وقف الكاتب والحكواتي إدريس الجاي على عدد من المحطات التاريخية لـ”دار عديل”، التي تعتبر معلمة من معالم مدينة فاس العريقة، والتي ارتبط اسم منشئها عبد الخالق عديل ببناء ذخائر فنية في مدينة فاس مثل “سقاية النجارين” و”فندق النجارين”.
وتطرق إدريس الجاي، في مقال له بعنوان “دار عديل.. ذات وجوه متنوعة”، إلى مرحلة تحول هذه الدار بعد وفاة مؤسسها عبد الخالق عديل سنة 1747 إلى ملك الدولة العلوية، ثم بعد حوالي قرن من الزمن تم استعمالها خزانة مالية ودار السكة، قبل أن تتحول بعد إعلان الحماية الفرنسية على المغرب إلى المركز الجهوي للفنون الأصلية، ثم المرحلة التي ارتبط فيها اسم دار عديل عند عامة أهل فاس بتعليم الموسيقى “الآلة”.
وأكد إدريس الجاي أن “دار عديل عكست بعد ترميمها من جديد نموذج الهندسة المعمارية الداخلية للدار المغربية في فاس الباذخة معماريا، مجسدة فترات من فن البناء المريني والسعدي والعلوي”، مشددا على أن “دار عديل أصبحت فضاء لتلقين السماع الصوفي والنوبات الصوتية الأندلسية، ومجالا لنشاطات بعض الطرق الصوفية، كما تعد من الفضاءات التاريخية ذات الهندسة المغربية الأصيلة”.
نص المقال:
في زقاق شبه عتم بين ساحة بسقايتها الجميلة وماضيها، الذي عرف عددا من مطاحن الحبوب المائية التي يدل عليها اسم الحي “واد رشاشة” وحي سيد النالي، الذي يمثل بمسيده للقرآن ودكاكينه المعدودة ومسجده الصغير مفترق الطرق المفضية شمالا إلى حي ضريح الشيخ الصوفي الكبير سيدي احمد الشاوي (1035ـ 1115هـ/ 1625 ـ 1704م) وشرقا إلى زقاق البغل حيث تلاقينا مدرسة دار بوعلي، هذه الدار التي حولت بعد الاستقلال إلى إدارة للأحباس وكانت قبل ذلك مقر باشا فاس الأسطورة، الذي تضاربت حوله الأقوال وحيكت حوله الكثير من الحكايات الشفوية التي تناقلها الناس بين الحقيقة والخيال، محمد بن بوشتى البغداي (1850 ـ 1932)، ثم لاحقا قبر أحد كبار علماء المغرب في القرن الثامن عشر الذي ترك عددا كبيرا من المؤلفات في كل مجالات العلوم الشرعية، أبي عبد الله محمد بن الطالب التاودي بن سودة (1705 ـ 1795). بين هذين الحيين، تقع على يسار الزقاق من جهة واد رشاشة، دار معلمة من معالم مدينة فاس العريقة، “دار عديل”.
لم تسعفنا المراجع التي بين أيدينا اليوم في معرفة تاريخ تأسيس هذه الدار على وجه الدقة، ولكن يرجح أن يكون قد تم بنائها في نهاية القرن السابع عشر الميلادي. فاسم دار عديل يعود إلى أسرة عديل، التي سكنتها أول الأمر. كما يرتبط اسم منشئ هذه الدار عبد الخالق عديل ببناء ذخائر فنية في المدينة مثل أجمل وأشهر سقايات فاس “سقاية النجارين”، وكذا أروع فنادق المدينة “فندق النجارين” عام 1711. هاتان المعلمتان العمرانيتان، سقاية وفندق النجارين، كان عبد الخالق عديل قد كلف ببنائهما من طرف السلطان العلوي مولاي إسماعيل، الذي حكم من 1672 إلى 1727. إضافة إلى أن عبد الخالق عديل كان تاجرا، فقد تقلد وظيفة الأمين على أسواق فاس، ثم وكيلا للدولة عليها. لاحقا أصبح واليا على مدينة فاس في فترة حكم السلطان عبد الله بن إسماعيل الأولى، الذي حكم ما بين 1729 ــ 1734، والذي تم عزله وتوليه الحكم ست مرات، آخرها انتهت بوفاته سنة 1757 في حصن “دار الدبيبغ” الذي بناه لنفسه كحصن حماية عام 1729.
لقد تحولت هذه الدار بعد وفاة مؤسسها عبد الخالق عديل سنة 1747 إلى ملك الدولة العلوية. ثم بعد حوالي قرن من الزمن، تم استعمالها خزانة مالية، ودار السكة، حيث كانت تسك فيها، إلى جانب ملحقها فندق راس الشراطين، عملات الدولة المعدنية. “وبعد سنة 1881 طلب مولاي الحسن قطعا من أوروبا، فلم تعد دار السكة تستعمل إلا في طبع الحلي من الفضة والذهب. وكان أمين مسلم مكلفا بهذه المراقبة”. (فاس ما قبل الحماية روجي لطورنو).
كما عمل في سك العملات وفي طبع الحلي، سواء فيها أو ملحقتها بفندق راس البشراطين، حرفيون مسلمون ويهود. وقد كانت هذه الدار قبل تحويلها إلى الخزانة المركزية مستودعا لمداخيل الدولة من عائدات الضرائب غير المباشرة.
في فترة لاحقة، تحولت الدار بعد إعلان الحماية الفرنسية على المغرب في عام 1912 إلى المركز الجهوي للفنون الأصلية في إطار “دراسة التراث التاريخي والحفاظ عليه”، تحت إشراف المستشرق الفرنسي ألفريدبل (1873 ـ 1945)، الذي عاش في الجزائر وكتب فهرسا لمكتبة جامع القرويين بفاس بالعربية والفرنسية، ومن بين كتبه كتاب “نظرة في الإسلام عند قبائل البربر”. وقد استعمل طابق الدار الأرضي كأول متحف للفنون المحلية (Musée d’Arts indigènes)، قبل أن يتم نقله إلى قصر البطحاء عام 1915. منذ ذلك الحين إلى اليوم هو متحف الفن التاريخي لمدينة فاس.
لقد واصلت الدار كملكية للدولة وظيفتها كمكتب لوكالة “دراسة التراث التاريخي والحفاظ عليه”؛ فقد وضعت بأمر من المقيم العام اليوطي تحت إدارة مديرين اثنين خلفا لألفريد بل. المستشرق الفرنسي بروسبر ريكار (1874 ـ 1952) من سنة 1920 الى1935. فقد عرف هذا المستشرق بوفرة كتاباته وأسلوب أعماله التي تتميز بتصميماته للصناعة اليدوية المغربية المنسجمة مع سياق التصدير الاستعماري، ومع ذلك فقد لعب دورا كبيرا في الترويج للزربية المغربية، حيث كان آخر أعماله عام 1935 هو كتيب ملون عن الزربية المغربية. كما أنه سبق له أن عرض الإنتاج المغربي من الزربية في معارض بالمغرب، أولها أقيم في الدار البيضاء سنة 1917، الغرض منها بيان الإمكانيات التجارية لزربية الأطلس المتوسط، لا حقا وبعد سنتين من معارض الدار البيضاء، أقام معرضا ثانيا في باريس سنة 1919 خاصا للسجاد المغربي متوجها فيه إلى عشاق الديكورات وفن التأثيث.
بعد نهاية فترة بروسبر ريكار، عُين المدير الثاني لدار عديل وكان هو الرسام والنحات والنقاش المستشرق الفرنسي مرسيل فيكير (1893 ـ 1972) الذي جاء إلى فاس وفقا لرغبته، فقد انتدب إلى فاس مفتشا للفنون المحلية سنة 1924، وتقلد وظيفة مفتش للفنون الجميلة والآثار التاريخية.
بعد مرحلة متحف الفنون المحلية وتحويل الدار إلى مكتب لهذه الإدارة، جاءت مرحلة ارتبط فيها اسم دار عديل عند عامة أهل فاس بتعليم الموسيقى “الآلة” أو كما توصف بالتحديد “الآلة الأندلسية. فقد تم تحويل الدار إلى معهد للموسيقى في مرحلة الحماية الفرنسية حيث حاولت كما يقول لوطورنو: “مصلحة الفنون الأهلية، التي أنشأها المريشال اليوطي، أن تحيي هذا الفن المحتضر، فأحدثت، بإيعاز من منشطه بروسبر ريكار، وبمساعدة الباحث الكسيس شوطان” (وهو عالم في الموسيقى العرقية، متخصص في الموسيقى العربية، كان مديرا للمعهد الموسيقي بالرباط سنوات (1929 ـ 1939) ثم (1956 ـ 1959) وكتب الكثير من الدفاتر عن الموسيقى المغربية كما دون العديد من النوبات الأندلسية منها ميزان البسيط من نوبة العشاق. ولد Alexis Chottin سنة 1891 ومات سنة 1975) (أحدثت) “معهدا للموسيقى الأندلسية أدى خدمات كبيرة، وموقفا على الفور تقهقرا زاحفا…” فأصبح الناس في فاس إذا ذكروا دار عديل، فهم يقصدون المعهد الموسيقي الأول في المدينة قبل تأسيس المعهد الثاني سنة 1960 بمقره بساحة لفياط في المدينة الحديثة، الذي شمل الفنون الموسيقية الأخرى من ملحون وموسيقى عصرية، وبعد ذلك انتقاله إلى شارع عمر المختار لاحقا.
لقد تألق في تلك المرحلة التي كانت الموسيقى تدرس في دار عديل وتسجل جلسات أجواقها الموسيقية في إذاعة فاس الجهوية، التي كان مقرها في إحدى غرف “متحف البطحاء”، أساتذة بارزون في هذا الفن الموسيقي ذي الأصول الأندلسية، الذين ذاع صيتهم ليس في فاس وحدها بل في المغرب وشمال إفريقيا، مثل امحمد البريهي (1877 ـ 1944) الذي كان ملما بالتراث، ومتقنا للعزف على آلة الرباب، التي لم يكن يماثله فيها أحد. ومحمد المطيري (1876ـ 1946) وكان وافر الاطلاع على كل ألوان الموسيقى الأندلسية من غرناطي ومألوف المنتشر في تونس وليبيا. والحاج عمر الجعايدي (1873 ـ 1952) وكان إلى جانب براعته في العزف على الرباب وآلات وثرية أخرى، غيورا على التعريف بموسيقى “الآلة” وحريصا على تعليمها. عينه الملك محمد الخامس سنة 1927 رئيسا لجوق “الآلة” الخاص بالقصر الملكي.
فبعد أن عرفت دار البريهي مراحل من ازدهارها ومهامها الوظيفية، سواء في الجانب المالي والتجاري أو الثقافي والفني، طالها الإهمال لفترة ليست بالقصيرة، جراء انتقال العاصمة والمصالح الإدارية والمالية من فاس إلى عاصمة المغرب الجديدة الرباط، وكذا متحف الفنون المحلية إلى قصر البطحاء، وفي الأخير نقل المعهد الموسيقي إلى رحاب المدينة الفرنسية الحديثة. لكن في فترة الثمانينات من القرن الماضي، التي عرفت بداية الاهتمام بمعالم مدينة فاس الأثرية والتاريخية كلية، من طرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو، تمت العناية بهذه المعلمة العمرانية والتاريخية والفنية والثقافية، فأعيد ترميمها ما بين سنتي 1993 و1994 تحت إشراف منظمة اليونسكو وبتمويل من الحكومة الإيطالية لمواصلة دورها كمعهد لتعليم الموسيقى.
لقد عكست دار عديل بعد ترميمها من جديد نموذج الهندسة المعمارية الداخلية للدار المغربية في فاس، الباذخة معماريا، مجسدة فترات من فن البناء المريني والسعدي والعلوي، المتميز بطابقين يطلان على فناء رئيسي، تتوسطه خصة ماء وتحفه سوار بنقوش جبصية في أعلاها وقد حملت قناطر خشبية بنمنقات بديعة. لقد أصبحت دار عديل فضاء لتلقين السماع الصوفي والنوبات الصوتية الأندلسية ومجالا لنشاطات بعض الطرق الصوفية. تعد دار عديل من الفضاءات التاريخية ذات الهندسة المغربية الأصيلة التي اختارتها اللجنة المنظمة لمهرجان الموسيقى الروحية العالمي، الذي انطلقت فعالياته سنة 1994 بفاس، لإقامة أنشطته الفنية إلى جانب فضاءات أخرى رسمية مثل ساحة باب المكينة بفاس الجديد، ساحة بوجلود وقصر الباشا التازي بسيد الخياط في البطحاء.
المصدر: وكالات