يعرض المخرج والأستاذ الجامعي الكندي جوناثان ترامبلاي Jonathan Tremblay (مخرج فيلم L’ILE DE SUKAWAN ) ماستر كلاس عن المونتاج وتصحيح الألوان في قاعة سينما الصحراء بمدينة أغادير ضمن فعاليات الدورة الرابعة عشرة من المهرجان الدولي للشريط الوثائقي في الفترة الممتدة من 5 إلى 10 يونيو 2023. يعرض المخرج ماستر كلاس صباحيا. القاعة ممتلئة وهذا شيء جديد تماما. فالمهرجان يستضيف عشرات طلبة الفن السابع، وهم أكثر اهتماما بالأفلام والمناقشة من الزبناء التقليديين للمهرجانات، الذين يحضرون حفليْ الافتتاح والاختتام، ولا يشاركون في نقاش ولا يكتبون عن ندوة أو فيلم.
وفي هذا الإطار ننوه بمبادرة المركز السينمائي المغربي بإضافة مسابقة خاصة بأفلام مدارس ومعاهد السينما بالمغرب في الدورة الثالثة والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، التي ستنعقد من 6 إلى 14أكتوبر 2023. وستكون المبادرة ناجحة جدا إن التقى الطلبة بمنتجي خطاب فعليين حول السينما.
بناء ورشة اللون
يتابع الطلبة المخرج الكندي يعرض وليس يقول لأن ما يشرحه معروض أمام الحضور على شاشة تزيد مساحتها عن عشرة أمتار مربعة.
يبين المتحدث بصريا كيف يتم التحضير للتلوين في التصوير، هنا يتم الحصول على المادة الأولية، بعدها يجدي التلوين (film calibration)، وهو عمل فني يحتاج موهبة وتفكيرا.
يربط المخرج بين ماضي السينما وحاضرها الرقمي، مبرزا أن التلوين مثل إعداد الصورة في زمن لابيليكيل، ويضيف: يبني اللون مظهرا سينمائيا للفيلم ويدخل التلوين ضمن Art graphique.
يستنتج: لكل هذا أثر جمالي ودلالي.
لتوضيح ذلك يطرح المتحدث أسئلة:
ما علاقة كيمياء اللون بحكاية ومزاج شخصيات الفيلم؟ كيف يستخدم الإيتالوناج étalonnage ميزان الألوان؟ كيف تبني الألوان حالة نفسية؟ كيف تحكي الألوان الحكاية؟ كيف يعبر اللون في اللقطة عن دفء المشاعر؟
يعرض المخرج الصور الخام ثم تلك المعدلة ويبين نوع التغيير التقني الذي أدخله عليها. يشرح أنه دون استحضار هذا في التصوير يصعب تنفيذه في مرحلة ما بعد الإنتاج.
يحذر: يستهلك التلوين زمنا طويلا، لذا فهو مكلف.
يشرح المخرج الكندي ويعرض اللقطات ثم يتلقى أسئلة من قبيل: كيف يؤدي تعديل ألوان صورة إلى جعلها تنتمي إلى زمن آخر؟ وهل سيؤثر ذلك على تعبيرية ومصداقية الصوة كوثيقة؟
يبني المخرج مداخلته بالسؤال والجواب والمثال المرئي. هذا عمل ممارسين محترفين وليس عمل معلقين يتغنون بروعة السينما كفن معبر عن الحياة.
هكذا يُصنع الجمال في الورشات بالصوت والصورة واللون أمام الطلبة. ينبع هذا الدرس من نظرية المعرفة الحديثة القائمة على الملاحظة والتجريب وليس على التحليل الماورائي أو النفسي للجمال.
تتجنب الورشات التطبيقية البيداغوجيا الميكانيكية التي تقوم على محاضرة طويلة. عاش غابرييل غارسيا ماركيز هذه التجربة في منتصف القرن العشرين حين ذهب إلى إيطاليا لتعلم السيناريو في المركز التجريبي للسينما بروما. هناك وجد دكاترة يحاضرون بفخامة عن التاريخ الاجتماعي الاقتصادي للسينما وعن نظرية اللغة الفيلمية، وكان الطلاب يبقون جامدين تترنح رؤوسهم من النعاس، والسبب حسب ماركيز أن ذلك لم يكن سيناريو ولا أي شيء، بل “كان محاضرات مطولة مضيّعة للوقت”.
جمهور الطلبة بدل الزبناء التقليديين للمهرجانات
يكون الأمر مختلفا في ورشات مهرجان يستضيف عشرات طلبة الفن السابع، وهم متشوقون لمتابعة أسرار مونتاج الصورة والصوت. كتب ماركيز في كتابه “ورشة سينايو كيف تحكى الحكاية؟”:”دون معرفة قوانين المونتاج ـ وهي بمقام علم النحو السينمائي ـ لا يمكن لكتاب السيناريو أن يكتبوا مشهدا واحدا صحيحا”. يتم تعلم الإخراج والمونتاج والتلوين بالتدرب عبر تحليل الفيلم، أي تفكيكه إلى أجزائه الصغرى لإدراك كيف يتشكل. هذا التدريب الميداني ضروري. يقر أندري تاركوفسكي بتواضع “إن تجربتي توضح بأن تعلم شخص ما في معهد للسينما لا يخلق منه فنانا”.
من يحضر؟ ماذا يحتاج؟
جل الحضور طلبة ومنتجو ومخرجو ومصورو أفلام وثائقية يحضرون ورشات كثيفة ومناقشات أفلام باختيار مسبق للجانب الفني الذي سيُحلل. بهذا يصير المهرجان مَشتلا سينمائيا يترك أثرا مغروسا وليس جولة عابرة.
إن الطلبة أكثر اهتماما من الزبناء التقليديين، وكثير من هؤلاء ينددون بالمهرجانات التي يحضرونها. لقد فقدوا الشغف بالفن.
إن الحل الذي سينقذ المهرجانات السينمائية المغربية الجادة من الرتابة هو أن يكون نصف الضيوف طلبة يحضرون ورشات نقاش وتدريب في تيمة المهرجان.
يحضر من يحتاج معرفة وخبرة بالأفلام لينتقل من المشاهدة والاستهلاك إلى التعلم والإبداع والإنتاج. إن للرغبة دورا كبيرا في التعلم. ليس هناك تعلم دون جهد ذاتي. هكذا يتم تسخير الشغف والرغبة ليصيرا فيلما مثلما يتم تسخير قوة الريح لتصير كهرباء. هكذا يترك المهرجان أثرا ثقافيا وتعليميا بعد حفل الاختتام. وفي حالة مهرجان فيدادوك للوثائقي ستتم معاينة ما نوقش في الورشات وصوره الطلبة على شكل أفلام في الدورة المقبلة في 2024. هكذا يمتد الفعل الفني.
لتعميم هذه التجربة التي شاهدتها في مدينة أغادير يجب ربط المهرجانات الفنية وكليات الفنون لكي يتلقى طلبة شعب فنون العرض تكوينا نظريا وتطبيقيا في الميدان.
في مهرجان للمسرح يحضر طلبة المسرح. في مهرجان للسينما يحضر طلبة السينما. في مهرجان موسيقي يحضر طلبة الموسيقى والصوت في السينما. هكذا يتحول كل مهرجان إلى مشتل يحتضن مواهب في الإبداع والتنظيم لتشبيب القيادات الثقافية على أمل استبدال رؤساء المهرجانات الذين اجتازوا العهدة الخامسة في زمن العولمة.
التعليم، السياحة وفنون العرض
يستقبل المغرب أكثر من 250 ألف سائح أسبوعيا منذ بداية 2023. سياح لا يعرفون العربية، لا يمكن إمتاعهم باللغة، يطلبون أن يشاهدوا فنون العرض المغربية. العين تنتصر. هذه مسألة فنية ذات أبعاد اقتصادية وجيوسياسية لتسويق صورة المغرب عالميا. لقد صارت الصور وسيلة تواصل وأيقونة هوية. وهي لم تدرس بعد، وقد اعترف رولان بارت بأن “الكتب التي تتناول الصورة أقل من كتب باقي الفنون” (رولان بارت، الغرفة المضيئة، ص12).
يرتبط تشجيع السياحة حاليا بانتشار فنون العرض. الجمهور يريد أن يرى. صار إبداع الصورة وفهمها ضرورة، لذلك تقتضي الهندسة الثقافية الربط بين قطاعات المعرفة والتعليم والفرجة والتسويق لمكافحة الفقر وإنتاج الثروة.
تهدف السياحة إلى جلب أفراد من دول أخرى لينفقوا نقودهم عندنا. نتيجة لذلك تؤثر السياحة الكثيفة اجتماعيا ولغويا وقيميا واقتصاديا في كل المجتمعات. عمليا تحمل السياحة نفسا تحديثيا للسوق وللعلاقات الاجتماعية. إن السياحة تمرين للتعايش والتسامح مع غرباء دينا وعرقا ولغة.
بغرض التعامل مع هذا المعطى الثقافي والاقتصادي يحتاج الطلبة إلى معرفة تقنيات صناعة الصور المتحركة لأنها صارت أساس الفن والتواصل التجاري والسياسي والتعليمي. الصورة تكتسح كل المجالات. حسب باتريشيا أوفدرهايدي (“الفيلم الوثائقي”)، منذ 2006 شكل تحميل الفيديوهات نصف المساحة الإجمالية في الإنترنيت.
هذا زمن زاد فيه الطلب على الفيلم الوثائقي وصار يصله تمويل تجاوز أربعة مليارات دولار ونصف في 2004، والرقم تضاعف الآن. فما تبعات هيمنة التواصل السمعي البصري على التواصل الكتابي في المجتمعات الحديثة؟
كان التواصل السمعي البصري في المجتمعات القديمة محصورا في التفاعل المباشر بين أفراد في مكان ضيق، ثم صار هذا التواصل يجري عن بعد بفضل الثورة التكنولوجية. لقد صارت الشاشات أكثر انتشارا من الموز والخبز، وهذا ما يستدعي التعامل نقديا مع ما تعرضه من صور خبرية وعاطفية ودعائية… ولضبط وتحليل مفاهيم هذه الأبعاد وفتح نقاش حولها، لا بد للمتدخل من منجز بحثي مكتوب أو مصور أو هما معا للتواصل مع الجمهور عامة ومع الطلبة خاصة في مواضيع محددة ولخلق دينامية ثقافية ممتدة. هكذا سيكون المهرجان مشتلا سينمائيا وليس وجبة سياحية.
لا بد من تكييف التعليم العالي مع المعطيات الجديدة بخلق صلة وصل بين النظام التربوي ومؤسسات الفرجة، حينها ستكون المهرجانات الفنية محركا للنشاط التعليمي لدى الطلاب.
يحتاج تسيير هذا الربط بين الكليات ومهرجانات الفنون خيالا ميدانيا، طاقة كبيرة للمتابعة وبصيرة نافذة لتشخيص المواهب وحسن توظيفها، إضافة إلى فن إدارة العلاقات العامة قصد حل المشاكل التي تعترض فعل التنشيط في سيرورته.
لكن قبل هذه الهندسة الثقافية هناك سؤال يحتاج توضيحا من وزيري الثقافة والتعليم العالي: هل السينما فرجة، أم هي ثقافة وفرجة واستثمار اقتصادي؟
سيمكن الجواب الإيجابي من وضع برنامج وهندسة ثقافية مغربية جديدة تربط المهرجانات بالجامعات بالأنشطة الاقتصادية التي تمول الفن وتساهم في تقدمه وإشعاعه.
المصدر: وكالات