“علم نفس وادي السيليكون: التهديدات الأخلاقية والذكاء العاطفي في صناعة التكنولوجيا”، للباحثة البريطانية كاتي كوك، ترجمة: ممدوح الشيخ. في تصدير الكتاب عبارات تقريظ منها قول لاري دي روزين، أستاذ علم النفس الفخري: “كشخص درس تأثير التكنولوجيا منذ أوائل الثمانينيات، أشعر بالذهول من كيفية استخدام المبادئ النفسية كجزء من نموذج الأعمال في العديد من شركات التكنولوجيا. وفي أحيانٍ كثيرة من الأحيان أرى “النظرية السلوكية” في العمل تستخدم في محاولة لإغواء العقول إلى موقع أو تطبيق وجعلهم يعودون إليه يومًا بعد يوم. وهذا الكتاب يعري هذه الممارسات ويتيح للقراء اختلاس نظرة على ما وراء “المشاهد العاطفية” حيث شركات التكنولوجيا تطلق النار نفسيًا على المستهلكين. وما لم يتم الكشف عن هذه الممارسات ونشرها على الملأ، ستستمر شركات التكنولوجيا في تشكيل أدمغتنا وعلى نحو سيء”، سكوت جالواي، أستاذ التسويق في جامعة نيويورك يصف الكتاب بأنه رحلة “في وقت يعد فيه فهم دوافع وادي السيليكون وأساطيره وأخلاقه ذا أهمية بالغة”.
وفي مقدمته ينقل مترجم الكتاب – ممدوح الشيخ – وصف تيم بيرنرز، مبتكر شبكة الانترنت، للنسخة الحالية منها بأنها معادية للإنسان وأنها أفشلت الإنسانية، بدلاً من خدمتها، و”وعد وادي السيليكون بجعل العالم مكانًا أفضل يتحول إلى كلام فارغ بشكل متزايد”. والقصة يرويها هذا الكتاب: “علم نفس وادي السيليكون: التهديدات الأخلاقية والذكاء العاطفي في صناعة التكنولوجيا”، للباحثة كاتي كوك، الصادرة ترجمته العربية حديثًا (دار الناشر الذهبي، مصر – دار جسور، السعودية).
ويقع وادي السيليكون، قرب خليج سان فرانسيسكو شمال كاليفورنيا، ويمتد 15 ميلًا، وهو موطن بعض أشهر شركات التكنولوجيا: آبل، وفيسبوك، ونيتفليكس، ولينكد إن، وجوجل، وهيوليت باكارد، وإنتل، وسيسكو، وإي باي، وغيرها الكثير. ورغم ما سبق فإن شوارعه ليست كالمتوقع نظيفة وآمنة ومرتبة، وفي الوادي تقع الصناعة الأكثر ربحية والأسرع نموًا وتأثيرًا في تاريخ البشرية. وبحسب ريد هوفمان مؤسس لينكد إن فإن الوادي “عقلية” وليس “موقعًا”. والثروة الهائلة للمنطقة يقابلها انعدام شبه تام للمساواة الاقتصادية، حيث المشردون ومدن الخيام، وحيث التكلفة السنوية لتنظيف القمامة وبراز البشر من الشوارع تبلغ 30 مليون دولار.
رجال وادي السيليكون
من أجل تحديد نوع الأشخاص الذين يبحثون عنهم، بدأت صناعة الكمبيوتر في استخدام اختبارات الكفاءة. وفي منتصف الستينيات تبلورت مواصفات مبرمجي معظم شركات وادي السيليكون وبينها سمتان رئيستان: الاهتمام بحل الألغاز، وعدم الاهتمام بالناس. وغلب على الجيل أول منهم أن يكونوا: ذكورًا معادين للمجتمع، وميالين للرياضيات. والمصابون بالتوحد أو أصحاب سمات مصابي التوحد (أسبرجر) مُـمثَّلون بشكل كبير في هذه الصناعة. وهؤلاء يميلون إلى إظهار تفكير منطقي قوي. وهناك فوائد يجلبها تعيين عمال عقلانيين للغاية، ذوي مهارات فنية، وهناك عيوب في التمثيل المفرط للذكاء المعرفي بدلًا من الذكاء العاطفي. والنتيجة: نقص التعاطف، في جميع أنحاء الصناعة. وغالبًا يكون هناك عرض واضح لنقص النشاط في أجزاء الدماغ المرتبطة بالتعاطف لدى أولئك الذين يُظهِرون بشكل طبيعي مهارات تحليلية أكثر من المهارات العاطفية.
هناك أيضًا سلوكيات ومواقف لا يدركها وادي السيليكون عن نفسه. العاملان اللذان سيثبتان أنهما أكثر أهمية عندما نبدأ في النظر إلى تأثيرات التكنولوجيا هما: انعزال الصناعة وغطرستها، انعزالية أكسبت وادي السيليكون سمعةً باعتباره “فقاعة”. والوادي ليس فقط معزولًا اجتماعيًا واقتصاديًا لكنه معزول أيديولوجيًا عن العالم. وبحسب خبير قديم في وادي السيليكون، فإن العاملين في الصناعة “يفقدون الاتصال بالواقع”. والغطرسة المتزايدة لهذه الصناعة تنبع من الاعتقاد بأنه لا مشكلة لا تستطيع التكنولوجيا حلها. وهذا التصور يصبح إشكاليًا، عند تجاهل الدروس التي يمكن تَعلُّمها من الصناعات الأخرى، أو من الماضي، أو من تجارب الآخرين، ما قد يجعل منتجات الصناعة أكثر اتساقًا مع الأخلاق. وقوام المنهج السائد أن “العاملين في الصناعة هم الأذكى … … وبالتالي لا يمكنهم “حقًا” تعلُّم أيِّ شيءٍ من أي شخص آخر”.!
وقصة ميلاد الكتاب كما تصفها المؤلفة بدأت حين شعرت المؤلفة بالقلق بشأن وتيرة التكنولوجيا، وكانت تشاهد أطفالًا صغارًا ملتصقين بأجهزة آي. باد، وآباءً ملتصقين بالهواتف الذكية. وتساءلت عن الآثار، بعد 20 عامًا من استمرارنا على هذا المسار، عندما يكون الوقت فعل شيء حيال ذلك قد فات. تقول: “كنت مهووسةً بعلم النفس قلقةً بشكل خاص بشأن الكيفية التي يمكن أن تؤثر هذه الصناديق السوداء الصغيرة اللامعة، في صحتنا العقلية ورفاهيتنا، بينما تساءلت الرومانسية بداخلي عن الكيفية التي ستغير بها علاقاتنا”.
وادي القيم المشكوك فيها
لفهم هوية وادي السيليكون، يجب أن نقدر القيم التي تأسَّس عليها وكيف تطورت بمرور الوقت. والإنترنت الذي أصبحنا نعرفه، ونحبه، بدأ كمشروع مـُموَّل من الحكومة الأمريكية يسمى شبكات وكالة مشاريع البحث المتقدم، وأُطلق عام 1969 للاستخدام في الجيش الأمريكي: إنه “جد الإنترنت”. في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بدأت نسخة عامة من الويب، أنشأها فريق في سيرن بقيادة الفيزيائي من جامعة أكسفورد تيم بيرنرز لي، في الظهور. وكان الإنترنت، كما تصوَّره مؤسسه، مكانًا يوفر معلوماتٍ عالية الجودة، ومشاركةَ هذه المعلومات من ندٍّ إلى ندٍّ: “مساحة حرة ومفتوحة وخلاقة”. وقد استمرت هذه الرؤية الديمقراطية والطوباوية للويب سنوات، ثم انهارت مع تسليع الإنترنت في أوائل القرن الحادي والعشرين.
بدافع ما يصفه باحثون بأنه “قبيلة من الناس اجتمعوا معًا وعززوا القيم المشكوك فيها مع بعضهم البعض”، تميل مشكلات وادي السيليكون إلى أن تعود إلى 3 قضايا أساسية. أولاً، تميل التكنولوجيا إلى أن تكون ثقافة متجانسة بشكل غير مألوفٍ، وتتميز بنقص التنوع والعزوف عن تَبنِّي التعددية؛ ثانيًا، أنها مليئة بالتمييز، وضمن ذلك التمييز على أساس الجنس، والتفرقة العمرية، والعنصرية، فضلاً عن التحرش. وثالثًا، مستوى مقلقٌ من انعدام النضج في العديد من الشركات، وغالبًا ينبع من أعلى مستويات المسؤولية فيها. والنتيجة: صناعةٌ لها الكثير من القواسم المشتركة مع نفسها وتتألف بشكل أساسي من أشخاص متشابهين في: الخلفيات ووجهات النظر والخبرات. إن فكرة ملاءمة الثقافة متجذرةٌ بعمقٍ في مفردات وادي السليكون.
ويحذر باحثون من الانخداع بشعارات شركات الانترنت العملاقة مثل: فيسبوك وغوغل وأمازون، فالشعارات إلهاء عن الأهداف الحقيقية للشركات وهدفها الحقيقي جلب “أكبر عدد من المستخدمين، لأطول فترة ممكنة، بالمعدل الأكثر تكرارًا”. وقد بذل فيسبوك جهودًا كبيرة لإقناع أفراد الجمهور بأن الأمر كله يتعلق “بربط الأشخاص” و”بناء مجتمع عالمي”، وهذا الكلام التسويقي المزيف أسهل بكثير بالنسبة للموظفين والمستخدمين من مهمة “التهام البيانات الشخصية حتى نتمكن من استهدافك بالإعلانات”!
وفكرة أن التكنولوجيا يمكن أن تغير العالم من خلال العمل كأداة للنهوض بالجنس البشري يجري دمجها في كل حملة إعلانية مصممة بعناية، ونتعرض للقصف بها صباح مساء. وتبدو وعود شركات التكنولوجيا الرقمية مضحكة عندما نتوقف للتفكير في ما تبيعه بالفعل، وحتى أكثر إثارة للصدمة عندما ندرك كيف أنجزوها.
والكتاب غزير وممتع ويجيب عن الكثير من الأسئلة، ويطرح أخرى. وهو – مع كونه منضبطًا منهجيًا بشكلٍ صارم – تـُحقِّقُ قراءتُه متعةً حقيقية، وهو واحدٌ من النماذج الجيدة لـ “السهل الممتنع”.
المصدر: وكالات