كثيرا ما يكون للصدفة دور في الاطلاع على ما أغـفـلـته الذاكرة منذ سنوات، فلم أتمكن من استحضار ما أغـفـلـته إلا وأنا أجتهد في تنظيف بعض رفوف خزانـتي، والعودة إلى بعض ما تـضمـه من مؤلفات مختلفة؛ في الأدب، في التراث، في الروايات، في الدواوين الشعرية وغيرها، ولعل هذه الفوضى في الترتيب بعد أن كانت الخزانة منظمة تبعا للفنون، يعود إلى الانـتـقـال عند الاشتغال ببعض البحوث من فن إلى آخر، ولعل هذا العمل المنزلي على الرغم من أنه مرهـق ويأخـذ وقـتا، كان له فـضل العودة إلى مذكرات تعـتـبر من روائع السيرة الذاتية، كنت قد اشتريتُ هذه السيرة ــ كما هو مـدوّن في أول صفحة منها ــ من القاهرة يوم 19 أكتوبر 2003، وقـرأتها في لحـظـتها، لكن الذاكرة لا تستطيع أن تحـتـفـظ بـكـل الـقـراءات.
هكذا استرعـت نظري هذه السيرة للكاتبة نبوية موسى (1886 ــ 1951) وعنوانها “تاريخي بقلمي”، الصادرة عن مكتبة الأسرة في مائـتــيـن واثـنـتين وسبعين صفحة، في طباعة لا أقول متميزة، لكن لا بأس بها، وقد طبعت هذه السيرة أول مرة سنة 1937 ضمن منشورات مجلة الفتاة التي كانت تشرف عليها نبوية موسى، ثم توالت طبعاتها ثلاث مرات سنة 1999 ضمن منشورات “ملتقى المرأة والذاكرة/القاهرة، ثم أعيد طبعها ضمن سلسلة “مكتبة الأسرة”، مهرجان القراءة للجميع، برعاية السيدة سوزان مبارك سنة 2003، ثم طبعة أخرى سنة 2015، ثم سنة 2021.
شـخـصـيـة نـسـائـيـة مـنسـيـة
تركت ما كنت بصدده، وفتحت الكتاب لأطلع على أهم ما فيه وأتركه، لكنه سيأخـذنـي إلى عالمه وسأكبُّ على قراءته، وقد شغـلـني عن كل شيء كـنت بصدده.
كتاب توثيقي لسيدة تعليم، كان لها من الجرأة والعلم ما بوأها مكانة متميزة في النصف الأول من القرن العشرين، أي القرن الماضي.
كيف نجحت هذه السيدة نبوية موسى في كتابة سيرتها الذاتية بعفوية ووضوح، بعيدا عن كل البهرجة التي يخـلـقها اليوم بعض كتاب السيرة.
وجدت في هذه السيرة ما أغـراني بقراءتها بـتـأن وتأمـل، والإعجاب بقلمها وهي تـدوّن مراحل حياتها من الطفولة إلى آخر نشاط لها في مسيرتها التعليمية، كيف كانت تتحدى ظروف حياتها الصعبة في قـرية قـد لا يُـلـتـفتُ إليها في ذلك الوقت ببنـدر الزقازيق بمصر.
عاشت طفولة مختلفة، ترغـب في الالتحاق بالمدرسة، لكن الأم والأسرة تريان في ذلك خروجا عن المألوف تبعا للمقولة السائدة: “عـلموهـن الغزل ولا تعلموهــن الخط”، لكنها ستبذل المستحيل لتلتحق بالمدرسة الابتدائية ولتنجح في تشكيل شخصيتها بنفسها، وفي أن يكون لها حضور قـوي وسط قريناتها، ولم يكن عـددهن يتجاوز العشرة أو أقـل، تـذكـر الأستاذة نبوية أن “أخاها كان أول معلم لها، تعـلمت القراءة من خلال تـذوقـها للشعر العربي، فحفظت القـصائد التي كان يرددها شقيقها وهو يحضر دروسه، إذ كان يتابع تعليمه كغيره من شباب القرية، وكذلك عند انتقاله إلى القاهرة ليتابع دراسته الثانوية والجامعية ــ وهو يكبرها بعشر سنوات ــ برعـت في ذلك، تعلمت القراءة عن طريق الحـفـظ وهي تنصت إلى قراءة شقيقها، أما الكتابة فتعلمتها عن طريق المحاكاة، محاكاة ما تجده أمامها من الكلمات، ولم تنجح في الكتابة إلا بعد سنوات.
تـذكـر الأديبة نـبـوية أنها عاشقة للقراءة، مؤمنة بتعليم الفـتـيات، فهي أول فتاة مصرية تحصل على شهادة الباكالوريا سنة 1902، عن طريق غير نظامي، لأنها حوربتْ وهي تتعلم وهي تناقـش وتحاور مع ناظرة المدرسة، مع مفتشي اللغة العربية، مع زميلاتها، ومع ذلك كانت أول امرأة تعمل معلمة للغة العربية، وأول ناظرة مصرية في المدرسة، فـتـنـقـلت بين أقاليم كثيرة للعمل في الإدارة المدرسية، بالفيوم، المنصورة، ثم بالقاهرة، وللإشارة فإنها أول امرأة تُـلقي محاضرة أسبوعية بالجامعة المصرية/جامعة قـؤاد الأول بالقاهرة التي أنشئت سنة 2008، وأصبح اسمها اليوم جامعة القاهرة بعد ثورة يوليو سنة 1952، وذلك في يوم الجمعة من كل أسبوع، لـتـتحدث عما يجب بذله من جهود لتعليم البنات. إنها أول امرأة مصرية تتخذ من تعليم الفتاة قضية وطنية.
نبوية موسى شخصية متحدية لظروف عاشتها وعاكستها، امرأة عـنيدة أمام جبروت المستعمر الإنجليزي وأمام المجتمع المصري الذي لا يرى في تعليم الفـتاة فائـدة تـذكـر.
تـذكر نبوية موسى في سيرتها أنها تجاوزت عراقـيل ومطبات لإحباط خطواتها فيما تنشده من تعليم الفتاة، عراقيل اجتازتها بثقة في النفس وفي المستقبل، فكيف لا تنجح وهي التلميذة التي لم يكن نجاحها مرتبطا بتعليم نظامي كما يجب أن يكون، لكنها كانت أعـز من أن تـفـشل في تعـلمها وحصولها على ما تــود وترضى من العلم والدرس أو العمل في دواليب الحكومة في المدرسة كمعلمة وناظرة وصحافية.
كـتبت في مجلة “مصر الفتاة” منـتـقـدة أسـاليب التعليم في المدارس، وسبب لها ذلك مضايقات وانتقادات، لكن أنصفها ساعتها سعد زغلول وسُـرَّ بذلك وقد أعجب بالمقال كما تروي نبوية موسى في كتابها ص100، كما كتبت في جريدة “الأهرام” و”مصر الفتاة” و”البلاغ الأسبوعي” وغيرها.
محكـيات مـنـعـشة للأديبة نبوية موسى وهي تروي سيرتها المشرقـة، مـتحدية كل الظروف التي كانت تخـذلها، لكنها كانت تـنـتـصر في كل المواقـف، سيرة جديرة بالقراءة والتأمل في حياة معلمة ناجحة والارتواء من أسباب تفوقها ونجاحها.
تـذكر نبوية موسى أنها أخذت تكتب عن سيرتها في (مجلتها الفتاة) في أكتوبر سنة 1937، تقـول: “أخذتُ أكتب فيها ــ أي في المجلةــ بعض ذكرياتي، فأقـبل الناس عليها، ومن ثـمَّ قـمت بسرد ذكرياتي حسب تواريخ حدوثها في حياتي، فأصبحـت بذلك تاريخا مفصلا لما تـكـبَّدتـه من مشاق، وما شعرت به أحيانا من اغـتباط إن كان في ذلك التاريخ معنى للاغتباط” ص21.
جاء في تقديم الكتاب للأستاذتين رانيا عبد الرحمن وهـالة كمال، ص 8: “حين قررت نبوية موسى جمع مقالاتها ونشرها في كتاب لم تحتـفـظ بعنوان سلسلة مقالاتها الصحفية، وإنما اختارت عنوانا مختلفا هو تاريخي بقـلمـي”.
كما يشير التقديم إلى أن هذه السيرة “تـقـتـصر على تسجيل الجوانب المتعلقة بالتعليم المدرسي في حياة نبوية موسى، مع أن لها جوانب أخرى من حياتها، منها دورها الفعال ضمـن الحركة النسائية في مصر الحديثة، إلى جانب استعانتها بالصحافة وسيلة لنشر فكرها وإيضاح مواقـفـها” ص 18.
من مؤلفاتها: “ثمرة الحياة في تعليم الفتاة”، “اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمول صلى الله عليه وسلم”، “المرأة والعمل”، وغيرها.
اعتمدت في قراءة هذه السيرة على طبعة 2003، ضمن منشورات مكتبة الأسرة بإشراف السيدة سوزان مبارك.
المصدر: وكالات