عرفت دينامية تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالمغرب انخفاضاً “ملموسا” خلال سنة 2023 لم تخطئه عيون الفاعلين التي ترصد ديناميات الاقتصاد المغربي، خاصة في بُعد الاستثمار الأجنبي المباشر الجاذب لرؤوس أموال وعائدات جمّة، وهو ما أشار إليه مكتب الصرف في حصيلته للأرقام السنوية الخاصة بـ”مؤشرات المبادلات الخارجية” للعام المنقضي.
وحسب معطيات مكتب الصرف، فإن سنة 2023 لم تتجاوز خلالَها قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالمغرب 10,5 مليارات درهم، بنسبة انخفاض واضحة بلغت ناقص 53,3 في المائة مقارنة بسنة 2022، التي عرفت صافي تدفقات من هذه الاستثمارات قدرُه 21,7 مليار درهم. أما سنة 2021 فكانت قد انتهت بصافي تدفقات بلغ 20,3 مليار درهم.
وباستقراء دقيق للبيانات المنشورة من طرف المؤسسة الرسمية المختصة، فإن هذا “التراجع الكبير” ناتج عن وضعية عرفت بدورها تراجُعاً في “عائدات الاستثمارات الأجنبية المباشرة (Recettes IDE) نسبته 17,8 بالمائة، مستقرة عند مبلغ إجمالي 32,5 مليار درهم”.
ويُلاحظ، من خلال البيانات التي طالعتها جريدة هسبريس، تسجيل “ارتفاع” في نسبة النفقات لهذه النوعية من الاستثمارات محققة نسبة إيجابية +25,6 بالمائة، مما يعادل قيمة 22,34 مليار درهم. وهو ما أدى إلى تراجع الاستثمارات المباشرة بالمملكة بنسبة تزيد عن النصف مقارنة بسنة 2022.
بالمقابل بصمت “الاستثمارات المغربية المباشرة بالخارج” إلى نهاية سنة 2023 على ارتفاع لافت فاقت نسبته 34 في المائة، بمبلغ نفقات وتحويلات ناهز 25,6 مليار درهم (+31 بالمائة)، وقيمة عائدات قُدرت بـ 17,17 مليار درهم (+29 بالمائة).
“عوائق داخلية”
رشيد ساري، محلل اقتصادي متابع للدينامية الاستثمارية بالمملكة، لفت بداية إلى “عدم انتظام في وتيرة تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة نحو المغرب طيلة السنوات الخمس الأخيرة (2019-2023) بسبب سنوات عرفت انخفاضا حادًا مقابل سنوات أخرى شهدت تدفقا متميزا وأرقاماً قياسية إيجابية”.
وفي تقدير الخبير الاقتصادي ذاته، فإن تراجع الـIDE التي تدفقت على المغرب “لا يعزى إلى ما يقع في العالم من توترات جيوسياسية أو تحولات اقتصادية عالمية، بقدر ما يعود إلى مشاكل داخلية، أبرزها منظومة الاستثمار في حد ذاتها لأن المغرب يعد من الدول الأولى التي تستثمِر بشكل كبير في الخارج، إلا أنها لا تستقطب بشكل هام الاستثمارات الأجنبية”.
وقال رئيس المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة إن “مناخ الأعمال من المؤشرات الحسابية التي تكشف عن مناخ إيجابي جاذب للاستثمارات في الغالب، إلا أن الإشكال الأول يتعلق بالتمويلات وتسهيلاتها، التي قد تعترض طريق المستثمر الأجنبي حينما يرغب في ولوج السوق المغربية”.
“النظام الجبائي المغربي غير مستقر”، وهو عامل وعائق ثانٍ، يقول ساري، الذي نبه إلى سلبية “تغيّر سنوي ودوري لمقتضيات الإجراءات الضريبية، وهو ما قد ينفّر المستثمرين”.
وأنهى المتحدث تصريحه موصيا بـ”إعادة النظر في ظروف مناخ الأعمال بالمغرب، خاصة في مجال التمويلات، وتسهيل وتبسيط أكثر للإجراءات الضريبية والجبائية، مع منح امتيازات لجذب التدفقات الاستثمارية”.
“تراجع ظرفي”
وفي تعليقه على الموضوع وقراءته للأرقام سالفة الذكر، أكد الباحث الاقتصادي محمد جدري أن “التراجع الملموس للاستثمارات الأجنبية في المغرب بمقدار النصف (50 في المائة) خلال سنة 2023 يبقى أمرا مقبولًا ومنطقياً”، مفسرا ذلك بأن “هناك مجموعة من العوامل التي دفعت بعدد من المستثمرين الأجانب إلى عدم القدوم إلى المملكة في سنة صعبة من حيث الظرفية الاقتصادية”.
العامل الأول، حسب جدري، يتمثل في “تكلفة المال التي ظلت مرتفعة بسبب تأثير ارتفاعات متوالية كانت قد مسّت نسب الفوائد المركزية في معظم البنوك العالمية، خاصة منها الأوروبية والأمريكية”، مذكرا بأن “المغرب بدوره كان قد رفع، عبر البنك المركزي، سعر الفائدة الرئيسي ثلاث مرات متوالية لتصل 3 في المائة، وبالتالي فإن اقتراضات المقاولات العالمية المستثمرة للمال أصبحت أمراً مكلِّفاً جدا بالنسبة لها على صعيد السيولة المالية”.
أما العامل الثاني المفسر لانخفاض صافي تدفق الـIDE بالمغرب فهو “استمرار حالة اللايقين في المشهد الاقتصادي العالمي، وهو ما يؤكده تصاعد التوترات الجيوسياسية في شرق أوروبا (الحرب في أوكرانيا)، والصراعات المسلحة في الشرق الأوسط، والملاحة التجارية البحرية، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية الطاقية والغذائية وتدهور قدرة الشراء”.
كما لفت المحلل الاقتصادي ذاته إلى “تراجع وتيرة الطلب المحلي أو الأجنبي على مجموعة من السلع والخدمات، إذ لم يكن عند مستويات كبيرة تحفز جذب استثمارات إلى المغرب”، فضلا عن “الجفاف المتواصل وأزمة الإجهاد المائي الذي دفع إلى تأجيل الاستثمارات الفلاحية الكبرى بالمغرب إلى وقت لاحق. كما أن قطاع العقار لم يعد محط جذب واهتمام المستثمرين الأجانب نظراً لاستمرار ركوده خلال العام المنصرم”.
“كلها عوامل مجتمعة دفعت في اتجاه تأجيل الاستثمارات الأجنبية إلى وقت لاحق، وهو ما يُنتظَر أن يتحقق خلال السنة الجارية”، يقول جدري، خاصا بالذكر “جذب المغرب عددا من المستثمرين الإماراتيين بعد توقيع خارطة طريق ضخمة وشراكة استراتيجية جديدة في قطاعات اقتصادية متعددة بين الإمارات والمغرب، ستسفر عن تحسن جاذبية الاستثمارات الأجنبية نحو المملكة في 2024”.
المصدر: وكالات