عرفاناً لما قدمه نضالاً مستميتاً على شطرين، وتحت شعار “لنجعل مستقبل الديمقراطية مزهراً بتاريخ مقاوماتنا وصمود نضالاتنا”، نظم الحزب الاشتراكي الموحد – فرع الرباط ذكرى تأبينية لـ”الزعيم السياسي الوحدوي والموحّد، أحد قادة جيش التحرير وأحد مؤسسي اليسار المغربي، محمد بنسعيد آيت يدر، الذي ترك اليسار المغربيّ وحيداً”، في 6 فبراير 2023.
بنسعيد آيد يدر، الذي خاطب الحسن الثاني بكلّ ثورية ممكنة: “أنا محمد بنسعيد”، بعدما رفض المقاوم تقبيل يد الملك، وسأله الحسن الثاني: “شكون نتا؟”، فلُقّب بـ”معارض الملوك الثّلاثة” و”رافض الدساتير الممنوحة الـ6″. ولعلّ انتقاء “الأبناء البررة لليسار” 23 مارس كتاريخ لهذا التأبين يستدعي “شهادةَ التاريخ”، ليقول حقيقة معروفة في الوعي السياسي المغربي: أن “آيت يدر من مؤسسي منظمة 23 مارس”.
اجبابدي: كان نصيراً للمرأة
اعتبرت عضو هيئة الإنصاف والمصالحة لطيفة اجبابدي أن “بصمة بنسعيد لا يمكن أن تنمحي”، رابطةً اختيار تأبينه في ذكرى 23 مارس الأليمة، “وما شكلته من منعطف عصيب في مسارنا السياسي”، بـ”دلالة رمزية بليغة”، لكون هذا التاريخ “يذكرنا بما نذر فقيدنا، القيادي في هذه المنظمة، من حياته للتصدي له بشموخ وإباء، وبإصرار لم تنل منه سنوات الجمر والرصاص؛ فبرحيله فقدنا أحد آخر الزعماء التاريخيين الكبار”.
وواصلت اجبابدي شهادتها في حقّ “رفيق الكلّ”، قائلة: “الرفيق بنسعيد رحمه الله رجل كل المعارك، لم يتخلف عن أي من المراحل النضالية الرئيسية، وأي من واجهاتها السياسية منذ أزيد من 7 عقود، منذ النضال ضد الاحتلال في صفوف الحركة الوطنية والمقاومة، ورفضه الاستقلال المنقوص وإصراره على مواصلة الكفاح المسلح”، وأضافت: “لم يتوان عن مواصلة النضال في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والتصدي للاستبداد وحملات القمع التي طالت المعارضة، واكتوى بلهيبها في الحكم عليه بالإعدام واضطراره للعيش في المنفى”.
وتابعت المتحدثة ذاتها: “كان لمدّة غير قياسية صوتنا الوحيد في مجلس النواب، لأنه اضطلع بدور سياسي وحقوقي رفيع؛ دافع عن كل القضايا العادلة وناصر كل الحركات التواقة للحرية والكرامة والعدالة وحقوق الإنسان، فدافع عن قناعة راسخة وإيمان قوي عن المساواة بين الجنسين، ودعم نضالنا من أجل حركة نسائية جماهيرية في زمن كانت النظرة الحزبية للنضال النسائي ضيقة، وناصر معاركنا المطلبية وخاصة منها حملة المليون توقيع من أجل تغيير مدونة الأحوال الشخصية”.
وفي شهادتها التي تضعها رهن إشارة التاريخ أجملت اجبابدي قائلة: “تعرّض حينها لضغوط من أجل إقناعنا بإيقاف الحملة، وكان يردّ على من يطلب ذلك بأن ‘اتحاد العمل النسائي منظمة مستقلة لا يحق لي التدخل في توجهاتها وقراراتها، ومطالبها مشروعة وعلينا على العكس دعمها’ (…) كان ملهما لنا وللأجيال التي انخرطت في المسار لاحقا، وناصر نضالات وتحركات الشباب والديناميات الاحتجاجية والثقافية التي أطلقوها، بما فيها حركة 20 فبراير”.
الجامعي: كان لا يركع
النقيب والمحامي عبد الرحيم الجامعي نعى بنسعيد آيت يدر، أحد ألمع الرفاق، مستحضراً ما أداه من ثمن من حريته، إذ “اعتقل عدة مرات، وكان سيؤدي الثمن من حياته بعد أن حكم عليه بالإعدام، ثم أدى الثمن في غربته لسنوات، لما يقرب عقدين من الزمن إلى أن عاد في بداية الثمانينيات”، معتبرا أنه “قاوم الاستعمار وبنا خلايا المقاومة في الجنوب وفي الشمال حيث رمم صفوفها مع بقية رفاقه”.
وهو يصف مسار أحد مؤسسي جيش التحرير واليسار المغربي، تطرق الجامعي إلى “تجربة بنسعيد في المقاومة السياسية، إذ تصدى إلى جانب قوى وطنية أخرى للاستعمار الجديد، وهيمنة المحظوظين، وقاوم للقضاء على نهب المال العام والفساد، ومن أجل الديمقراطية والحرية”، مؤكدا أنه “حمل هذه الرسالة فأصبح يجسد مدرسة رائدة ومتميزة من القيم السياسية والفكرية”.
ولفت النقيب ذاته إلى أن “الرجل كان كائناً كريما يتكلم بصدق وبشجاعة، كما تشهد بذلك تدخلاته في البرلمان والمؤسسة التشريعية”، معدداً خصاله التي كان أبرزها أنه “كان صاحب قامة لا تنحني ولا تركع، وكان لا يعرف تقبيل الأيادي اليمنى أو اليسرى”، وزاد: “الكرامة عنده هي كل شيء، وهي معان مختلفة تنطلق من معاني الأخلاق واللياقة واللباقة والوداعة والرقة وهي التي لم تجعله يجري وراء الكراسي والمناصب والامتيازات”.
“الرجل كان يرمز إلى ما ترمز إليه قيادات الشعوب المتحررة”، يقول الجامعي، مضيفا: “كان يرى أن العالم يقف أمام غول وتوحش الرأسمال (…) وظل صوته مدويا أينما حل وارتحل، دفاعاً عن صياغة سياسية شعبية غير انتقائية ومناهضة لمعالم كبرى وفضائح عرفها وخبرها، مثل فضائح تزوير الانتخابات، وعدم تقسيم السلط، وفضائح عدم وضع المغرب في سكة الاختيارات الديمقراطية، والتطبيع مع إسرائيل”.
المرزوقي: صاحب السؤال القنبلة
النظرة التي يرى بها المرزوقي وغيره من معتقلي تزمامارت فقيد اليسار المغربي محمد بنسعيد آيد يدر مختلفة عن بقية الناس؛ فمعالم الشعور بالامتنان والجميل كانت واضحة في كلمته التي صاغها مبدع “الزنزانة 10″ أمام الذين حضروا حفل التأبين مساء السبت، بالرباط، لأن الذي كان وراء الخروج من تلك الزنزانة المظلمة هو آيت يدر بـ”سؤاله القنبلة”.
المرزوقي قال في كلمته التأبينية: “في ظل الأجواء المشحونة بالشكوك والترقب والخوف حين كنا في تزمامارت تقدم المجاهد الراحل محمد بنسعيد وحيدا وأطلق السؤال القنبلة الذي زعزع البرلمان، وجعل أعضاءه يستغشون ثيابهم توجساً من سقف سيخرّ من فوقهم، فوقف أحد المنافحين عن الباطل يريد إسكاته، غير أن الرجل النبيل الأبي أبى إلا أن رد عليه بهدوئه المعهود: ‘إن لم تقفل فمك فسوف أفضحك وأقول للملأ من تكون’”.
وعدّ المعتقل السياسي سابقاً هذه مجرد “لمحة بسيطة من لمحات شجاعة هذا الرجل الأصيل الذي لن نفي بحقه نحن قدماء تزمامارت مهما قلنا ومهما شرحنا؛ أما حياته الوطنية التي كانت حافلة بالمواقف الجليلة: شطرها الأول كفاح عظيم من أجل الاستقلال والكرامة، وشطرها الثاني ضد الاستبداد والاستعباد والفساد”، وأورد: “لقد مات الرجل وفي حلقه غصة لأن حلمه المتمثل في رؤية مغرب لكل المغاربة، مغرب ينعم بالديمقراطية والعدالة والكرامة والمساواة، لم يتحقق”.
وختم المرزوقي كلمته، التي عدّها الحضور “ماتعة” في لغتها وتفرّدها، متسائلاً: “هل ستلد المغربيات مستقبلا أسودا يحملون اسم محمد بن سعيد حتى نستطيع تحقيق مغرب العزة والكرامة؟ أم إن الحلم سيتأجل إلى ما شاء الله؟”، وواصل قائلاً: “سنسترسل في التعايش مع مسلسلات الإلهاء والتمييع و’التضبيع’ والتضييق على حرية التعبير لأجل استنساخ حلة جديدة منقحة من سنوات الجمر والرصاص…”.
المصدر: وكالات