يطالعنا كتاب “النزاعات المسلحة ودينامية التحولات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” (مينا) بتحليل مسهب وعميق لما تعاني منه المنظومة الجيوسياسية في هذا الإقليم المحوري من النظام العالمي المعاصر، ففيه يطرح المؤلف الدكتور محمد عصام لعروسي الوضع الجيوسياسي القائم اليوم في المنظومة السياسية والأمنية الممتدة على طول منطقة الدراسة، مستعيناً بعدد غير قليل من النظريات حول العلاقات الدولية، ودور المؤسسات العسكرية في صياغة السياسة الداخلية لبلدان المنطقة، وتأثير الصراعات المسلحة التي أصبحت ملازمة للمنطقة، لما فيه إضعاف للأمن وتأخير للتنمية المستدامة التي لا استقامة للمجتمعات بدونها.
كذلك يسعى الكاتب إلى استكشاف وشرح التأثيرات الخارجية على الصراعات في المنطقة، معتبراً أن هناك علاقة عضوية في بلدانها بين الظروف الداخلية والخارجية، خاصة أنها تعاني من تأزم أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة.
ويقدم الكتاب العديد من المحاور التي تقدم عناصر تحليلية كمية وكيفية وتأصيلية_تفسيرية تساهم في فهم طبيعة النزاعات المسلحة، وذلك عبر ستة فصول، حيث تطرق الفصل الأول لـ: النزاعات المسلحة ونظام الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتناول الفصل الثاني: النزاعات المسلحة وتداعيات أزمة التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ويتناول المؤلف ما أصاب المنظومة الجيوسياسية العربية، تحديداً، من خلل منذ ما قبل استقلال المجموعة العربية عن الاستعمار، وبالتالي فإنه يقدم خدمة جليلة لمستقبل محاولات معالجة هذا الخلل الذي يبقى السبب الأساسي لتراجع الشعوب العربية عن ركب التنمية والتقدم الذي تتمتع به شعوب العالم المتقدم.
كما تطرق الفصل الثالث لـ”دور الفواعل الدولية والإقليمية في تغيير دينامية النزاعات المسلحة من خلال محاولة تفسير دور القوى الدولية والإقليمية، كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي، وبعض الدول العربية، في إذكاء الحالة الصراعية في مجموعة من البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كاليمن وليبيا وسوريا؛ مرورا بالإستراتيجية الأمريكية والإستراتيجية العسكرية الروسية في الشرق الأوسط، والتنافس والصراع بين الفواعل الإقليمية، كإيران وتركيا والمملكة العربية السعودية؛ كما عرج على دورالحروب غير النظامية والجماعات المسلحة في تغيير السياسات وموازين القوى في المنطقة.
وفي الفصل الخامس المعنون بـ جيوسياسية الصراع والتمايزات الهوياتية الدينية والطائفية، يبرز الكتاب النظرة التحليلية المسهبة للصراعات التي لا تكاد تنتهي في بنيات المنطقة السياسية والعسكرية والعرقية والمذهبية/الطائفية والاقتصادية وغيرها. والمؤلف في تركيزه على الصراع لا يدّعي أنه حتمي أو أنه لن ينتهي، بل يعتبره نتيجة منطقية لتطور القضايا السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبالتالي فهو يمكن أن يتغير إلى مسار سلمي عام إذا انعدمت أسباب وجوده وجرت معالجة استمراره. لينتهي المؤلف في الفصل السادس إلى تحليل مآلات التحولات الجيوسياسية في المنطقة موضوع البحث.
إن معالجة الصراعات القائمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تُلزِم القائم بها بالنظر في عدد غير قليل من الظروف المؤثرة في اندلاعها، وأشكالها ونتائجها، والفرقاء المشاركين فيها. وإسهام المؤلف هنا ليس فقط في تحليل كل هذا، بل في ربطه بشكل جدلي وعلمي يبتعد عن النظرة التاريخية السردية البحتة الموجودة، للأسف، في عدد غير قليل من المراجع السياسية العربية. وأهمية هذا بالذات هي أن طريقة التحليل والعرض تصبح بنفس أهمية الحدث نفسه وتُغنيه وتُبعده عن كونه مجرد حدث حصل في تلك الدولة أو مع تلك المجموعة. فالتاريخ مهما كان قديماً فهو حيٌّ لأن له تبعات تؤثر في ما يحصل اليوم، ولأن إهمال دروسه يؤدي إلى تكرار أخطائه ولكن بشكل أكثر إيلاماً وسلبية.
وللكتاب عدة جوانب هامة يمكن الإشارة إليها، ولكن لضيق المجال يركز هذا الملخص على ثلاث مسائل أساسية للصراعات المتحكمة في بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: الضعف الحاصل في البنية السياسية لهذه الدول، ومحورية السلطوية كنظام سياسي وذهنية سياسية، بل وعقيدة نفسية قائمة منذ فترة طويلة، وما يشبه الارتباك الحاصل بالنسبة للقوة الدولية المهيمنة في المنطقة، أي تراجع وتغيير طبيعة دور الولايات المتحدة الأميركية.
والتركيز على تبعات ضعف الدولة على نشوب الصراعات يعتبر توجهاً جيداً وحديثاً في أدبيات السياسة والجيوستراتيجيا العربية، الذي لم يلقَ الكثير من المتابعة حتى الآن، والكتاب حاول إبراز هذه الجوانب. فالدولة كما كتب ماكس فيبَر هي من يحتكر استعمال العنف، وهي التي تنظّم حياة مواطنيها حسب قوانين تضعها وتنفذها. ولكن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حل عدد من الأزمات في بعض الدول جعل مهمة الدولة الأساسية غير قابلة للتحقيق، خاصة بعد تراجع قوة السلطة المركزية في فترة ما بعد الربيع العربي. ولهذا نشأت حركات انفصالية تمكنت من تحقيق بعض مكاسب الحكم الذاتي، ولكن بعد صراع مع السلطات المركزية. كذلك تمكنت ميليشيات من فرض نفسها كعنصر أساسي في السياسة، وكمؤثر في سياسة الدولة الخارجية، كما هو الحال في لبنان والعراق. في اليمن، تمكن الحوثيون وهم ميليشيا مسلحة من التوصل إلى منازعة الحكومة المركزية على الحكم بكامله. بالتالي، ما يجب العمل عليه في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو إعادة الاعتبار إلى الدولة وجعلها، ثانيا، العنصر الأساسي والوحيد داخل جغرافيتها.
أما بالنسبة للسلطوية فهي مذنب أكبر في التسبب بالصراعات لأنها، من ناحية، كانت من أهم أسباب التراجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في دول المنطقة، ومن ناحية ثانية تستخدم الصراع كطريقة لإلهاء الشعب عن آلامه الاقتصادية والاجتماعية. وهذه السلطوية استندت منذ سنوات استقلال دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى القوات المسلحة عماداً لسلطتها، بحيث أصبحت المؤسسة العسكرية سلاحاً ضد الشعوب بدل أن تكون حامية لاستقلالها، وفريقاً في نزاعات طبقية وسياسية وإثنية ودينية/مذهبية وغيرها إلى جانب الجالسين على سدة السلطة، عوض أن تكون أداة صهر فعالة لبناء حس وطني. ثم إن هذه المؤسسة العسكرية أصبحت، كما هي الحال في مصر على سبيل المثال، فريقاً اقتصادياً غالباً بحكم قربها من صناعة القرار، يحصل على امتيازات اقتصادية ويتدخل كمنافس في العملية الاقتصادية، ما يساعد في تأخير عملية النهضة والتنمية المطلوبة.
وأخيراً، كان من أهم ما حلله الكتاب موقع الولايات المتحدة الأمريكية كعنصر الهيمنة القديمة المتجددة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولكن هذا الموقع أصبح إشكالياً في السنوات القليلة الماضية بعد أن قررت إدارة الرئيس باراك أوباما السابقة أن تبدأ بتقليل اهتمامها بما يجري في المنظومة السياسية في المنطقة، وتبعتها إدارة الرئيس دونالد ترامب في إهمالها للصراع العربي-الإسرائيلي وانحيازها التام لإسرائيل، وإغفالها ملفات الحقوق والحريات، وما يشبه عدم اكتراثها بما يجري في سوريا بعد أزيد من عشرة أعوام على حربها الأهلية، وتركيزها في اليمن على بيع الأسلحة فقط بدل البحث عن حل سياسي لأزمة ذلك البلد، وتركها الفوضى السياسية والأمنية في ليبيا، وغير ذلك من المسائل الأساسية المساعدة على انتشار العنف والصراعات.
الكتاب مرجع أكاديمي بحثي يعالج أحد أهم مسببات تراجع التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أي النزاعات المسلحة. وللمؤلف أهمية كبرى في معالجته المسهبة والرصينة للموضوع، إذ لا يمكن استقامة تطور مجتمعات منطقة البحث سوى بفهم دينامياتها ومعرفة الطرق الأفضل لتدارك تداعياتها طويلة الأمد.
المصدر: وكالات