نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا لشريف هريدي، باحث متخصص في الشأن الإيراني، تناول فيه مؤشرات صعود علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، إلى الواجهة على مستوى السياسة الخارجية الإيرانية، وأسباب اختياره إدارة علاقات الجانب الإيراني مع الأطراف العربية خلال الفترة الأخيرة.
هذا نص المقال:
مثّل الاتفاق السعودي الإيراني، الذي وقّع في 10 مارس 2023، برعاية صينية، وما تبعه من اتفاقات أخرى لإيران مع الإمارات والعراق، مؤشراً على انفتاح طهران على دول الجوار العربي. وعلى الرغم من أن توقيع مثل هذه الاتفاقات قد يكمن في صلب مهام وزارة الخارجية، كان لافتاً قيام أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، بتلك المهام، الأمر الذي دفع بعض التقارير الغربية إلى وصفه بـ”صانع الصفقات الإقليمية”، و”عرّاب التقارب الإيراني العربي”. وفي هذا الصدد، تُثار تساؤلات عن أسباب تصدر شمخاني للجانب الإيراني في إدارة علاقاته مع الأطراف العربية خلال الفترة الأخيرة، ودلالات ذلك؟
مؤشرات الصعود:
عاد علي شمخاني إلى واجهة الأحداث خلال الفترة الأخيرة، وبات أكثر الشخصيات التي تتحدث عنها وسائل الإعلام، سواء في إيران أو في الخارج، ويمكن الوقوف على أبرز مؤشرات صعوده إلى الواجهة على مستوى السياسة الخارجية الإيرانية في الإقليم، فيما يلي:
1- الاتفاق السعودي الإيراني: قاد شمخاني مفاوضات مع الجانب السعودي، في بكين، خلال الفترة ما بين 6 و10 مارس 2023، والتي أدت إلى التوقيع على الاتفاق التاريخي الذي يقضي بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران في غضون شهرين، بجانب تفعيل الاتفاق الأمني المُوقع بينهما في 2001، فضلاً عن تفعيل الاتفاق التجاري والاقتصادي الموقع عام 1998. ولا شك أن اختيار شمخاني ينم عن ثقة كبيرة فيه من جانب المرشد الإيراني علي خامنئي، باعتباره شخصية تتمتع بخبرة عسكرية واستخبارية، فضلاً عن خبرته في التعامل مع أزمات المنطقة.
2- العلاقات مع الإمارات: أجرى شمخاني زيارة لدولة الإمارات، في 16 مارس 2023، التقى خلالها كبار المسؤولين الإماراتيين، وصرح بأنه تم الاتفاق على تسهيل التجارة بين البلدين باستخدام الدرهم الإماراتي، كما تم الكشف في أعقاب هذه الزيارة عن عودة السفير الإيراني قريباً إلى أبوظبي، ولاسيما بعد عودة نظيره الإماراتي إلى طهران في سبتمبر 2022.
3- التنسيق مع العراق: وقّع شمخاني مع مستشار الأمن القومي العراقي، قاسم الأعرجي، يوم 19 مارس، اتفاقاً أمنياً بهدف التنسيق في حماية الحدود المشتركة بين البلدين، في ضوء اتهام إيران جماعات مُسلحة كردية مُعارضة لها في إقليم كردستان العراق بنقل الأسلحة والعتاد العسكري عبر الحدود إلى الداخل الإيراني. علاوة على الاتفاق على آلية محددة لتسليم المبالغ المستحقة لإيران من العراق مقابل صادرات الغاز لها.
سمات مُحفزة:
يمارس المرشد الأعلى في إيران دور المشرف العام على عملية صنع السياسة الخارجية، وتخضع الأخيرة لسيطرة عدّة مؤسسات، أبرزها وزارة الخارجية، والمجلس الأعلى للأمن القومي، ومجمع تشخيص مصلحة النظام، وفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، و”بيت رهبري”، أي بيت القائد. بيد أنه وقع الاختيار على شمخاني ليدير عملية إعادة وتحسين علاقات طهران مع دول الجوار العربي، وقد يرجع ذلك إلى عدد من الأسباب، يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- الأصول العربية لشمخاني وخبرته الواسعة بدول المنطقة: ينحدر شمخاني من الأقلية العربية في إيران، حيث ينتمي إلى عائلة عراقية الأصل، ومن مواليد مدينة الأهواز بمحافظة خوزستان في غرب إيران، ولغته الأم هي العربية. كما أن لشمخاني سابق خبرة في التعامل مع دول المنطقة وتوقيع اتفاقات مهمة مع دولها، فقد أجرى زيارة للسعودية في عام 2000 وُصفت بـ”التاريخية”، عندما كان وزيراً للدفاع في عهد الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، وكانت ضمن جهود تحسين العلاقات بين البلدين، وأفضت إلى توقيع الاتفاق الأمني بينهما، وحاز على وسام شرف من العاهل السعودي آنذاك الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود. هذا إلى جانب الدور الذي أداه شمخاني في تسويات الأزمات السياسية في العراق، سواء في عام 2014 أو 2020، الأمر الذي يفسر اختيار خامنئي له لقيادة عملية تحريك المياه الراكدة مع الدول العربية.
ومن جهة أخرى، فإن تقلد شمخاني للعديد من المناصب الرفيعة داخل الأجهزة العسكرية والاستخبارية الإيرانية جعله على إدراك كامل للاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، والقائمة على العمل على إخلائها من القوات الأجنبية والنفوذ الأمريكي والغربي، وكيفية مواجهة التهديدات الإسرائيلية لإيران.
2- الانتماء للتيار الإصلاحي: يُعد شمخاني من الشخصيات المحسوبة على التيار الإصلاحي في إيران؛ وهو التيار المعروف بأنه أقل حدة في نظرته للتعامل مع دول الجوار، على عكس التيار الأصولي أو المحافظ الذي ربما يتبنى موقفاً مؤدلجاً قائماً على فكرة تصدير الثورة ومحورية قيام إيران بدور خارجي من خلال أذرعها التي تزعزع أمن واستقرار دول المنطقة. ولعل هذا الأمر هو ما جعل الأوساط الإصلاحية، بل والعربية أيضاً، تقرأ تعيين شمخاني على رأس المجلس الأعلى للأمن القومي في عام 2013، ليحل محل سلفه المتشدد، سعيد جليلي، بشيء من الارتياح. لذا فإن اختيار المرشد الإيراني لشمخاني جاء لتحقيق هدفين؛ أحدهما خارجي يتعلق بكون شمخاني وجهاً مقبولاً بالنسبة لدول المنطقة، والآخر داخلي يتعلق بمحاولة استرضاء التيار الإصلاحي، خاصة في ضوء تزايد انتقاداته للنظام على خلفية الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها إيران، فضلاً عن صلات شمخاني بالحرس الثوري الإيراني والتيار الأصولي، ما يجعله شخصية محل إجماع واسع.
3- الرغبة في تسريع التهدئة: يُشير اختيار خامنئي لشمخاني أيضاً إلى رغبة المرشد الإيراني في تسريع عملية عودة العلاقات مع السعودية ودول المنطقة، على أساس أن المباحثات مع الرياض استمرت أكثر من عامين، على المستويين الأمني والاستخباري، وبإشراف من وزارة الخارجية. بيد أن تلك المباحثات لم تُسفر عن تحقيق أي اختراق يُذكر، وهو ما دفع خامنئي، وفقاً لمصادر إيرانية، إلى استدعاء فريقه لبحث سُبُل تسريع تلك العملية، وقد وقع الاختيار على شمخاني والمجلس الأعلى للأمن القومي لإنجاز تلك التهدئة.
وفي هذا الإطار، أكد شمخاني، خلال لقائه وزير الدولة القطري للشؤون الخارجية، محمد بن عبدالعزيز الخليفي، في طهران، يوم 27 مارس 2023، أن “تطوير التعاون الشامل مع دول الجوار هو الأولوية الرئيسية لإيران في العلاقات الخارجية”.
دلالات ثلاث:
يُشير اختيار شمخاني لإدارة جهود إعادة العلاقات الإيرانية وتعزيزها مع عدد من الدول العربية إلى دلالات مهمة، منها الآتي:
1- رغبة طهران في إظهار جديتها في الانفتاح على الجوار العربي: سعى النظام الإيراني إلى إظهار جديته في مساعي الانفتاح على دول المنطقة، من خلال إسناد تلك المهمة بشكل مباشر إلى شمخاني، الذي يمثل المرشد في المجلس الأعلى للأمن القومي. كما أن الأخير يُعد مؤسسة مستقرة في النظام الإيراني، وليست تابعة للحكومة، الأمر الذي قد يمنح الاتفاقات الخاصة مع السعودية وباقي الدول مزيداً من الاستقرار والاستمرارية، على أساس أن النظام نفسه هو الضامن للوفاء بالتعهدات المقررة بموجبها، حيث إن دول المنطقة لا ترى ضمانات حكومة إبراهيم رئيسي كافية، لأنها ليست واثقة من استمرارها لولاية رئاسية جديدة.
واتصالاً بذلك، وبالنظر إلى الخبرات الإيرانية السابقة، فإن المرشد الأعلى قام مثلاً بتعيين علي لاريجاني ممثلاً خاصاً عنه لإجراء اتصالات مع الصين أفضت إلى توقيع اتفاق الـ25 عاماً بين الجانبين. وتُشير المصادر إلى أن بكين أصرت على التواصل المباشر مع خامنئي لتوقيع هذا الاتفاق، متجاوزة في ذلك حكومة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني.
2- عدم الثقة الكاملة في وزارة الخارجية الإيرانية: بالرغم من نفي وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، وجود أي خلافات حول المؤسسات التي ترسم السياسة الخارجية في بلاده، في معرض رده على غياب وزارة الخارجية عن جولات شمخاني الإقليمية، وتأكيده وجود تنسيق تحت إشراف الرئيس الإيراني بين المؤسسات كافة؛ فإن اختيار المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني لمهمة إنجاز التهدئة الإقليمية يُشير إلى أن المؤسسة الحاكمة في طهران ربما توصلت إلى نتيجة مفادها أن فريق وزارة الخارجية لا يملك الفاعلية اللازمة للحصول على اتفاق مُستدام، ومن ثم أوكلت تلك المهمة إلى جهاز أكثر كفاءة وهو مجلس الأمن القومي، وسياسي محنك هو شمخاني.
وقد أرجعت صحيفة “آرمان ملي” الإيرانية، المحسوبة على التيار الإصلاحي، اختيار النظام الإيراني للمجلس الأعلى للأمن القومي بديلاً عن وزارة الخارجية، إلى رغبته في إزالة الآثار السلبية التي لحقت بالوزارة ومكانتها في العلاقات الدبلوماسية بين إيران ودول العالم، خلال الفترة الماضية.
3- إمكانية نقل صلاحيات الملف النووي لمجلس الأمن القومي: من المُرجح أن يُسفر بروز شمخاني والمجلس الأعلى للأمن القومي في صدارة التحركات الدبلوماسية لإيران عن تعزيز احتمال نقل صلاحيات ملف التفاوض حول البرنامج النووي من وزارة الخارجية إلى هذا المجلس مرة أخرى، بعد أن تم نقله من قبل في عهد وزير الخارجية الإيراني السابق، علي أكبر صالحي، الذي تولى مهمة بدء المحادثات النووية مع الغرب في سلطنة عُمان، بعد إخفاق المجلس في إدارة هذا الملف. ويعزز من تلك الفرضية تصاعد الحديث عن احتمال تغيير وشيك في تركيبة فريق المفاوضين النوويين الإيرانيين، خاصة بعد استبعاد كبير المفاوضين، علي باقري كُني، من المباحثات التي أجراها المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافايل غروسي، عندما زار طهران في 3 مارس 2023.
في الختام، يمكن القول إن اختيار شمخاني لإدارة عملية التهدئة وعودة العلاقات وتعزيزها مع الدول العربية يُشير إلى رغبة النظام الإيراني في إيصال رسائل طمأنة إلى تلك الأطراف بأنه جاد ومُتعهد بتنفيذ الالتزامات التي تُقرر عليه، في ضوء تراكم عوامل عدم الثقة بين إيران والعرب على مدار سنوات. وبالرغم من أنه يظل من المُبكر تقييم مدى جدية طهران في الالتزام بالاتفاقات التي توصلت إليها، ومع التسليم بأن عودة العلاقات الدبلوماسية ووجود الاتفاقات بين الدول لا يعنيان التوصل إلى حل جميع الخلافات بين إيران والجوار العربي؛ فإن ذلك لا ينفي دور شمخاني والمجلس الأعلى للأمن القومي في إحداث اختراق في أحد أكثر ملفات السياسة الخارجية الإيرانية تعقيداً.
المصدر: وكالات