يرى الكاتب العام الجديد للمجلس العلمي الأعلى سعيد شبار أن “النموذج المغربي في التدين، الذي ترعاه إمارة المؤمنين، بنهجه سياسة القرب من الناس، تبليغا وإرشادا، من خلال مؤسساته المنوط بها هذا الواجب”، عن طريق “الاشتغال في واقع الناس والإسهام في جلب المصالح لهم ودرء المفاسد عنهم”، هو من “النفع” المأمور به في الإسلام.
ويضيف شبار في دراسة جديدة: “هذا النموذج بذلك في طموحه الإصلاحي أكثر التصاقا بواقع الناس وحياتهم المعيشة، حيث يشحذ بذلك قواه الفكرية والنظرية، ويتجاوز المقولات التغييرية التي معظمها شعارات لا مضمون فكريّا وعمليا تحتها؛ وهي الشعارات التي هيمنت للأسف على فكر المسلمين التغييري والإصلاحي طيلة أزيد من قرن ونصف قرن من الزمان، ولم يتغير بها حال ولا انصلح بها واقع”.
ويرى الكاتب ذاته أن الفرصة اليوم مواتية “لهذا النبوغ المغربي، في الإصلاح العلمي والعملي، كي يقدم للأمة نموذجا في التغيير والإصلاح يكون قدوة لغيره من النماذج”، كما كتب في دراسة “إمارة المؤمنين وضبط الاعتدال والتوازن بين روح العصر وروح الدين”، التي صدرت عن “مركز دراسات المعرفة والحضارة”، وتتضمن تنظيرا وتفسيرا ودفاعا عن تصور الدولة وتدبير الشأن الديني من منظور التراكمات التاريخية والراهنة بالمغرب والاجتهادات المرتبطة بها.
ويذكر المؤلف أن القُطر المغربي تعرّف على نظام “الإمامة والبيعة الشرعية” على مدار “أزيد من اثني عشر قرنا إلى يومنا هذا”، وهو منصب “يحرس الدين من جهة، ويسوس الدنيا من جهة أخرى؛ أي يحرص ويصون الاختيارات الدينية المذهبية التي اختارها المغاربة وتخلصوا من غيرها، والمعروفة بالثوابت الدينية: عقيدةً أشعرية، وفقها مالكيا، وسلوكا جُنيديا؛ وكلها اختيارات مبنية على التوسط والاعتدال، ولزوم يسر وسماحة الدين من غير غلو أو تشدد”.
ويتتبّع الدارس تشكّل “ما نسميها اليوم ‘الخصوصية المغربية’، التي من أبرز مقتضياتها: الاستقلال عن الخلافة المشرقية، عدم التأثر كثيرا بالخلافات المذهبية الفكرية والعقائدية التي عرفها المشرق، بناء النسق السياسي والديني الخاص، وعلى رأسه الاختيارات المذهبية وإمارة المؤمنين، والقدرة النقدية والمراجعة الاستيعابية للعلوم والمعارف المنقولة والوافدة حتى داخل النسق المذهبي الواحد، ورسوخ هذه الاختيارات عبر القرون في الدول المتعاقبة على الحكم، وكونها الثابت الذي لا يتغير، حيث صارت تشكل الهوية الحافظة لوجود الأمة والضامنة لأمنها واستقرارها”.
وكتب شبار أن هذا قد “استمر إلى عصرنا الراهن مع جيل علماء الاستقلال والإصلاح، ومع مأسسة مشيخة العلماء وتنظيم عملها وجهودها” في عهد الملك الحسن الثاني، ثم “الانطلاقة الأوسع التي هي تحول نوعي وكمي على مستوى مؤسسة العلماء” على عهد الملك محمد السادس، رئيس المجلس العلمي الأعلى؛ حيث “تمت دسترة هذه المؤسسة وهيكلتها، وتعميمها على الصعيد الوطني، وتنويع أنشطتها التكوينية والتأطيرية للقَيِّمين الدينيين، وتفعيل وظيفتها التواصلية مع المحيط الاجتماعية والتربوي، والصحي والبيئي وغيره”.
وعبر برامج تأطيرية ومؤسسات تكوينية، عددتها الدراسة، يرى الكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى أن دور “المجالس العلمية” لمختلف أنحاء البلاد: “صيانة وحدة وانسجام الخطاب والعمل الديني؛ وذلك بدرء الفتنة عنه”، و”تنمية وترقية المحيط تفاعلا مع مؤسساته المختلفة، تربوية وصحية وبيئية وغيرها”، علما أن “هذا كله جزء هام وعنصر حاسم من عناصر الإجابة عن الاستقرار المغربي والأمن الروحي فيه، واللَّذين تحميهما وتصونهما معا إمارة المؤمنين”.
ولا ترى الدراسة انفصالا في “منصب الإمامة بين مجالي الدين والدنيا”؛ بل إن “تلازمهما تلازم وظيفي، مبني على الاجتهاد والتقدير المصلحي في جلب المنافع والمصالح للناس، ودرء المفاسد والمضار عنهم؛ وذلك هو مقصد الدين والشريعة الكلي، وهو نفسه مقصد السياسات والنظم المعاصرة في تدبير شؤون ومصالح الناس، حيث يعضد منصب الإمامة بخلفيته الدينية منصب السياسة بخلفيته الدستورية، في التدبير الموحد والمنسجم للمصالح”.
إذن، يخلص شبار إلى أن “دعوى أو أطروحة تعَلُّق الإمامة بالدين وحده لا معنى لها؛ فليس لها مستند، لا من الدين نفسه، ولا من الممارسة السياسية في تاريخ المسلمين؛ وتبقى استعارة غير موفقة من نماذج سياسية غربية، تجعل من الحاكم حَكَما شكليا لا حاكما فعليا”.
وبعد دحض لـ”الثنائيات” التي يراها “صناعة تاريخية”، ومن بينها “إشكالية الدين والدولة” التي استشهد باعتبار المفكر محمد عابد الجابري لها “سؤالا مزيفا”، استرسل الكاتب باسطا رؤيته: “ليس في الإسلام إكليروس، ولا تفويض إلهي، ولا احتكار ووصاية على الدين ولا على الدنيا؛ بل تدبير مبني على الاجتهاد، وعلى العلم والمعرفة، وعلى النظر العقلي والتقدير المصلحي؛ وذلك تبعا لما هو معروف عند أهل السنة من كون الإمامة من الفروع العملية، وليست من الأصول الاعتقادية؛ أي إن سياقها التدبير العملي الاجتهادي، من خلال النظم والمؤسسات التي تخضع للاجتهاد والمراجعة وللرقابة والمساءلة، وليس الإيمان الكلي القار القائم على التفويض والتسليم”.
“إذا كان التصرف النبوي معصوما في مقام التبليغ عن الله تعالى، وكذا الإفتاء الذي هو بيان الأحكام المقررة في الدين، علما أن الفتوى نفسها تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والعوائد كما نص العلماء على ذلك، أي إنها مواكبة لروح العصر في تطور قضاياه ومسائله؛ فإن باقي التصرفات فيها مساحة اجتهادية واسعة، تراعي المصلحة، وتنبني على ملاحظة الواقع والقرائن”، يورد المتحدث ذاته، وزاد: “ثم للإمام الذي يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام، بعد اتساع رقعة الدولة، تفويض هذه المهام للمؤسسات التي تختص بها مع مسؤوليته عليها؛ فتناط الفتوى بشخص أو هيئة، والفصل بين النزاعات بالقضاء والمحاكم، والأمن وحفظ النظام بالسلطات الأمنية، وحماية الحدود والدفاع عن البلد بالجيش، وسائر المهن الحياتية لجهات الخبرة والاختصاص والعلم بها؛ وليس لأحد، فردا أو جماعة، أن يقتحم اختصاصا ليس له، فضلا عن أن ينتزعه من أهله ويمارسه عنوة؛ فذلك محظور شرعا درءا للفتنة، لهذا أناط الشرع هذه الاختصاصات بالإمام، حصرا، درءا للفتنة والتنازع”.
وتؤكد الدراسة أن “منصب الإمامة” يجتمع فيه “التدبير السياسي الديني والدنيوي معا، ثم تتمايز المؤسسات المنوط بها خدمة مصالح الناس المختلفة، عبر الوسائل والآليات المجتهد في تحصيلها. وبهذا يدرأ هذا النموذج آفات (الدولة الدينية) في تسلطها باسم الدين، أو بالتفويض الإلهي، ومصادرتها على الحقوق والحريات، وعدم اعتبارها لروح العصر والاجتهاد الضروري له (…) كما يدرأ آفات (الدولة اللادينية) في تسلطها باسم الدنيا، وتفسيرها المادي لكل شيء، وعدم اعتبارها لروح الدين وقيمه الضرورية للحياة، واكتفائها باستعارة نظمها من غيرها، من غير مراعاة لأهم خصوصياتها، ولا الاجتهاد الضروري في بنائها وتطويرها”.
ويكتب سعيد شبار أن “المرجعية الإسلامية التي تستند إليها إمارة المؤمنين نسق من القيم الإنسانية المشتركة المنفتحة على إمكانات التمدن والتحديث، في السياسة والاقتصاد والمجتمع؛ كما أنها مؤسسة في هذا السياق على منهجية الاجتهاد في إبداع النظم وتطويرها، وعلى مراجعتها انتقادا ومساءلة”.
ويواصل الكاتب: “معلوم أن مدار فلسفة التشريع الإسلامي عموما إنما هو على جلب المصالح والمنافع للناس، ودرء المفاسد والمضار عنهم؛ كما أن مقاصده الكلية تتجلى في: حفظ الأنفس، والعقول، والأموال، والأعراض، والأمن، والنظام العام… ومن ثم فكل النظم التدبيرية المدنية التي تخدم تلك الأصول والمقاصد، مهما كانت وضعية، هي معتبرة شرعا؛ إذ الوضع هنا اجتهاد مطلوب بالشرع في التدبير والتقدير المصلحي، منوط بالدرجة الأولى بمقام الإمامة، في قضايا الأمة العامة على الخصوص”.
ويقدر شبار أن “الجمع الذي تمارسه إمارة المؤمنين بين مهام الدين والدولة يمنحها خصوصيات وامتيازات عدة، تتجاوز آفات الفصل التي تلوح نتائجها بحدة اليوم في كثير من النماذج الغربية، التي أقصت الدين عن الشأن العام حتى في الجانب التخليقي الضروري للحياة، حيث أضر ذلك بالدين والدولة معا؛ إذ جعل من الدين مجرد طقوس صورية لدى البعض، ولاهوتا خرافيا عند آخرين، لما تم فصله عن الواقع والحياة؛ وجعل من الدولة الحديثة مجرد حارس لنظم وقوانين التسليع البشري، بعد فقد المعنى الضروري في الحياة، وفقد القيم الفطرية الاجتماعية الضرورية لها كذلك؛ أمام زحف قيم الاستهلاك والتشييء، بل والعدمية والعبثية في نماذج كثيرة تكاد تخرج عن حد الاعتبار البشري”.
وعبر نموذج مؤسسة إمارة المؤمنين تدافع الدراسة عن تصور مفاده أنه “حينما يتم الجمع بين الدين والدولة، في توازن واعتدال منضبط، تُدرأ آفات كثيرة عنهما معا؛ حيث يتم تنسيب مقولات ومُثل الدين العليا، من خلال التمثل البشري لها، مع بقاء أصلها الكلي المعياري، وخضوع التمثل الاجتماعي للتقويم المستمر، فيدرأ ذلك كل أشكال الصورية والخرافية، وادعاء التماهي مع القيم الدينية الكلية، إذ الأصل في التدين أنه كسب واجتهاد، مطبوع دائما بالنسبية والقصور”.
وعبر هذا الجمع أيضا إذا تحقَّقَ الاعتدال “يتم إعطاء معنى للحياة، وقيم وأخلاق في المعاملات والعلاقات، يمنحها الدين وتحرسها وتخدمها الدولة من خلال مؤسساتها المختلفة”، أو كما كتب سعيد شبار مجملا: “تَحُدُّ الدولة، من خلال واقعيتها، من النزوع الطوباوي الحالم لدى كثير من المتدينين؛ ويحد الدين، من خلال قيمه وأخلاقه، من الجشع الاستهلاكي والنزوع التسلطي للادينيين؛ وفي ذلك تقويم وتسديد متبادل، يدرأ آفات أخرى مثل الغلو والتطرف في الدين، والتبذير والإسراف في الدولة”.
المصدر: وكالات