مرة أخرى يجدد الشارع المغربي عهده مع القضية الفلسطينية ويعبر عن دعمه اللامشروط لقطاع غزة المحاصر من قبل الجيش الإسرائيلي، الذي تجاوز عدوانه كل الخطوط الحمراء بقصف المستشفيات وتدمير البنايات فوق رؤوس ساكنيها، مخلفا مجازر دموية أدت إلى سقوط آلاف الضحايا والمصابين، غالبيتهم من الأطفال والنساء.
المسيرة الحاشدة التي جابت شوارع العاصمة الرباط الأحد، وصدحت فيها حناجر المغاربة مطالبة بإيقاف المجازر في حق الفلسطينيين، ومحاسبة الجيش الإسرائيلي على جرائمه البشعة في حق الفلسطينيين.
كما جددت الجماهير، التي حجت لنصرة الشعب الفلسطيني في محنته ضد آلة القتل والإبادة الإسرائيلية بدعم أمريكي واضح، الدعوة إلى إسقاط التطبيع وإغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط، وطرد مديره ديفيد غوفرين، الذي اتهمته بـ”إهانة الشعب المغربي ومؤسساته”.
ويرى البعض أن التعبير الشعبي عن التضامن مع الفلسطينيين يمثل تأكيدا للموقف الرسمي، الذي ظل وفيا لدعم القضية رغم انخراطه في مسار التطبيع مع إسرائيل، بل إن الموقف الشعبي يمثل دعما للدولة وموقفها المتحفظ من الذهاب بعيدا في مسار التطبيع ومسايرة الرغبة الإسرائيلية في إقامة علاقات دبلوماسية كاملة وفتح سفارتين في كلا البلدين.
تضامن معهود
خالد الشيات، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول بوجدة، اعتبر أن خروج المغاربة للتظاهر لصالح القضية الفلسطينية هو “خروج طبيعي ومتكرر في المناسبات التي تمس فيها الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وليست المرة الأولى التي تعبر فيها جموع حاشدة في المغرب عن هذه المشاعر الفياضة تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة”.
وأضاف الشيات، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن الموقف الشعبي “يتوافق مع التوجهات الرسمية الحكومية المغربية، التي حتى مع توقيع الاتفاق الثلاثي مع الولايات المتحدة وإسرائيل كانت تشترط أن يستمر مسلسل السلام في الشرق الأوسط، وعلى رأسه القضية الفلسطينية”.
وأبرز أن المغرب اشترط أن “لا تتنازل المملكة عن القضايا العادلة للشعب الفلسطيني، وعلى رأسها قضية القدس باعتبار أن الملك هو رئيس لجنة القدس، وأيضا قضية المستوطنات واللاجئين”.
وسجل أن هناك “توافقا ثابتا للمغاربة، ويحتجون على كل أشكال المس بالمدنيين والقضايا العادلة، ولا يدافعون عن الإرهاب والأعمال الإرهابية، بل يدافعون عن الحق الثابت للشعب الفلسطيني في إقامة دولته إلى جانب إسرائيل كما هو موجود على المستوى الرسمي”.
غوفرين أجج مشاعر التضامن
وأشار الخبير في العلاقات الدولية إلى أن الخروج الذي قام به غوفرين في هذه المرحلة، والذي عبر فيه عن دعمه وعن تصورات الحكومة الإسرائيلية “لم يكن له أي داع لأن هذه تصورات لا يعكسها أي مبعوث دبلوماسي، بل تنعكس من خلال الرئيس الفعلي للدولة أو رئيس الحكومة كما حدث مع بنيامين نتنياهو”.
وأوضح أن الخروج الإعلامي لغوفرين في هذه المرحلة “أجَّج المشاعر الداخلية للمغرب أكثر، والمغاربة لا يريدون إلا السلام، وأن يقام حل الدولتين في إطار عادل، وفي إطار من التوافق ليتحقق السلام للجميع”، مشيرا إلى أن المغرب سيعمل “دائما على أن تستمر العلاقات الجيدة، وأن يحل السلام في منطقة الشرق الأوسط”.
واستبعد الشيات قطع العلاقات مع إسرائيل أو تقليص المسارات بما يخدم هذه المسألة، مبرزا أن الأمر “مرتبط بالاستمرار في النسق نفسه والنهج المغربي نفسه، واستثمار التقارب المغربي الإسرائيلي لخدمة القضايا الفلسطينية أولا، وخدمة قضايا أخرى، ومن المهم جدا أن تستمر هذه العلاقات، ربما في إطار ونسق جديدين، وفي احترام تام للحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني”.
توافق شعبي ورسمي
من جهته، اعتبر المحلل السياسي محمد شقير أن مسيرة الرباط الحاشدة “تختلف عن سابقاتها لكونها تم تنظيمها في سياق استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل، وهذا يطرح إشكالا: إلى أي حد يمكن للموقف الرسمي أن يتراجع عن مواقفه”.
وقال شقير، في تصريح لهسبريس، إن “موقف الدبلوماسية المغربية يتحلى بالموازنة بين استئناف العلاقات والتشبث بالقضية الفلسطينية، سواء في الخطب الملكية أو المبادرات التي اتخذها المغرب والتصريحات التي أشارت إلى أن انسداد الأفق السياسي لا يمكن إلا أن يؤدي إلى التوتر الذي تطور وأدى إلى حرب بين حماس وإسرائيل”.
وسجل أن مسيرة الرباط شاركت فيها “كل الأطياف السياسية، وبينت أن الموقف الرسمي كان رزينا إلى حد كبير، وحافظ على توازنه بين استئناف العلاقات الثنائية والتشبث بدعم القضية الفلسطينية”.
لا تأثير على العلاقات
وبخصوص تزايد الضغوط على مدير مكتب الاتصال الإسرائيلي وارتفاع الأصوات المطالبة بطرده من الرباط، قال شقير إن “موقفه لن يتأثر بشكل كبير، رغم كل الشعارات التي رفعت نظرا لأن من يتخذ القرار ليس هو الشارع ولا المسيرة، وإنما هو صانع القرار الرسمي المتمثل في عاهل البلاد”.
وزاد مبينا أن الدبلوماسية كانت “متريثة في عدم الرفع من التمثيلية الدبلوماسية الإسرائيلية بالمغرب، وبالموازاة مع مطالبة إسرائيل بالرفع من التمثيلية رغم اعترافها بمغربية الصحراء، حاولت الدبلوماسية المغربية إبقاء مستوى تمثيليتها في فتح مكتب اتصال إسرائيلي بالرباط”، مشيرا إلى أن هذا الأمر يبين إلى حد ما “استشعار السلطات المغربية لما جرى وعدم التسرع في الرفع من العلاقات إلى مستوى كامل بين البلدين”.
وأوضح أن مسألة تأجيل انعقاد الاجتماع الثاني لقمة النقب بالمغرب “يعكس هذا الموقف الرسمي مما يجري في الأراضي المحتلة، على أساس أن إسرائيل حتى الآن لم تستجب للشرعية الدولية، خصوصا مع هذه الحكومة اليمينية، التي أظهرت شراسة في التعامل مع كل مكونات الشعب الفلسطيني، وانتهاكاتها المتكررة للمسجد الأقصى”.
تعزيز الموقع التفاوضي
وتابع موضحا “خصوصا أننا نعلم أن الملك محمد السادس يترأس لجنة القدس، وبالتالي هذه العوامل كلها أدت إلى هذا النوع من التناسب بين الموقف الرسمي وما عبرت عنه المسيرة، رغم بعض الشعارات التي كان منسوبها مرتفعا في التعامل مع إسرائيل، وأدت إلى إحراق العلم الإسرائيلي، والمطالبة بإغلاق مكتب الاتصال بالرباط”، لافتا إلى أن هذا الأمر كان فيه “نوع من المزايدات والشعارات التي لا تتماشى مع الرأي الرسمي”.
وخلص شقير إلى أن المسيرة الشعبية في الرباط “يمكن أن تدعم الدبلوماسية المغربية في تعاملها مع إسرائيل، وتستحضر الرأي العام الداخلي، الذي لا يثق بمصداقية التطبيع الإسرائيلي، نظرا لكونه ما زال ينتهك حق الشعب الفلسطيني بالحصار”، مؤكدا أن الاقتحام الإسرائيلي لقطاع غزة وتداعياته “سيزيدان من التناسب بين الموقف الرسمي والموقف الشعبي”.
المصدر: وكالات