قال المنتصر السويني، باحث في المالية العمومية، أن اجتماع المجلس الوزاري الأخير لم يتم تحت سقف الثلاثية “السلطة-اليقين-خطة العمل”، بل من خلال ثلاثية “السلطة-المجهول-الصعوبة المرتبطة بتسطير خطة العمل”.
وأضاف الباحث ذاته، ضمن مقال توصلت به هسبريس بعنوان “العقل التقريري المغربي والاستراتيجية المعتمدة على ثنائية الدولة الاجتماعية-الدولة الاستراتيجية”، أن التعليق على اجتماع المجلس الوزاري لا يمكن أن يغفل مسألة أساسية مرتبطة بالأوضاع المتربة عن مواجهة أزمة كوفيد وحرب أوكرانيا والزلزال وحرب غزة، مبرزا أن هذه الأوضاع تؤكد أن السياسة اليوم صارت مرتبطة بشكل شبه كلي بمواجهة الأحداث غير المتوقعة.
وشدد السويني على أن العقل المركزي المغربي كان متيقنا من أن الاستراتيجية السحرية التي من الممكن أن تساعده على تجاوز مرحلة اللايقين ومرحلة الاضطرابات الكبرى والزلازل الجيوبوليتك، تفرض اللعب بذكاء وحنكة وتجربة وإبداع من داخل المربع المعتمد على ثنائية “الدولة الاجتماعية-الدولة الاستراتيجية” وعدم ترك الأمور تنزلق إلى المستوى الذي تأكل فيه الدولة الاجتماعية الدولة الاستراتيجية.
هذا نص المقال:
يجب الاعتراف في البداية بأن اجتماع المجلس الوزاري الأخير لم يتم تحت سقف الثلاثية “السلطة-اليقين-خطة العمل”، بل من خلال الثلاثية “السلطة-المجهول-الصعوبة المرتبطة بتسطير خطة العمل”.
تزامنُ اجتماع المجلس الوزاري مع ارتفاع نسبة المجهول واللايقين وضرورة العمل من داخل عالم اللايقين، كان يؤكد الصعوبة المطروحة أمام السلطة التقريرية والسلطة التنفيذية في المغرب من أجل العمل من داخل العقد السياسي المعتمد على: “الانتخابات-الأغلبية-البرنامج الحكومي الممتد على خمس سنوات”-تقييم المعارضة البرلمانية لتنفيذ الالتزامات المصادقة عليها من طرف الأغلبية-مما يثبت أن الحكم اليوم لم يعد هو التوقع، بل الحكم اليوم صار مرتبطا بالقدرة على مواجهة غير المتوقع.
هذه الصعوبة ستكبر كذلك نظرا لتزامن اجتماع المجلس الوزاري مع الزمن المالي المرتبط بالمصادقة على التوجهات العامة لقانون المالية، خصوصا وأن التوجهات العامة كانت مرتبطة بقانون توقعي سنوي، فكيف نصنع توقعا مرقما سنويا ونحن لا نعرف ما سيقع في اللحظة الموالية؟ خصوصا وأن برميل البارود في الشرق الأوسط يزحف بقوة نحو برميل النفط، بعد أن زحف برميل البارود سابقا نحو برميل السلة الغذائية والطاقة في الحرب الروسية الأوكرانية، مما يؤكد صعوبة اشتغال المؤسسات الوطنية في زمن اللايقين والمستقبل المجهول وعالم المخاطر. وفي هذا السياق ستؤكد الباحثة ماري هيلين مياتون أن العمل السياسي اليوم يتم من داخل ثنائية “عالم اللايقين-الأزمات الأكيدة”.
عالم اللايقين كان يؤكد أن الباحث السياسي المهتم بنتائج وخلاصات اجتماع المجلس الوزاري المتزامن مع الزمن المالي لن يهتم بالأرقام المرتبطة بالتوقعات كما جرت العادة سابقا، لأن أول شيء يضربه عالم اللايقين هو عالم الأرقام المرتبط بعالم اليقين وعالم التوقع الصحيح، وهو عالم قد ولى إلى غير رجعة. المتتبع السياسي لعمل المؤسسات السياسية المرتبط بالزمن المالي كان يركز على شيء آخر بعيد عن عالم الأرقام وعالم اليقين، كان يركز على الرسائل المرتبطة بالوسائل والآليات التي تهيئها السلطة التقريرية والسلطة التنفيذية في المغرب لمواجهة تدبير الزمن المرتبط بعالم المجهول وعالم المخاطر وعالم اللايقين وعالم الأزمات الأكيدة والمتسلسلة.
السلطة التقريرية الأولى بالمغرب أعطت إشارات نوعية مرتبطة بكون تدبير العالم غير المتوقع يفرض الاشتغال من داخل ثنائية “جلسات العمل-المجالس الوزارية” مع التركيز أكثر على التدبير من خلال جلسات العمل باعتبارها آلية لتدبير اليومي وتدبير الأحداث غير المتوقعة، بينما كان المتتبع السياسي المغربي يلاحظ الارتباك الحكومي في ابتكار الأسلحة والأدوات التي تمكنه من تدبير عالم اللايقين من خارج المجالس الحكومية ومن خلال آليات أكثر مرونة وتتمتع بسرعة الحركة والقدرة على توقع وتسطير رد الفعل على الأحداث، والقدرة كذلك على تصحيح الأخطاء والقدرة على التعلم والإنصات، على أن يتم كل ذلك بسرعة القطار السريع.
تدبير عالم اللايقين ونظرية الدستور باعتباره عقدا غير مكتمل
الباحث في علم السياسة ليس مطلوبا منه نقل الوقائع، بل المطلوب منه مسألة أصعب من ذلك بكثير؛ فهو مطالب بالمساهمة في تفسير الوقائع وتأطيرها نظريا. وفي هذا السياق، فإن التعليق على اجتماع المجلس الوزاري لا يمكن أن يغفل مسألة أساسية مرتبطة بالأوضاع المتربة عن مواجهة أزمة كوفيد وحرب أوكرانيا والزلزال وحرب غزة، هذه الأوضاع مجتمعة تؤكد للمتتبع أن السياسة لم يعد نصفها متعلقا بمواجهة الأحداث المتوقعة والنصف الآخر بمواجهة الأحداث المتوقعة، بل إن السياسة اليوم صارت مرتبطة بشكل شبه كلي بمواجهة الأحداث غير المتوقعة.
اعتماد السياسة في عالم اللايقين على تدبير الأحداث غير المتوقعة يطرح على الباحث في علم السياسية سؤالا أساسيا وجوهريا مرتبطا بجدوى العقد السياسي بين المشروعية الشعبية والمشروعية البرلمانية والحكومة وجدوى البرنامج الحكومي باعتباره عقدا توقعيا وعقدا مرقما في بعض الأحيان، خصوصا وأن غالبية الدساتير في العالم قد تمت صياغتها من طرف فقهاء القرن الثامن عشر الذي يعتبر قرن اليقينيات. وباعتباره قرن اليقينيات، فإن الدساتير كانت كلها عقودا صيغت في قرن اليقينيات ومنحت لنا المؤسسات السياسية المرتبطة بعالم اليقين ومنحت لنا كذلك الدساتير التي تؤطر العقود المكتملة، ومع سقوط عالم اليقين سقط معه كذلك عالم التدبير المعتمد على المعلوم والمتوقع.
وفي هذا السياق، سيؤكد الباحثان اكيون وبولتون أن الدستور باعتباره عقدا مكتملا بين المواطنين يفترض أن كل الوقائع يمكن توقعها وأن كل الأحداث المرتبطة بالوقائع المستقبلية هي متوقعة كذلك، مما يمكن دولة معينة ومجتمعا معينا من التقرير المسبق، ويمكنه بالتالي من توقع خطة محددة ومرقمة للفعل، ويساعده كذلك على توزيع المسؤوليات بين المؤسسات الوطنية. بينما عالم القرن الواحد والعشرين اتضح أنه عالم مرتبط بتدبير اللايقين وتدبير الأحداث التي لا يمكن تصورها بشكل مسبق، وبالتالي عدم قدرة العقد الذي يربط المواطنين من توقع وكتابة كل ما يمكن أن يحدث وكل الاحتمالات الممكنة، كما أن العقد يبقى عاجزا كذلك عن تخيل كل ما يمكن أن يقع، وبالتالي تثبت الأحداث التي يعرفها العالم اليوم قدرتنا العقلانية جد المحدودة.
العقد السياسي والاجتماعي يفقد قوته المرتبطة بالقدرة على التوقع والقدرة على قراءة الواقع والزمن الحاضر والزمن المستقبلي، وبالتالي يتوسع المجال المرتبط بالسياسة باعتبارها قدرة على تدبير الأحداث غير المتوقعة ويتراجع مربع السياسة باعتبارها قدرة على تدبير الأحداث المتوقعة، وبالتالي تضعنا الأحداث غير المتوقعة أمام حقيقة التدبير المرتبط بثنائية “الدستور باعتباره عقدا مكتملا-والدستور باعتباره عقدا غير مكتمل”، بل وإن ارتفاع منسوب اللايقين يدفع الدول إلى التدبير فعليا من داخل مربع الدستور باعتباره عقدا غير مكتمل.
المؤسسة الملكية في مواجهة اللايقين اعتمدت أساسا على ما يطلق عليه التدبير من خلال تعزيز آليات الاشتغال المرتبطة بالزمن القصير، التي تتميز بالسرعة وبقدرتها على التفوق في الإجابة على فجائية الأزمات من خلال سرعة رد الفعل ومن خلال الاعتماد على ثنائية “الأزمة الفجائية-رد الفعل السريع من خلال عقد جلسة عمل لتسطير خطة رد الفعل”، خصوصا وأن عالم اللايقين يفرض على المؤسسات الانتقال إلى الاشتغال من داخل مربع الزمن القصير وزمن القطار السريع.
إذا كانت المؤسسة التقريرية المغربية قد طورت آليات جلسات العمل لمواجهة عالم اللايقين، فإن السلطة التنفيذية ما زالت تجد صعوبة كبيرة في ابتكار آليات تقريرية تنظيمية خفيفة وسريعة تمكنها من مواجهة عالم اللايقين، وهو ما قد يعيق مواجهة المغرب للأزمات بشكل فعال. وإذا كان من المعروف أن الحكومة تعتمد على آليتين أساسيتين للفعل، الآلية الأولى مرتبطة بالنص الدستوري وهي آلية ثقيلة “الحكومة-الأغلبية البرلمانية”، أما الآلية الثانية فهي وإن كانت كذلك آلية دستورية إلا أنها آلية يمكن أن يتم الإبداع من داخلها لتفعيل الابتكار من خلال رد الفعل السريع والمرن، وهي الآلية المعتمدة على ثنائية “الحكومة-الإدارة” وبالتالي مطلوب من الحكومة أن تبتكر آليتها الفعالة والسريعة لمواجهة هجوم عالم اللايقين.
زمن اللايقين فرض على العقل المالي ضغطا كبيرا مرتبطا بمصداقية تقديم توجهات عامة قادرة على الصمود أمام تسارع الأحداث على المستوى العالمي، خصوصا وأن مجموعة من الباحثين يعتبرون قانون المالية العقد المرقم الوحيد الذي يربط بين الحاكمين والمحكومين، كما أنه قانون يعتمد على الأرقام والفرضيات المرتبطة بتحديد التوقعات، وبالتالي يبرز السؤال الصعب المرتبط بكيف نتوقع ونضع الأرقام داخل عالم اللايقين وعالم الأحداث غير المتوقعة، وحتى إن توقعنا ووضعنا أرقاما فكيف نضمن أن الواقع وتطور الأحداث الدولية سيسير في نفس توقعنا إلا إذا اعتمدنا على علم التنجيم في تهيئة مشروع قانون المالية للسنة المقبلة (فكيف نضع ثمنا مرجعيا لبرميل البترول وبرميل البارود يزحف نحو برميل البترول في منطقة الشرق الأوسط بعد أن زحف سابقا باتجاه السلة الغذائية والطاقة مع الحرب الروسية الأوكرانية؟).
اجتماع المجلس الوزاري الأخير وثنائية الدولة الاستراتيجية والدولة الاجتماعية
المشرع الدستوري المغربي من خلال دسترة المجلس الحكومي إلى جانب المجلس الوزاري، كان يعني أن المجلس الوزاري من المفروض أن يختص بالتدبير الاستراتيجي، ويهتم المجلس الحكومي بكل ما يتعلق بتنفيذ ما هو استراتيجي وتنفيذ القانون وتنفيذ البرنامج الحكومي.
ولكن تزامن اجتماع المجلس الحكومي مع الزمن المالي وضرورة المصادقة على التوجهات العامة لمشروع قانون المالية، كان يعني أن اجتماع المجلس الوزاري الأخير هو اجتماع مهم وأساسي على اعتبار أن المنتظر منه ليس فقط تقديم التوضيح المرتبط بالمجهودات المرتبطة بتعزيز بناء الدولة الاستراتيجية، بل وكذلك توضيح الإجراءات الملموسة المتعلقة ببناء الدولة الاجتماعية.
مواجهة آثار تدبير أزمة كوفيد وآثار الأزمة المرتبطة بالحرب الروسية الأوكرانية والآثار المرتبطة بالزلزال والآثار غير المعروفة إلى حد الآن لحرب غزة، جعلت المتتبع يطرح تساؤلات جوهرية مرتبطة بالطريق الذي سيسلكه العقل التقريري بالمغرب في مواجهة المجهول المرتبط بعالم اللايقين، هل سيركز العقل التقريري المركزي اهتمامه في الفترة المقبلة على الهدف الأساسي المرتبط ببناء الدولة الاجتماعية، خصوصا وأن تدبير أزمة كوفيد وأزمة مواجهة آثار الزلزال والأزمة المرتبطة بحرب غزة والتضخم يفرض على الدولة أعباء مالية ثقيلة مرتبطة بحماية القدرة الشرائية وحماية المواطنين (خاصة وأن هذه الأزمات تواجه بالأساس المواطنين ذوي الدخل المنخفض والأكثر هشاشة، وأن هذه الأزمات تواجه كذلك الدول الفقيرة أكثر من الدول الغنية)؟
وهنا وجب التأكيد على ما قاله الباحث بيير أنطوان دلهوميس من أن التضخم هو فعليا “ضريبة على الفقراء” ويمس بالأساس الطاقة والغذاء، وهما المكونان الأساسيان الثقيلان في ميزانية الأسر ذات الدخل المتوسط والفقيرة (ومن المنتظر أن يرتفع التضخم إذا توسعت حرب غزة واستمرت لفترة طويلة). لهذا، فإن التركيز فقط على استراتيجية ترميم وتعزيز الإجراءات المرتبطة بالدولة الاجتماعية، هو في حد ذاته تحد غير هين. تركيز الاهتمام على استراتيجية الدولة الاجتماعية كان يعني أن اجتماع المجلس الوزاري الأخير سيركز على الزمن المالي وعلى التوجهات العامة لمشروع قانون المالية وما يمكن أن تتضمنه من إجراءات مرتبطة ببناء الدولة الاجتماعية، أم أن العقل التقريري للدولة سيجنح من خلال اجتماع المجلس الوزاري الأخير إلى تبني الاستراتيجية المعتمدة على “تعزيز وترميم بناء الدولة الاجتماعية-تعزيز شروط بناء الدولة الاستراتيجية”.
لم يتأخر جواب العقل التقريري المركزي من خلال البلاغ الذي تلاه الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، والذي أكد أن العقل التقريري المركزي المغربي متشبث بالاستراتيجية المعتمدة على ثنائية “الدولة الاجتماعية-الدولة الاستراتيجية”، وكان مقتنعا بأن مجهودات الزمن القصير المرتبطة ببناء الدولة الاجتماعية ستسند على المدى الطويل المجهودات المرتبطة ببناء الدولة الاستراتيجية، كما أن المجهودات المرتبطة ببناء الدولة الاستراتيجية على المدى الطويل ستسند مستقبلا ترميم وتعزيز الدولة الاستراتيجية.
تأكيد العقل التقريري المركزي للدولة من خلال اجتماع المجلس الوزاري الأخير على التشبث بالاستراتيجية المعتمدة على ثنائية “الدولة الاجتماعية-الدولة الاستراتيجية”، كان يؤكد على أن هذا العقل يرفض استراتيجية الاهتمام بالدولة الاجتماعية فقط لأن هذه الاستراتيجية تجعل الدولة الاجتماعية تأكل الدولة الاستراتيجية، وتجعل بالتالي إجراءات الحاضر تأكل الإجراءات المرتبطة بالمستقبل، كما ترفض تركيز الاهتمام على بناء الدولة الاستراتيجية فقط، مما يجعل الدولة الاستراتيجية تأكل الدولة الاجتماعية، ويجعل بالتالي المستقبل يأكل الحاضر (وهنا نستحضر ما سبق وأكد عليه الباحث فرانسوا لانغليت من أن تركيز الرئيس الفرنسي على بناء الدولة الاجتماعية على حساب الدولة الاستراتيجية، جعل الدولة الاجتماعية تأكل الدولة الاستراتيجية).
بلاغ الناطق الرسمي باسم القصر الملكي المتعلق بما تمخض عنه اجتماع المجلس الوزاري كان يتضمن الإجراءات المرتبطة ببناء الدولة الاجتماعية، وخصوصا ما يتعلق بـ”إعادة تأهيل المناطق المتضررة من الزلزال-تخصيص غلاف إضافي لتنفيذ الالتزامات الخاصة بالحوار الاجتماعي-تسريع تفعيل البرنامج الوطني للتزويد بالماء الصالح للشرب-دعم المواد الفلاحية الأولية-تنزيل الورش الملكي المتعلق بالحماية الاجتماعية-مشروع قانون المتعلق بمكفولي الأمة للأطفال ضحايا زلزال الحوز”، كما أن اجتماع المجلس الوزاري ركز كذلك على المجهودات المرتبطة ببناء الدولة الاستراتيجية من خلال التأكيد على “التوجهات العامة لمشروع قانون المالية-مشاريع النصوص المتعلقة بالمجال العسكري-تعيين السفراء والعمال-الاتفاقات الدولية-مواصلة الإصلاحات الهيكلية المرتبطة بمنظومة العدالة ومراجعة مدونة الأسرة-الاهتمام بالاستثمار المنتج وترسيخ مكانة المغرب في القطاعات الإنتاجية الواعدة-الإصلاحات المرتبطة بمسلسل اللاتمركز الإداري والجهوية المتقدمة-إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية ومواصلة تطوير التمويلات المبتكرة وتثمين المحفظة العمومية وتنزيل القانون الاطار المتعلق بالإصلاح الضريبي”. وبالتالي، فإن العقل التقريري المركزي للدولة أكد من جديد على الاستراتيجية المعتمدة على ثنائية “الدولة الاجتماعية-الدولة الاستراتيجية” في مواجهة عالم اللايقين وعالم الأزمات التي تتوالد وتتكاثر بسرعة.
اجتماع المجلس الوزاري الأخير أكد ضرورة تحديث العقل التكنوقراطي المالي المغربي
تبني العقل التقريري للدولة الاستراتيجية المعتمدة على ثنائية “الدولة الاجتماعية-الدولة الاستراتيجية” كان يفرض على العقل المالي المغربي تحديا كبيرا مرتبطا بالقدرة على الإبداع في البحث عن الموارد المالية بشكل متواصل لإسناد استراتيجية العقل التقريري المعتمدة على استراتيجية العقل السياسي القادر، وليس العقل السياسي المحاسب، وهو ما أكد عليه اجتماع المجلس الوزاري الأخير من خلال تأكيده على ضرورة “إصلاح القانون التنظيمي لقانون المالية-مواصلة تطوير التمويلات المبتكرة-تثمين المحفظة العمومية والرفع من مردوديتها، وذلك من خلال الحرص على تنزيل القانون الإطار المتعلق بالإصلاح الضريبي والتدبير المحكم والرشيد لنفقات السير العادي للإدارة”.
هذه الاستراتيجية تفرض على العقل المالي المغربي تحديات كبرى مرتبطة أولا بضرورة تجاوز تأخر العقل التكنوقراطي المالي المغربي في الانفتاح على التجارب المالية بالعالم، خصوصا وأن هذا العقل مازال يشتغل من داخل مربع تفكير وثقافة العقل المالي الفرنسي المسجون داخل مربع الدولة الاجتماعية والعجز والمديونية. وبالخلاصة، فإن العقل التكنوقراطي المالي المغربي ما زال يشتغل من داخل مربع العقل المالي المحاسب، وليس من داخل مربع العقل السياسي القادر. وبالتالي، عليه أن يغير ثقافته وأن يضبط استراتيجيته بشكل يخدم استراتيجية العقل السياسي القادر التي يجسدها ويرسخها العقل التقريري المركزي بالمغرب.
انتقال العقل المالي المغربي إلى مربع الإبداع والابتكار يفرض عليه بذل الكثير من الجهد والتوفر على الإرادة القوية من أجل الخروج من سجن ثقافة العقل المالي الفرنسي. كما أن العقل التكنوقراطي المالي مفروض عليه التأقلم مع التدبير من داخل مربع اللايقين، وخصوصا عند تهيئة النصوص التشريعية المالية المعتمدة على الأرقام والفرضيات.
كما أن العقل التكنوقراطي المالي المغربي عليه أن يؤمن بما سبق وأكد عليه كاتب الافتتاحيات في جريدة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان من أن الأرض مسطحة وستبقى كذلك طوال القرن الواحد والعشرين، الأرض المسطحة تفرض الانفتاح على التجارب المالية الدولية (الألمانية-الأنجلوسكسونية)، وبالتالي عدم جعل القدر المالي الفرنسي قدرا لا مفر منه.
ضرورة إصلاح ثقافة ومعتقدات العقل التكنوقراطي المالي المغربي تفرضها عليه ضرورة العمل من داخل مربع تفكير وثقافة العقل التقريري المغربي، حيث إن هذا العقل هو عقل معجب بالعقل الاقتصادي والمالي المرتبط بالبحث المتواصل عن الفرضيات والسيناريوهات والأفكار الجديدة التي يفرضها عالم اللايقين وعالم الدستور غير المكتمل والدروس التي يعلمنا إياها التاريخ. لهذا، فإن العقل التقريري المغربي يبتعد عمن يطلق عليهم “اقتصاديي المياه الهادئة” الذين لا يقومون إلا بالعمليات البسيطة والسهلة المرتبطة بعالم اليقين (اقتصاديو المياه الهادئة هو لقب أطلق على الاقتصاديين الذين يدرسون في الجامعات الأمريكية الداخلية والبعيدة عن الساحل الأمريكي، والمعروف عن هؤلاء خصوصا أنهم اقتصاديون محافظون ويعتمدون كثيرا على الرياضيات، بينما اقتصاديو المياه المالحة هو اللقب الذي أطلق على اقتصاديي الجامعات الأمريكية التي توجد في السواحل الأمريكية بالقرب من المياه المالحة المتعودين على الإبحار في مواجهة الأمواج العاتية والتقلبات المناخية الصعبة والتغييرات الطارئة)، ويؤمن باجتهادات اقتصاديي المياه المالحة المعتمدة على الابتكار وإيجاد الحلول ومواجهة الصعاب وعالم اللايقين، مما يفرض على العقل التكنوقراطي المغربي الالتحاق بمربع التفكير الخاص باقتصادي المياه المالحة حيث الإرادة والجرأة والابتكار ومواجهة اللايقين والصعاب كيفما كان نوعها.
الخلاصة:
البلاغ الصادر عن اجتماع المجلس الوزاري الأخير يثبت مرة أخرى أن العقل التقريري المغربي في مواجهة عالم اللايقين وعالم التعاقدات غير المكتملة متشبث بالاستراتيجية المعتمدة على ثنائية “الدولة الاجتماعية-الدولة الاستراتيجية”. تنفيذ هذه الاستراتيجية يتطلب تطبيق ما يطلق عليه “استراتيجية في نفس الوقت”، وهي استراتيجية اعتمد عليها العقل الاقتصادي الانجلوسكسوني من خلال العبارة “في اليد.. وفي اليد الأخرى”، وهي العبارة التي من كثرة استعمالها من طرف مستشاري الرئيس الأمريكي هاري ترومان كان هذا الأخير يسخر منها ويقول: “أتمنى أن أتوفر في المستقبل على مستشارين اقتصاديين دون أياد حتى لا يتخمونني بعبارة: في اليد.. وفي اليد الأخرى”، لكن هاري ترومان عاش في عالم اليقين والمتوقع ولم يحكم في القرن الواحد والعشرين حيث الحكم يعتمد على تدبير اللايقين. أما الاقتصادي الأمريكي بول رومر الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، فقد هدد الاقتصاديين العاملين تحت امرته عندما كان رئيس الفريق الاقتصادي بالبنك الدولي بعدم التأشير على الدراسات التي تستعمل كثيرا واو العطف (… و…)، سواء من طرف الاقتصاديين الفرنكوفونين أو الاقتصاديين الانجلوسكسونيون، لأن هذا الاستعمال المكثف يساهم في ضبابية الرسائل المستخلصة من هذه التقارير.
خلافا لما كان يعتقده الرئيس الأمريكي السابق هاري ترومان وخلافا للحساسية تجاه هذه العبارة المرتبطة بـ “في نفس الوقت” التي كانت لدى الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، فإن العقل المركزي المغربي كان متيقنا من أن الاستراتيجية السحرية التي من الممكن أن تساعده على تجاوز مرحلة اللايقين ومرحلة الاضطرابات الكبرى والزلازل الجيوبوليتك التي يشهدها العالم تفرض اللعب بذكاء وحنكة وتجربة وإبداع من داخل المربع المعتمد على ثنائية “الدولة الاجتماعية-الدولة الاستراتيجية” وعدم ترك الأمور تنزلق إلى المستوى الذي تأكل فيه الدولة الاجتماعية الدولة الاستراتيجية (وبالتالي يأكل الحاضر المستقبل) ولا المستوى التي تأكل فيه الدولة الاستراتيجية الدولة الاجتماعية (وبالتالي يأكل المستقبل الحاضر).
المصدر: وكالات