الثلاثاء 24 يناير 2023 – 01:00
كانت محاكم التفتيش التي أنشئت في إسبانيا منذ القرن الثاني عشر موجهة ضد المسلمين في الأندلس، لكن شملت لاحقا اليهود كذلك منذ بداية القرن الرابع عشر، وفي القرن السادس عشر ظهر عدو جديد خارج عن المذهب الكاثوليكي المعتمد آنذاك لدى الملوك في أوروبا، وهم جماعة “البروتستانت”؛ حيث تم إحراقهم أحياء وإلحاقهم بالمسلمين واليهود “كهراطقة”؛ والهراطقة هم الذين تمردوا على تعاليم الكنيسة، وإدخال بعض الإصلاحات والاجتهادات في نصوص الأناجيل المقدسة المعتمدة لدى الكنيسة الكاثوليكية؛ فهؤلاء لم يسلموا كذلك من بطش محاكم التفتيش، ولو أنهم ينتمون إلى العقيدة المسيحية نفسها!!، ويكفي أن نسطر ما ذكره غوستاف لوبون في كتابه المعروف “حضارة العرب”، حيث يقول: “يستحيل علينا أن نقرأ دون أن تقشعر جلودنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قامت بها محاكم التفتيش الإسبانية ضد المسلمين المنهزمين.. أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع.. واقترح الراهب بليدا قطع رؤوس كل العرب دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد، بمن في ذلك النساء والأطفال.. كما قتل بليدا في قافلة واحدة 100 ألف مهاجر، كانت متجهة نحو إفريقيا والمغرب وأمريكا اللاتينية”!!.
فمحاكم التفتيش كان هدفها الأول والأخير القضاء على المسلمين واليهود في الأندلس، وعلى كل مخالف لقواعد المذهب الكاثوليكي المعتمد لدى ملوك أوروبا. ورغم المعاهدة التي تمت بين أبي عبد الله الصغير (آخر ملوك المسلمين في الأندلس، دفين فاس بالمغرب) والملوك الكاثوليك سنة 1492م، وأقسم البابا عليها، ومن بنودها: “تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، مع إبقاء الناس في أماكنهم ودورهم، وإقامة شريعتهم على ما كانت، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت.. ولا يمنع مؤذن ولا مصل ولا صائم ولا غيره في أمور دينه”؛ لكن هذه المعاهدة لم تدم طويلا وتم نقضها كليا وبدأت التصفية الجسدية وإقبار اللغة العربية وحظرها، وأحرق الكردينال أكزيمينيس ما يزيد عن 80 ألف كتاب، وفي غرناطة وحدها سنة 1500م أجبر المسلمون على تسليم أكثر من 15 مليون كتاب تتميز بتجليدات زخرفية لا تقدر بثمن، فتم حرقها واحتفظوا ببعض كتب الطب والهندسة والفلك والجغرافيا والرياضيات والفلسفة.. مازال إلى اليوم العالم الغربي يقتات من فتاتها، وهكذا تفنن ملوك الإسبان في إذلال المسلمين بالأندلس؛ حيث منعوا الختان والوقوف تجاه القبلة، والاستحمام والاغتسال، وحظروا الملابس العربية، وإذا وجدوا رجلا لابسا للزينة يوم العيد عرفوا أنه مسلم فيصدر في حقه الإعدام، وكذلك لو وجدوا في بيته مصحفا للقرآن الكريم، أو امتنع عن الطعام في رمضان..
وكانوا يكشفون عورة من يشكون أنه مسلم، فإذا وجدوه مختونا يعاقب عقابا شديدا، وفي أغلب الأحيان يعدم، حتى تناول “الكسكس” المغربي واستخدام الحناء يعتبران جريمة من الجرائم وصاحبها يعاقب!!. ولما شعر الإمبراطور شارل الخامس بميل الموريسكيين إلى الهجرة أصدر قرارا سنة 1514م يحرم عليهم تغيير مساكنهم ونزوحهم إلى مدينة بلنسية، التي كانت دائما طريقهم المفضل إلى الهجرة، وأتبعه بمرسوم آخر بأن كل شخص يطمح إلى شغل وظيفة في إسبانيا عليه إثبات عدم وجود أي عضو يهودي أو مسلم في عائلته منذ أربعة أجيال على الأقل؟!. وما بين عامي 1609 و1614م تم طرد ما لا يقل عن 500 ألف شخص إلى البلدان الإسلامية المجاورة كالمغرب وتونس ودول أمريكا اللاتينية بعد نهب ومصادرة أملاكهم.
وقد أبيد الكثير منهم أثناء هذا الترحيل؛ حيث كان القراصنة يرمونهم في البحر ليموتوا غرقا، ومن وصل سالما إلى سواحل البرازيل والشيلي وسورينام.. وجد هناك محاكم التفتيش البرتغالية، التي كانت تمنع هجرة الأندلسيين المسلمين إلى البرازيل عندما احتلوها في القرن السادس عشر؛ ففي سنة 1594م تم إصدار قانون من قبل محكمة التفتيش بولاية بهية البرازيلية توضح من خلاله علامات المخفي للإسلام، ومما جاء في بعض بنوده: “الغسل والنظافة خاصة أيام الجمعة، والقيام الباكر، والصيام ونظافة الملابس، ولبس الخاتم الفضي..!!”، الأمر الذي دفع بالكثير منهم إلى الهروب إلى دول الجوار كالأرجنتين والشيلي وفنزويلا وسورينام.. ولا تزال إلى اليوم عائلات بالبرازيل يعتز أفرادها بأصولهم الموريسكية، ويحتفظون في بيوتهم بمصاحف قرآنية توارثوها عن أجدادهم جيلا بعد جيل، وبعضها خطّ بأيديهم وعلى طريقة الرسم المغربي، وأنا شخصيا أحتفظ بصورة فوتوغرافية لامرأة موريسكية برازيلية مازالت على قيد الحياة، وقد بلغت من الكبر عتيا، تقطن بولاية بهية عاصمة المسلمين الأوائل بالبرازيل.
وبعد أن قضت محاكم التفتيش ما يزيد عن 329 سنة من القتل والحرق، والشنق وتمزيق الأرجل، وفسخ الفك وقطع الألسن، والموت غرقا..!! صدر قرار بإلغائها رسميا في 15 يونيو 1834م.
وللإشارة فإن البابا يوحنا بولس الثاني عند زيارته البرازيل سنة 1992م، طلب العفو والسماح من شعوب أمريكا اللاتينية عن مختلف وسائل العنف والإرهاب التي اقترفتها الكنيسة الكاثوليكية عند غزوها قارة أمريكا.
المصدر: وكالات