمل للأنساق السابقة، لكونها، ربما، كمنظومة سلطوية هي تحت تأثير التصورات التقليدية لبناء الهيمنة والتوسع والإحاطة ببناء نموذج تاريخي يسمح لها بالاطمئنان على الوجود المستقبلي، ويمكن أن تكون أيضا محورا أساسيا في منظومة مقابلة تعمل بمجهود على تفكيك الروابط البانية الحضارية المقابلة لمنظومة العداء “الطبيعي”، تاريخيا على الأقل، الأوربي الغربي بوعي أو بدونه؛ لذلك لا يوجد في البنية المقابلة من يريد أن يسقط نموذجا ناجحا لفرملة التطور الحضاري في منطقة تماس كبرى ارتبطت بالصراع التاريخي، وكانت مصدر إزعاج كبير في مسارات متتالية.
المخزن الحاضر.. المخزن الغائب
كثيرا ما يشمل خطاب الجزائر التنقيصي تجاه المغرب بنيته السلطوية التاريخية، وهي الدولة التي بنت توافقاتها السلطوية انطلاقا من محورية دور المخزن، أو الدولة المركزية؛ وهي مسألة تتناقض فيها الدولتان حد فهم العنف اللفظي الرسمي والشعبي تجاه مصطلح “مخرن”، فالدولة في المغرب كانت دائما مركزية، وترهلها المناطقي ارتبط بضعف مركزها، وقوتها التوسعية ارتبطت أيضا بقوة مركزها، فالمغرب بني كمنظومة سلطوية تاريخية على أساس محورية الدولة في علاقتها بالرعايا، والمواطنين بعد ذلك، ومفهوم الرعية أشمل من مفهوم المواطنة، لأنه يصبح إضافة على المزايا التي يجب أن يحوزها المواطن موضوع رعاية شاملة من قبل الدولة، فالرعية لا ترتبط بشخص الحاكم كما يحاول البعض تسويقه مفاهيميا، بل هي ترتبط بالدولة ومؤسساتها. لذلك كانت الدولة مسؤولة عن أمن وأكل ولبس وراحة وصحة وعمل الرعية طوال مراحل قوتها، فلا يسلك طريقا إلا أمنته، ولا طعاما إلا وفرته ولا لبسا إلا كسته، ولا دواء إلا أحضرته وعملت على تطبيبه به. ولذلك عملت الدولة المغربية على دعم العلم والجيش وغيرهما من المؤسسات التي كانت في الأصل في خدمة الرعية وليس في خدمة أجندة الدولة الخارجية، حتى إذا تمكنت من ذلك سعت إلى تعميمه على باقي الأمصار، فكانت الدعوة التي يقيمها بناة الدول في المغرب قائمة كلها على حفظ الدين وشوكته، وهو الذي يدعو إلى خدمة الشريعة وحماية الرعية.
ولذلك كانت المركزية تابعا للغاية، وأصبحت الدولة ترنو إلى صياغة نموذج قريب من الرعايا وساقت في ذلك نموذج المخزن الذي، ومع اختلافاته التنظيمية التاريخية، راعى مسألة جوهرية أن يحافظ على مركزية السلطة وعلى تنفيذيتها بارتباط مع ممثلين من أطراف الدولة شساعة وضيقا، وهي قناعة مازالت راسخة لليوم، وتنعكس في الجهوية واللامركزية والحكم الذاتي؛ فهي تعابير على فهم الدولة (المخزن) لبنياتها الاجتماعية مترامية الأطراف، وليست حكما مركزيا جافا في قطيعة مع مكوناته التاريخية والقبلية والاجتماعية.
والعكس تماما حدث بالجزائر، فهي طيلة قرون طويلة، وبدون تنقيص أو مبالغة، كانت جزءا من أطراف المخزن، ولم يحدث أن نشأت بها دول تقوم على مراعاة الاختلاف والتنوع، بل دول، أحيانا قليلة، كما في دويلات بجاية والجزائر (المدينة) وتنس أو الشلف ووهران، وهذا كان مناسبة يرى فيها كثيرون أن التقسيم الجزائري السلطوي تاريخيا كان مبنيا على شرنقة مناطقية تتواصل في ما بينها بسبل تقترب من القطيعة وليس بناء متواصلا ومتماسكا ومتجانسا كالنموذج المخزني؛ بينما في المغرب قامت السلطة على معاني المركزية المفرطة التي كانت تقوى بقوة مركزها وتموت بموته، فلم يتشكل بها ما يمكن أن ينعت بالموروث السلطوي المتواتر الذي يوجد ركيزة لوجدها اليوم، فكان الهدف من تخوين النموذج السلطوي المخزني، إضافة إلى محاولة غرس قطيعة إبستمولوجية في ذهن الممارس عليه فعل السلطة في المجال الجغرافي الموروث عن الاستعمار، هو محاولة بناء دولة مركزية بنفس قيم التنوع الذي هو نموذج تاريخي مغربي. ولأنه لا يمكن أن يحوز الاسم نفسه كان لا بد من مهاجمة الأصل للحفاظ على الفرع، وهو أمر لا أعتقد أنه سينجح لاعتبارات سوسيوسياسية تنطلق من القطيعة مع النموذج المقبول اجتماعيا.. مع ترهل الدولة المركزية، ستبرز مجالات جغرافية متعددة لا تجد في النموذج اللامخزني أي امتداد لها فعليا، فالمخزن هو النموذج الوحيد ذو الصيغة السلطوية التي نبتت من ثقافة سياسية محلية، وباقي التعابير تدخل في أنساق الأطراف التي توجد في محيطه، والتي لها نزعة انكماشية مرجعيتها قبلية أو إثنية أو مذهبية.
القانون الدولي والتاريخ
تنبه المغرب في علاقته مع فرنسا إلى أن التاريخ ليس معيارا للحق وللحقيقة أيضا. لقد كان الاستعمار آلية دخلت في نسق الفتنة، التي هي خلافات بينية في “دار الإسلام”، وأصبح الصراع بمفاهيم أخرى، حيث أصبحت الدولة في الجزائر بنية مصغرة للخروج من عنق التبعية للاستعمار ودلالة الوجود من خلال امتلاك أدوات أخرى خارج المنظومة التي بنيت بها تراتبية النزاعات بين الطرفين، مع التحفظ على مصطلح طرفين لاعتبارات تاريخية، فقد أصبح النزاع مع كيان يريد أن يهيمن ولا يستعيد أي بعد من أبعاد العلاقات التاريخية التي تأسس عليها الحق الثابت للمغرب في أراض كبيرة، وصرنا في عملية وكالة للاستعمار في خصام ببنى جديدة قائمة على “مبادئ” تم إقرارها في منظومة مختلفة بعد تمكن القانون الدولي من نسج وبسط مفاهيمه.
والحقيقة أن الجزائر بنت القانون الدولي، نبتت من خلال مبدأ تقرير المصير الذي ينص عليه هذا القانون، وهي تركيبة جغرافية لا يجمعها أي انسجام سوى كونها إرثا استعماريا. وهكذا تقرر من الاستعمار مفهوم الحق، بما فيه مجال الحدود، بحيث تتشبث الجزائر بالحدود الموروثة عن الاستعمار، وإن كان المنطق يقول إنه لا يمكن أن ينشئ حقا لكون الباطل لا ينشئ سوى باطل، فيما تعامل المغرب مع نشأة الدولة كان في بدايته بقبول وترحاب كبير، لأنه كان يعتبره مجالا حضاريا داعما، قبل أن يتنبه إلى كونه مجالا بقيم غير حضارية موروثة جغرافيا وقانونيا ومبدئيا من الاستعمار.
إن التقابل بين الحق التاريخي والحق القانوني يوجد في مناطق وأمكنة متعددة عبر العالم، ولو شيء أن تتناول كل الدول حقوقها التاريخية لصار العالم مجالا غير منتهي الصراع، لذلك فقدر قبول الموروث غير الأخلاقي من الاستعمار بالنسبة للمغرب هو قدر يحافظ على توازن حضاري بدون اعتبار المجالات السلطوية التي تحوزها، يحاول أن يحافظ على فكرة المناعة الحضارية والقوة المتكاملة في مقابل التهديد الفعلي من قوى استعمارية تقليدية حازت القوة في القرون الثلاثة الأخيرة. فأصل القبول هو امتداد حضاري، ومعيار الرفض هو أن يكون الفضاء الحضاري في خدمة أجندة الفرقة والانفصال والتفتيت؛ ولذلك سيكون المغرب مضطرا آنيا أو آجلا إلى العودة إلى حيازة المجال الجغرافي والتحكم فيه لبناء فضاء القوة إذا لم تكن الفضاءات التي يحوزها حاليا قادرة على فعل ذلك أو كانت فعليا في خدمة العدو الحقيقي المشترك.
لكن لماذا لا ولن يسعف التاريخ الجزائر؟ بغض النظر عن أزمة صناعة الوحدة المرتكزة على التاريخ، التي لم تتحقق إلا في مراحل قليلة من مسار الوجود الطويل في علاتها وارتهانها بقوى ومراكز سلطوية غير محلية، فإن الجزائر لا يمكنها أن تستند إلى نقيضها لتدليل وجودها، هي تريد تاريخا بطوليا وأسطوريا ولكن ليس تاريخا حقيقيا، لأنها بنيت على قيم القانون الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية؛ القانون الدولي هو الذي أسعفها في الوجود، وخلصها من العدم، هو الذي تقوم عليه وتدافع عن مبادئه بشراسة، بحيث أصبح مبدأ تقرير المصير عقيدتها، تستعمله في مناسبات كثيرة لجلب المصالح أو تأزيم الخصوم، كما تفعل مع المغرب.
الدولة التي نشأت بالقانون الدولي الحديث الذي لا يعطي أهمية للمقومات التاريخية أيضا تريد أن تهمش التاريخ، لأن التاريخ يقول إن أجزاء جغرافية كبيرة لم تكن تاريخيا من منظومة سلطوية “جزائرية”. وهكذا يصبح التناقض بين التاريخي والقانوني محورا من محاور الوجود وقاعدة له، فرفضها مصطلح مخزن نابع من رفضها أساسا تاريخيا للسلطوية امتد إلى مجالات جغرافية تحوزها اليوم، ورفضها معبر “زوج بغال”، وتعويضه بتسمية “العقيد لطفي”، نابع من كراهيتها للقيم التقليدية وتقديسها للقيم المعاصرة التي تجد فيها مشروعية وجودها.
إنني في حيرة كيف أصور حوارا مفترضا بين المغرب والجزائر، وما يحضرني هو فيلم عنوانه “الآخرون” The Others المستوحى جزئيا من رواية هينري جيمس TheTurn of the Screw التي ألفها أواخر القرن التاسع عشر، والتي تدور أحداثها في منزل تتقاسمه روح سيدة مع ابنيها وساكن جديد، يعتقد كل منهم أن الآخر هو الدخيل وأن عليه المغادرة.
إن الحوار المفترض مع الجزائر يشبه إلى حد بعيد محاولة أهل الدار إقناع شبح السيدة بأنها ليست على قيد الحياة، وبأن استمرارها في الاعتقاد بأنها مالكة كل شيء هو في نسق الوهم فقط، وبأن الحل الوحيد هو أن ترحل من بيت يريده أهله في واقع مخالف لما عاشته هي وأسرتها في السابق. أي إن الحوار في الأخير يجب أن ينتهي بإقناع النظام الجزائري بأن الخير الوحيد الذي يمكن معه أن يعم السلام والأمن هو أن يغادر سدة السلطة ويسلمها لأهلها الذين آجلا أم عاجلا سيفعلون.
وفي هذه الحالة فقط يمكن أن نبني مسارات جديدة بمفاهيم جديدة، لكن في أنساق تعرف الفوارق التي طبعت علاقاتنا الثنائية وتأثرت بها بالنسبة لكل دولة. ما دون ذلك نحن في حالة فرملة تاريخية بطلها نظام سياسي عميل لأجندة الاستعمار التقليدية بقدرات دعائية واستخباراتية يحاول معها تلفيق التاريخ والواقع ليتلاءم مع غاياته الخبيثة.
*أستاذ القانون الدولي، جامعة محمد الأول، وجدة.
رئيس مركز رؤى الشرق
المصدر: وكالات