حاوره: ياسر المختوم (استوكهولم)
سيظل علي نجيب، المولود في خيمة للرحل في أربعينيات القرن الماضي في الجنوب الشرقي للمغرب، ممتنا لمن زور تاريخ ميلاده، ليفسح له المجال للانضمام إلى الحالمين بالفردوس الأوربي وهو “قاصر”، للاشتغال في مناجم الفحم بفرنسا، ومن هناك هاجر إلى هولاندا ثم السويد، ليبدأ رحلة شاقة، انطلقت بالدروس الليلية لمحو الأمية بستوكهولم، وانتهت بنيل شهادة الدكتوراه من أعرق جامعة اسكندنافية.
درس علي نجيب في جامعة أوبسالا السويدية في سبعينيات القرن الماضي، جنبا إلى جنب مع ولي العهد السويدي آنذاك، ملك السويد حاليا، قبل أن يصبح أستاذا جامعيا، وينجز دراسات ومشاريع لفائدة الدولة السويدية ومجلس أوربا، وكان مكلفا بمهمة في جنوب إفريقيا، زمن حكم “الأبارتيد”.
“اليوم 24″، التقى البروفسور علي نجيب، قبل أيام في استوكهولم، في ليلة من ليالي عاصمة مملكة السويد الباردة، وكله حماس ليروي قصته المثيرة والملهمة ولأول مرة بالصوت والصورة.
خيمة الرحل
اسمه علي بن صالح نجيب، ولد في خيمة للرحل على الحدود بين مستعمرتي فرنسا وإسبانيا في الجنوب الشرقي للمملكة. يقدر علي، أنه من مواليد 1945 أو 1946، بينما تاريخ ولادته الحقيقي في علم الغيب كما يقول، “الوالد نساني ولم يسجلني إلا بعد سنوات في الحالة المدنية”.
عاش علي نجيب طفولته مع جده وجدته بعد فراق والديه، متنقلا داخل خيام الرحل بين جبال الأطلس الصغير، مؤكدا أنه كان “يرعى الغنم، ولم يدرس نهائيا في طفولته، بينما سمحت الظروف لأقرانه من بني أخواله، بمتابعة الدراسة الابتدائية في مدارس فتحتها فرنسا بالمنطقة”.
توفي جد علي، وعمره 13 سنة، ليوزع القطيع بين الورثة، فأصبح الطفل المحروم من حنان والديه بدون عمل، وفق تعبيره، درس سنتين في “الجامع”، وبعد وفاة الجدة، اشتغل ثلاث سنوات في دكان خاله يبيع المواد الغذائية قبل أن يأتي من أفرغ قرى مغربية في الجنوب الشرقي للمملكة من شبابها ورجالها للعمل في مناجم فرنسا.
الضابط “موغا”
ضاحكا متألما في نفس الوقت، يتذكر علي نجيب، يوم استبشر سكان قريته بقدوم موغا فيليكس (Félix Mora)، الضابط العسكري في مكتب الشؤون الأهلية بكلميم زمن الاستعمار، والذي أشرف على استقدام العمال من جنوب المغرب نحو شمال فرنسا للعمل في المناجم.
كان علي من بين 200 شاب وقفوا في ساحة عمومية في طابور للراغبين في العمل في المناجم الفرنسية، حيث كان اختيار المقبولين يتم بناءً على البنية الجسمانية، على أن لا يقل وزن المرشح للعمل في مناجم فرنسا عن 50 كيلوغراما، وأن يكون عمره بين 20 و30 سنة.
كل تلك الشروط لم تكن لتتوفر في علي، لولا أنه اشترى سروالا بجيوب كبيرة ملأها بالحصى لزيادة وزنه، كما زوروا له تاريخ ميلاده، وجعلوه من مواليد 1937 بدل 1945.
مرت الأيام والشهور، ووصل علي على متن باخرة إلى سواحل مدينة مارسيليا الفرنسية، وحكى لـ”اليوم 24″، أن الفرنسيين خططوا لإعادته إلى المغرب لصغر سنه وضعف بنيته الجسمية، قبل أن يتراجعوا عن ذلك، فمكث في فرنسا سنتين، ليهاجر إلى هولاندا، فالتقى بمغربي نصحه بالهجرة إلى “جنة الفردوس”، أي السويد وفق تعبيره، ليقدم على ذلك في اليوم الموالي.
محو الأمية
في عام 1966 بدأت مغامرات علي نجيب في مملكة السويد، انطلقت باشتغاله في مطاعم المدينة يغسل الأواني، قبل أن يقترح عليه شابان سويديان محاربة الأمية وهو في بداية عقده الثالث، فكان يتابع دروس المساء في إحدى المؤسسات التعليمية.
بشغف وأمل في تدارك ما فاته في طفولته، جد علي واجتهد، بالليل والنهار، حتى نال الشهادة الابتدائية، وكانت رحلة الانطلاقة نحو ما هو أهم بالنسبة له، فحصل على منحة للدراسة أعفته من الاشتغال في مطاعم السويديين.
تفرغ “علي” لطلب العلم رغم كبر سنه مقارنة بزملائه في القسم، إلى أن نال الشهادة الثانوية ليحقق حلما لم يراوده في حياته، حين فتحت له أعرق جامعة إسكندنافية أبوابها لدراسة الاقتصاد وعلم الإحصاء.
محادثات “الديسكو”
تحت سقف مدرج واحد، درس علي مع ولي العهد السويدي، ملك السويد حاليا في جامعة “أوبسالا”، التي تأسست عام 1477 ميلادية، وتعد من بين أفضل 100 جامعة في العالم.
هل كنت تلتقي ولي العهد السويدي؟ وماذا جرى بينكما؟ يجب علي: نعم كنت ألتقيه دائما وخاصة في “الديسكوتيك”، كنا نتحدث في مواضيع مختلفة، كان يحضر للمدرج بدون حراسة، لا فرق بيننا وبينه إلا أننا نمتحن وهو لا يجتاز الامتحانات.
اجتاز علي نجيب مرحلة الدراسة الجامعية الأولى بنجاح، ونال شهادة الإجازة بميزة حسن جدا، وكان من بين 30 في المائة فقط من مجموع 700 طالب نجحوا في دراستهم، ونالوا الإجازة.
وأخيرا الدكتوراة
“لو تعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها”… وهمة علي نجيب كانت عالية فعلا، إذ مباشرة بعد نيله الإجازة تسجل سنة 1976 في الدكتوراه، وهنا عاد ليشتغل أملا في أن يوفر مالا، يشتري به منزلا لوالدته في المغرب، لينقذها من حياة الرحل.
في عام 1980 سافر علي نجيب إلى المغرب، وهذه المرة حاملا معه أوراقه البحثية واستمارات بحث ميداني عن واقع المهاجرين المتحدرين من واد نون، وفعاليتهم على الاقتصاد المحلي، ليكون ذلك موضوع أطروحته الجامعية، التي نالها في عام 1986، بعد اعتكاف استمر 6 أشهر.
يقول علي نجيب باعتزاز، “كنت أول من درس في عائلتي، وأكمل دراسته”، قبل أن يتذكر لحظات مؤلمة أعقبت نيله شهادة الدكتوراه: “يوم تخرجي أرسلت رسالة تلغرام لنفسي، لكي لا يقال، إن هذا الطالب الباحث لا أسرة له، وقرأوها أمام الجميع، على أساس أن أسرتي أرسلتها لي”.
علي في جنوب إفريقيا
بعد حصول علي على “الدكتوراه”، طلب منه أستاذ جامعي أن يشتغل معه مثل “العبد”، وفق تعبيره، مضيفا، واجهته قائلا، “جئت كي لا أكون لا خادما لك ولا لغيرك، أغلقت عليه الباب بقوة وخرجت”.
واصل علي عمله بكل تفاني، فأعد دراسات لفائدة مجلس أوربا، كما كلفته الدولة السويدية بدراسات حول مجال تخصصه، المتعلق أساسا بالجغرافيا البشرية، ثم كلفته وكالة سويدية حكومية بمهمة في جنوب إفريقيا، بالتزامن مع حقبة حكم “الأبارتيد”، وأنجز دراسات تتعلق بالجغرافية البشرية لإحدى المناطق الرافضة لنظام الفصل العنصري.
بعد العودة مجددا إلى السويد، استفادت الحكومة السويدية من خبرة البروفسور المغربي، وساهم في إعداد تقرير حكومي الأول من نوعه في ذلك الوقت، وأصبح أستاذا جامعيا في أعرق جامعة اسكندنافية، هي ذاتها التي احتضنته إلى أن نال منها شهادة الدكتوراه، قبل أن يتقاعد سنة 2016، مفضلا مواصلة البحث العلمي.
علي والداودي!
هل فكر علي نجيب في العودة إلى المغرب ليستفيد بلده من خبراته؟
نعم حاول أكثر من مرة، يقول علي، ” للأسف ما بغاونيش نرجع، من العائلة وحتى الوزراء، لا أحد رحب بالفكرة”، مضيفا، “التقيت مرتين بوزير التعليم العالي السابق لحسن الداودي، للأسف ما عطانيش وقت”.
ويضيف المتحدث، “تواصلت مع أساتذة جامعيين ومع جامعات مغربية، أغلبهم يقولون لي: إذا كان لك التمويل مرحبا بك، أما بدونه فلا مكان لك في الجامعة”.
ويختم علي متفائلا، ومعبرا عن رغبته في نسيان الماضي: “لن يندم الإنسان على الماضي، يجب أن ينظر إلى المستقبل”.
المصدر: وكالات