مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، بدأت تتكشف فصول جديدة من التورط المباشر للنظام السابق في واحدة من أكبر العمليات الإجرامية التي عرفتها المنطقة: تحويل سوريا إلى مركز عالمي لإنتاج وتصدير الكبتاغون. هذا المخدر المحظور، الذي أصبح يُطلق عليه “كوكايين الفقراء”، مثّل مصدر تمويل رئيسيًا للنظام السوري خلال سنوات الحرب، بينما أغرق أسواق المنطقة بملايين الأقراص المخدرة.
تقارير دولية وشهادات ميدانية أكدت أن الكبتاغون لم يكن مجرد تجارة جانبية في سوريا، بل كان مشروعًا استراتيجيًا مُدارًا بعناية من قبل قيادات النظام السوري، أبرزهم ماهر الأسد، شقيق بشار الأسد وقائد الفرقة الرابعة في الجيش. هذه الفرقة، التي أطلق عليها السوريون “فرقة الكبتاغون”، لعبت دورًا رئيسيًا في إدارة عمليات الإنتاج والتخزين والتهريب.
في أعقاب سقوط النظام وسيطرة فصائل مسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام على مواقع استراتيجية في دمشق وغيرها من المدن، عُثر على كميات هائلة من الكبتاغون مخبأة داخل مستودعات ومرافق عسكرية. في إحدى هذه العمليات، سمحت هيئة تحرير الشام لوسائل إعلام دولية بدخول مستودع في ضواحي دمشق. المستودع كان يحتوي على ملايين الحبوب المخبأة داخل مكونات كهربائية جاهزة للتصدير. وأكد قادة الهيئة أن هذا الموقع كان تحت إشراف مباشر من ماهر الأسد وشريكه رجل الأعمال عامر خيتي، الذي فرضت عليه عقوبات دولية لدوره في تسهيل تجارة المخدرات.
عصب اقتصاد الحرب
مع انهيار الاقتصاد السوري تحت وطأة الحرب والعقوبات، تحولت تجارة الكبتاغون إلى المصدر الأول للعملة الصعبة بالنسبة للنظام السوري. وفقًا لتقارير دولية، تجاوزت عائدات هذه التجارة 5 مليارات دولار سنويًا، ما جعلها تفوق جميع الصادرات القانونية للبلاد مجتمعة. وأصبحت سوريا المصدر الأول للكبتاغون عالميًا، حيث تشير التقديرات إلى أن 80% من الإنتاج موجه إلى دول الشرق الأوسط، وعلى رأسها دول الخليج.
السعودية كانت السوق الأهم لتجار الكبتاغون، حيث تُقدر نسبة كبيرة من الحبوب المضبوطة في المملكة بأنها قادمة من سوريا. في عام 2022، صادرت السلطات الأردنية أكثر من 65 مليون حبة كبتاغون مهربة من سوريا. وفي تركيا، ضبطت السلطات 3.2 مليون قرص في عملية واحدة جنوب البلاد. أما العراق، فقد أعلن في وقت سابق عن ضبط أكثر من نصف مليون حبة كبتاغون مخبأة داخل شحنة خضروات، مما يشير إلى اتساع نطاق التهريب وابتكار وسائل لإخفاء المواد المخدرة.
تشير تقارير متعددة إلى أن إيران، الحليف الرئيسي للنظام السوري، لعبت دورًا رئيسيًا في دعم تجارة الكبتاغون. أنشأت إيران مرافق إنتاج في سوريا ومناطق أخرى مثل وادي البقاع اللبناني، حيث يُعتقد أن حزب الله كان شريكًا في عمليات التصنيع والتهريب. رغم النفي المتكرر من حزب الله، إلا أن تقارير استخباراتية أكدت دوره في تسهيل عمليات التهريب إلى دول الخليج، بما في ذلك توفير الحماية لشحنات المخدرات عبر الحدود اللبنانية والسورية.
تجارة الكبتاغون لم تكن مجرد مشروع اقتصادي بل تجاوزت ذلك لتصبح ورقة ضغط سياسي في يد النظام السوري. استخدم بشار الأسد تجارة المخدرات وسيلة للضغط على دول الخليج، خاصة السعودية، من أجل كسر العزلة السياسية المفروضة عليه منذ بداية الحرب. ووفقًا لمركز كارنيغي للشرق الأوسط، كان لهذه الاستراتيجية دور رئيسي في إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية عام 2023.
تداعيات خطيرة
انتشار الكبتاغون في دول الخليج أثار قلقًا متزايدًا من تداعيات اجتماعية وأمنية خطيرة. في السعودية، التي تُعد من أكبر أسواق الكبتاغون، أطلقت السلطات حملات مكثفة لمكافحة التهريب والتوزيع. تضمنت هذه الحملات إعدام العشرات من المهربين والمروجين، إلى جانب تعزيز الإجراءات الأمنية على الحدود مع الأردن. في الأردن، دفعت التوترات الناتجة عن تهريب الكبتاغون القوات الجوية إلى تنفيذ ضربات استهدفت منشآت تصنيع وتخزين قرب الحدود السورية. إحدى هذه الضربات في أوائل 2023 أسفرت عن مقتل عدد من المهربين وتدمير مستودعات مرتبطة بتجارة المخدرات.
التحقيقات الميدانية التي أجرتها وسائل إعلام دولية وفصائل مسلحة كشفت عن بنية تحتية ضخمة لتجارة الكبتاغون في سوريا. في مستودعات عُثر عليها في دمشق وحمص وحلب، وُجدت معدات متطورة لإنتاج الكبتاغون بكميات كبيرة. كما عُثر على كميات ضخمة من المواد الخام مثل الصودا الكاوية، وهي عنصر أساسي في صناعة الميثامفيتامين. الأكياس التي تحتوي على هذه المواد كانت تحمل علامات تشير إلى أنها مستوردة من دول خليجية، مما يسلط الضوء على الطبيعة المعقدة لشبكات التهريب.
إلى جانب ذلك، تم العثور على سراديب ومخابئ تحت الأرض في منازل قيادات بارزة بالنظام السوري، أبرزها منزل ماهر الأسد. في فيديو تم تصويره بعد اقتحام أحد هذه المخابئ، أظهرت المشاهد وجود معدات تصنيع ومواد مخدرة بكميات كبيرة. وأشار خبراء إلى أن هذه السراديب كانت مُعدة للاستخدام في حالات الطوارئ أو للهروب، ما يؤكد مستوى التنظيم العالي الذي تمتعت به شبكة الكبتاغون.
رغم سقوط نظام الأسد، تشير التوقعات إلى أن تفكيك شبكة تجارة الكبتاغون سيستغرق سنوات. البنية التحتية القائمة لهذه التجارة، والتي تشمل مصانع ومستودعات وشبكات تهريب إقليمية، لا تزال نشطة. الفصائل المسلحة التي سيطرت على بعض المناطق أكدت التزامها بتدمير هذه المستودعات، لكنها لم تقدم خططًا واضحة للتعامل مع المصانع والمخزون الكبير الموجود في المناطق الأخرى.
المصدر: وكالات