حظيت محافظات إقليم القاهرة الكبرى بمئات المحاور والطرق والكباري، ضمن المشروع القومي للطرق؛ كان نصيب القاهرة 349 مشروعاً، بتكلفة 37 ملياراً و179 مليون جنيه، وفي الجيزة شُيّد 11 محوراً مرورياً، أما في القليوبية أُنشئت عدة محاور وطرق مرورية؛ أبرزها محور اللواء العصار، ومحور شركات البترول، بخلاف تطوير آلاف الكيلومترات من الطرق والمحاور القديمة، ورفع كفاءتها الاستيعابية في أغلب مناطق الإقليم المركزي.
بالتزامن مع المشروع القومي للطرق، توسّعت الدولة في تنفيذ مشروع قومي آخر للإسكان. لم يقتصر نصيب القاهرة الكبرى على الظهير الصحراوي الذي تتمدد فيه المدن الجديدة شرقاً وغرباً، بل أُنشئت بنايات جديدة بمناطق العمران القائمة داخل « العاصمة القديمة » وسط القاهرة، فشُيّدت فيها مشروعات سكنية حكومية بالشراكة مع القطاع الخاص، يصل ارتفاع بعض بناياتها إلى 30 طابقاً، كما حدث في أبراج النيل بمنطقة ماسبيرو.
تنخفض هذه الارتفاعات إلى 10 و12 طابقاً في مناطق الفسطاط والمقطم (الأسمرات) والسلام (أهالينا)، وتقل أكثر في القاهرة التاريخية؛ حيث أقيمت تجمعات سكنية فاخرة على أنقاض مناطق سكنية غير آمنة، كما صنفتها تقارير حكومية، كتلك « الكمبوندات » بمنطقتي سور مجرى العيون (كمبوند أرابيسك)، والفسطاط (كمبوند الفسطاط فيو).
بطول 106 كيلومترات، وبتكلفة تجاوزت سبعة مليارات جنيه، طوّرت الحكومة المصرية الطريق الدائري، الذي يربط مناطق العمران القديمة بالقاهرة الكبرى؛ فهَدمت في سبيل ذلك ألفي عقار مجاور للطريق، لتحقيق السيولة المرورية المطلوبة، وهو ما روّجت له الحكومة في مواد مصوّرة لحركة المرور على الطريق الدائري.
سامح منصور، أحد سائقي السيارات الأجرة على الطريق الدائري، يقول إن المشروع خفّف من حدة الازدحام المروري، باستثناء بعض المناطق التي تشهد زحاماً مرورياً في أوقات الذروة؛ لكن في كل الأحوال لا يقارن بزحام ما قبل توسعة الدائري.
ما حدث من توسعة الطرق وشقّ أخرى جديدة داخل القاهرة، قال عنه الدكتور حسن الصادي، أستاذ اقتصاديات التمويل بكلية التجارة جامعة القاهرة، إن الحكومة اختارت البديل الأكثر تكلفة؛ على الرغم من أنه لا يعالج جذور المشكلة، حتى لو تحسن الوضع.
الأمر ذاته حذرت منه دراسة البنك الدولي، التي أرجعت تفاقم مشكلة زحمة السير إلى ارتفاع عدد السكان في القاهرة الكبرى، مع تأكيد أن ضرورة معالجتها ستصبح أكثر إلحاحاً، في ظل استمرار ارتفاع الزيادة السكانية.
الشوارع للسيارات لا البشر
آلاف الكيلومترات من الطرق الجديدة والمطوّرة، رسمت خريطة متباينة لهوية الأحياء والمناطق السكنية المميزة في مدن القاهرة الكبرى وضواحيها؛ سواء كانت مناطق راقية يسكنها الأغنياء، أو مناطق شعبية تتعايش فيها فئات الطبقة المتوسطة، أو أحياء فقيرة تتزاحم داخلها الطبقات الكادحة؛ فالتغيير لم يفرق بينها، لكن تأثر كل منها كان نسبياً ومختلفاً عن الأخرى.
سليمان عبد القادر، المقيم بمنطقة العمرانية جنوب القاهرة، واحد من بين 70 في المائة من المصريين الذين يعتمدون على المواصلات العامة في تحركاتهم وانتقالاتهم اليومية. جاء قبل 20 عاماً من إحدى قرى محافظة قنا بصعيد مصر، التي تبعد عن القاهرة مسافة تتجاوز 500 كيلومتر، للبحث عن عمل في مجال المقاولات.
بعد سبع سنوات من عمله، استطاع سليمان شراء شقة في إحدى البنايات بالقرب من الطريق الدائري، يضيف قائلاً: « أنا بحمد ربنا إن الشقة لم تُطل على الدائري، كانت طالتها التوسعات التي حدثت في محيط الدائري ».
ويضطر يومياً، منذ عام ونصف، إلى عبور الطريق الدائري، من أجل استقلال وسيلة مواصلات؛ بعد هدم السلالم التي كان يستخدمها أهالي المناطق المطلة على الدائري، للصعود إلى الطريق.
حالة سليمان ليست حالة فردية، بل ظاهرة يومية، خاصة في ساعات الذروة الصباحية والمسائية؛ حيث يَعبر العشرات بين الحين والآخر ثماني حارات مرورية وسط السيارات، التي تتزايد سرعتها كلما خفّ الزحام، بسبب قلة الأماكن المخصصة لعبور المشاة، كما وثّقتها الصور في أوقات مختلفة.
ومع المخاطرة بعبور الطريق السريع، يسقط العديد من الضحايا، صادف حدوث ذلك أكثر من مرة شهدها سليمان بنفسه، يضيف قائلاً: « حصلت مرة عربية خبطت واحد في كتفه، وسقط في نص الطريق، لولا ربنا ستر وشلناه ».
تمثل الوفيات بين المشاة ثلث الوفيات الناجمة عن حوادث الطرق في مصر؛ وهو ما يعني أن 700 شخص يلقون حتفهم كل عام أثناء عبورهم الطريق أو الشارع في القاهرة وحدها.
تصميم الطرق يُعدّ الجاني الرئيسي في حوادث المشاة، كما يشير الباحث العمراني يحيى شوكت، مُرجعاً السبب إلى أن الطرق الجديدة تستهدف تسهيل حركة المركبات على حساب المشاة، بالإضافة إلى محدودية أماكن عبور المشاة وإشارات المرور في الطرق الداخلية.
ويقول الباحث يحيى شوكت إن إحصائية للبنك الدولي، أكدت أن 97 في المائة من شوارع مصر تفتقر إلى إشارات المرور، وتنخفض النسبة إلى 78 في المائة بالنسبة لممرات المشاة.
كيف غيّرت شبكة الطرق القاهرة ديمغرافياً؟
التأثير الذي وقع على أسرة سليمان عبدالقادر، لم يقتصر على المعاناة اليومية في عبور الطريق الدائري؛ لأن « محور كمال عامر »، المُشيَّد أمام العقار الذي تقيم فيه أسرته، قد شطر المنطقة إلى نصفين، وفصل بين سكانها الذين تربطهم روابط اجتماعية وإنسانية؛ حيث أصبح الذهاب إلى منزل أهل زوجة سليمان يحتاج إلى وسيلة مواصلات، بعد أن كان يفصلهما شارع ترعة الزمر فقط.
وفي الوقت الذي تنظم فيه خدمة مرورية حركة السير أعلى المحور، لا يخضع شارع ترعة الزمر لأى تنظيم مروري؛ إذ اكتفت الأجهزة التنفيذية بلوحات إرشادية تحدّد اتجاهات المرور، وغالباً لا يلتزم بها سائقو المركبات.
تعاملت الحكومة مع تطوير المناطق المحيطة بالطرق من منظور آخر، فإذا كنت تسير بسيارتك فوق الطريق الدائري، ستلفت انتباهك جداريات فرعونية، تعلو بنايات مُختلفة أشكالها وأطوالها وألوانها، ولافتات إعلانية وشاشات عرض، ترسم الإضاءة شكلاً مميزاً وفريداً لتفاصيلها، كما رصدناها بداية طريق الأتوستراد، وحتى محور المريوطية.
في المقابل، إذا كنت تسير في الطريق أو الاتجاه نفسه، لكن أسفل الدائري، أو تقطن بإحدى المناطق المتراصّة على جانبيه؛ سترى مشهداً مغايراً تماماً، فتلال القمامة وأكوام مخلفات البناء وبرك المياه الراكدة، تمتد على جنبات ووسط الشوارع والطرقات.
وفي مصر الجديدة، حلّت طبقات الأسفلت مكان المساحات الخضراء، في المناطق التي خضعت للتطوير؛ لتتحول الشوارع الهادئة التي لا يتجاوز عرضها حارتين مروريتين، وترسم حدودها الأشجار، إلى طريق حر بعرض خمس حارات مرورية، بعد اقتلاع أشجار الحي « المعمّرة ».
ورغم اعتراض أهالي الحي على ما سمّته الحكومة « تطويراً »، لم تحدث أيّ استجابة أو تغيير لما بدأت الأجهزة الحكومية بتنفيذه، بل تجاهلت كل الأصوات التي طالبت بمراعاة الهوية المعمارية للحي، الذي يتجاوز عمره مائة عام.
ورغم أن الكود المصرى لأعمال الطرق الحضرية والخلوية ينص على « عدم تشجيع مدّ الطريق داخل المناطق السكنية، واتخاذ الإجراءات الهندسية لتقليل تلوث الهواء والضوضاء بها »، فإن أعمال توسعة الشوارع وإنشاء الكباري والطرق الجديدة، كانت سبباً في إزالة أكثر من 96 فداناً من المساحات الخضراء، بحي مصر الجديدة.
يقول الدكتور على عبد الرؤوف، المتخصص في التخطيط والعمران، إن شوارع مصر الجديدة كانت أشبه بأماكن مفتوحة، يقصدها المشاة من قاطني الحي الراقي وسكان غيره من المناطق الأخرى في القاهرة الكبرى، موضحاً أن ما تسميه الحكومة ومؤسساتها تطويراً، قد مزّق القاهرة وأحياءها، وجعل مصر الجديدة ممرات مرورية، تربط منطقة وسط البلد، « قلب العاصمة القديمة القاهرة »، بالعاصمة الإدارية الجديدة.
ووجّه الرئيس السيسي رسالة إلى منتقدي مشروعات الطرق قائلاً: « حاسبوا الدكتور مصطفي مدبولي، المسؤول عن وضع خطط التطوير العمراني لمصر »، في إشارة إلى الفترة التي تولّى فيها « مدبولي » هيئة التخطيط العمراني.
الشوارع والطرق… خلط دائم
فرّق برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في المنطقة العربية « موئل الأمم المتحدة »، بين طبيعة الشوارع والطرق: « الشوارع روابط داخل المدن، بينما الطرق تربط بين المدن ».
وتوضح الباحثتان هبـة قرشـي، ونـدى عبـد الحـي، ماهية الطرق والشوارع، ومواصفات كل منها؛ فالطرق تربط بين وجهتين محددتين من بلدة أو مدينة لأخرى، وعادة ما تُصنّف وطنية أو إقليمية، وتشير إلى بنية أساسية مادية. أما الشوارع، فتشير إلـى الطـرق العامـة داخـل البلـدات والمـدن، وفق الورقة البحثية التي نُشرت بعنوان « طرق تشمل الجميع… إعادة النظر في تصميم شوارعنا ».
فـي الفتـرة مـن 2003 إلـى 2013، كان متوسط عـرض الشـوارع فـي القاهـرة 9.5 متـر، وفقاً لأطلس التوسع العمراني، ووفق الدراسة التي أجراها مشروع حلول للسياسات البديلة، فإن هـذا الرقـم أكبر نسبياً من المدن الأكثر نمواً، مثل لندن (7.54 متـر)، وأعلى مـن المتوسط العالمي (7.4 متـر).
ووفق الباحثتين، فإن الشارع « المثالي » يُعدّ كياناً عاماً مشتركاً، يناسب مختلف المستخدمين في بنائه وتنظيمه ووظائفه، ولا يقتصر على حركة السيارات فقط.
عملية توسعة الطرق شرق القاهرة، وإنشاء محاور جديدة، ألغت وظيفة الشوارع التي تمّ تطويرها داخل حي مصر الجديدة؛ حيث تحولت إلى محاور مرورية وطرق حرة من دون تقاطعات، ولم تراعِ طبيعة المنطقة السكنية وحركة قاطنيها، لتخالف ما ينص عليه برنامج الأمم المتحدة عن طبيعة الشوارع داخل المدن.
المصدر: وكالات