قال الدكتور إدريس لكريني إن تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة شكل تجربة مهمة على المستوى الإقليمي بشمال إفريقيا والشرق الأوسط، موردا أن الهدف منها كان ردّ الاعتبار لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدها المغرب، والعمل على طيّ صفحات قاسية من تاريخه.
وأضاف الأستاذ الجامعي ضمن مقال توصلت به هسبريس، معنون بـ”عقدان على تجربة الإنصاف والمصالحة”، أنه رغم الانتقادات التي وجهت إلى عمل وحصيلة الهيئة من حيث قصر المدّة التي اشتغلت فيها، وعدم تحديد المسؤوليات، أو تقديم اعتذار رسمي للضحايا، تظل تجربتها متميزة وشجاعة بكل المقاييس، سواء على مستوى إحداث الهيئة نفسها أو على مستوى بلورة النتائج والتوصيات التي خلصت إليها، وكذا الآثار السياسية والحقوقية والاجتماعية التي خلفتها.
وهذا نص المقال:
في السابع من شهر يناير عام 2004 تأسست هيئة الإنصاف والمصالحة، في سياق دينامية سياسية وحقوقية، وقد مثلت تجربة مهمة على المستوى الإقليمي بشمال إفريقيا والشرق الأوسط، كان الهدف منها ردّ الاعتبار لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدها المغرب، والعمل على طيّ صفحات قاسية من تاريخه، كسبيل لتعزيز مسار الإصلاحات السياسية التي شهدتها البلاد منذ وصول المعارضة إلى الحكومة عام 1998.
وتشكلت عضوية الهيئة من ناشطين ومناضلين حقوقيين ومعتقلين سياسيين سابقين، فيما ترأسها أحد ضحايا هذه الانتهاكات، ويتعلق الأمر بالراحل المناضل إدريس بنزكري؛ وقد تمحورت مهامها حول فحص مختلف الملفات المتصلة بالانتهاكات التي شهدها المغرب ما بين عامي 1956 و1999.
وخلّف إحداث الهيئة ردود فعل سياسية وأكاديمية، ثمنت في مجملها هذه الخطوة، واعتبرتها بمثابة لبنة أساسية في مسار التحول السياسي بالبلاد، يعيد الاعتبار لملف كاد أن يلفه النسيان، ويوفر المناخ الكفيل بإعمال بتعزيز المكتسبات الحقوقية.
وقامت الهيئة بعقد جلسات استماع عمومية لفائدة الضحايا الذين قدموا ملفات شكاواهم، شكّلت مناسبة للتنفيس وللإفصاح عن المعاناة التي مروا بها جراء الاعتقال والتعذيب والاختطاف، وكذا لتنوير الرأي العام بعدد من الحقائق؛ وتم بث أطوارها عبر عدد من القنوات الإعلامية العمومية، ما ولد شعورا بضرورة إرساء جهود ومبادرات توفر ضمانات تشريعية ومؤسساتية تساهم في منع تكرار هذه الممارسات في المستقبل.
ورغم انفتاحها على عدد من الممارسات الدولية الفضلى في مجال العدالة الانتقالية عبر العالم، تميزت التجربة بمجموعة من الخصوصيات، إذ تمت معالجة الملفات في إطار النسق السياسي والدستوري والإداري نفسه، كما لم يتم تحديد المسؤوليات في ما يتعلق بالجناة المتورطين في هذه الانتهاكات.
وأتاح عمل الهيئة تأهيل الضحايا اجتماعيا ونفسيا وصحيا، كما تم تمكينهم من تعويضات مالية، مع الكشف عن عدد من المقابر الجماعية، وتحويل معتقلات إلى متاحف ومراكز ثقافية؛ فيما تمكن عدد من المناضلين الحقوقيين وضحايا الانتهاكات من الوصول إلى مراكز مهمة داخل عدد من الهيئات والمؤسسات العمومية ذات الصلة بحقوق الإنسان. كما تمت مواءمة عدد من التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية، من قبيل إصدار قانون الأحزاب، وتعديل القانون والمسطرة الجنائيين، وتعزيز مكانة السلطة القضائية، ثم المصادقة على عدد من الاتفاقيات الدولية، كاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها المغرب سنة 2005، واتفاقية الأمم المتحدة بشأن الاختفاء القسري، والبرتوكول الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وتوجت الهيئة عملها بتقديم تقرير مفصّل للملك محمد السادس عام 2005، تضمن الكثير من المعطيات المرتبطة بالانتهاكات التي مورست في حق عدد من الضحايا، سواء تعلق الأمر منها بالتعذيب أو الاختفاء والاختطاف والدفن الجماعي، بالإضافة إلى معطيات حول سجون ومعتقلات سرية؛ مع طرح مجموعة من المقترحات والتوصيات التي تكفل منع الإفلات من العقاب في هذه الممارسات.
وعموما، يمكن تصنيف التوصيات الواردة في التقرير الختامي إلى ثلاثة أقسام، الأول مرتبط بجبر الضرر الفردي عبر إنصاف الضحايا بتعويض مادي وتأهيل صحي واجتماعي، وجبر الضرر الجماعي للمناطق التي تضرّرت نتيجة انتهاكات وتهميش لحقتها خلال فترة ما سمّيت سنوات الرصاص، والثانية لها علاقة بكشف حقيقة مجموعة من الحالات المتصلة بالانتهاكات ومتابعتها، والثالثة متصلة بالإصلاحات التشريعية والمؤسساتية والحكامة الأمنية، في علاقة ذلك بدعم الضمانات الدستورية لحقوق الإنسان، والإقرار بقرينة البراءة، وبالحقّ في محاكمة عادلة، وتعزيز مبدأ فصل السلطات، وإقرار وتطبيق إستراتيجية وطنية لمناهضة الإفلات من العقاب، وتجريم الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والإبادة العنصرية، وإصلاح القضاء ودعم استقلاليته، ومواصلة الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية المتصلة بحقوق الإنسان، واعتماد الحكامة الأمنية في تدبير الأزمات.
وفي أجواء الحراك الذي شهدته الكثير من بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط عام 2011، قام المغرب بإدراج مجموعة من توصيات الهيئة ضمن الدستور الذي صدر في هذه الفترة، إذ تم التأكيد على حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، وعلى الإسهام في تطويرهما، بالإضافة إلى إعطاء مكانة سامية للاتفاقيات والمعاهدات الدولية المصادق عليها في مقابل التشريعات الوطنية، ومعاقبة جريمة الإبادة وجرائم الحرب، وكافة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتجريم المعاملات القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة أو الحاطّة بالكرامة الإنسانية؛ ثم التأكيد على قرينة البراءة والحقّ في محاكمة عادلة، وتعزيز استقلالية السلطة القضائية.
حقيقة إن عمل هيئة المصالحة والإنصاف لا يحتمل القداسة والكمال؛ ذلك أن ملف حقوق الإنسان يظل مفتوحا، ويتطلب مواكبة ومقاربات منفتحة وشمولية، ومع ذلك، ورغم الانتقادات التي وجهت لعمل وحصيلة الهيئة من حيث قصر المدّة التي اشتغلت فيها والمحدّدة في سنة، وعدم تحديد المسؤوليات، أو تقديم اعتذار رسمي للضحايا، أو في ما يتعلق بتحفظ مجموعة من الأجهزة الحكومية عن تقديم المعلومات والوثائق، تظل تجربتها متميزة وشجاعة بكل المقاييس، سواء على مستوى إحداث الهيئة نفسها أو على مستوى بلورة النتائج والتوصيات التي خلصت إليها، وكذا الآثار السياسية والحقوقية والاجتماعية التي خلفتها.
المصدر: وكالات