درس كمال بنكيران الأدب الفرنسي في جامعة الحسن الثاني بالعاصمة الاقتصادية للمملكة، وواظب على الانخراط في ثلة من الأوراش الصحافية كمتعاون في توفير المحتوى الإعلامي بلسان موليير، وكان قاب قوسين أو أدنى من التوجه إلى فرنسا من أجل استكمال التكوين في التعليم العالي؛ لكن وقوفه أمام نموذج العيش الكيبيكي، في خلطه الفرنكوفونية بالحلم الأمريكي، شكل لحظة طفرة في حياته ككل.
تنهل تجربة بنكيران في مونتريال، خلال السنوات العشرين الماضية، من مشارب شتى؛ لكن معالمها الأساسية تقترن بالاشتغالات البيداغوجية كإطار خبير في التدريس، إضافة إلى الحضور ضمن المشهد الإعلامي الثقافي.. غير أن الإشعاع يصل إلى أوجه من خلال الحضور في الميدان الأدبي والحرص على المثابرة في الإقبال على النشر.
فترة الثبات بالدار البيضاء
اشتد عود كمال بنكيران في مسقط رأسه بدرب السلطان، وسط الدار البيضاء، إذ كبر على إيقاع شعبي تمليه العلاقات المتشابكة بين الجيران خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، ولفّته المتعة حين التعامل مع الزخم الفني والرياضي للحي، إذ جرب الأداء المسرحي ولازم صغار نادي الوداد البيضاوي، كل هذا دون التفريط في الجدية عند التحصيل المدرسي.
ويقول كمال عن ذلك العهد: ‘’ارتبطت السنوات الـ17 الأولى من حياتي بدرب السلطان، وبعدها انتقلت الأسرة إلى مسكن جديد في حي مولاي عبد الله في عين الشق بالدار البيضاء أيضا، وهناك كنت محاطا بالكتب والآلات الموسيقية لمكوث ببيت فوق السطح، فكانت الظروف مواتية كي أنكب على القراءة بكثافة. وخلال هذه المرحلة، حضر الشغف بكل ما يرتبط بالشؤون الثقافية عموما والأدب خصوصا”.
حصل بنكيران على الإجازة في الأدب الفرنسي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق التابعة لجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، بينما الحضور ضمن المضمار المهني تأتى من خلال التدريس في مؤسسة تعليمية خصوصية، وحضر الانشغال بالصحافة والإعلام من خلال مراسلة مجموعة من المنابر المغربية.
استبدال فرنسا بكندا
دنا كمال بنكيران من الانتقال إلى فرنسا، إذ تلقى ردا إيجابيا على طلب تسجيل في مؤسسة للتكوين الصحافي. وقبل أن يتحرك نحو هذه الوجهة الأوروبية، التقى بصديق له كان قد أمضى سنة في مونتريال.. وهنا تغيرت الوجهة نحو كيبيك، بعدما استوفى العائد من كندا استعراض المميزات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المنطقة الأمريكية الشمالية.
ويورد كمال بهذا الخصوص: ‘’حاولت جمع معطيات عن الاستقرار في كندا ووجدت ما يساعد فعلا على إغناء الشخصية وسط تنوع للأعراق البشرية الوافدة من كل أنحاء العالم، وقررت خوض التجربة مشجعا بوجود استعمال للسان الفرنسي في كيبيك، من جهة، وبعدما ثبت لي أن هذه الخطوة تتم صوب عالم أمريكي فرونكوفوني، من جهة ثانية”.
حسم بنكيران قرار الهجرة عند الوصول إلى سنة 2001، إذ اختار التخلي عن العمل في قطاع التعليم الخاص والنأي عن المساهمات في الجرائد المغربية وتأجيل الطموحات الكبيرة المتعلقة بالنشر الأدبي، كما نأى عن روابط أصدقاء الشعر والأدب.. كل ذلك من أجل تجريب الحظ على التراب الكندي.
العودة إلى التدريس والإعلام
استشعر المنتمي إلى صف مغاربة العالم مصاعب عند بداية الاستقرار في مونتريال، خاصة أن توفير العائدات المالية الكافية لتغطية حاجياته اليومية قد دفعته إلى القبول بفرصة شغل في معمل، ثم انتقل لاحقا إلى الاشتغال في مركز للنداءات الهاتفية، وكل ذلك بالموازاة مع الإقبال على استكمال التكوين الأكاديمي في ماستر للبيداغوجيا والسيكولوجيا بجامعة كيبيك في مونتريال.
وفي المرحلة الموالية، احترف بنكيران التدريس، بناء على مضامين عقود تهم مستوى الأقسام التحضيرية ثم أخرى خاصة بالطور التعليمي الثانوي، مرورا بفرص اشتغال لتعويض أطر لديها ما يحول دون الممارسة المهنية، ثم أتت فترة الثبات الوظيفي في التعامل مع حاجيات أقسام الاستقبال، وهو عمل يهم تعليم اللغة الفرنسية للمهاجرين الجدد غير الناطقين بها.
بجانب هذا النشاط المهني الأساسي، يحمل كمال بنكيران صفة مستشار في الشؤون الأدبية لدى المجلس الأعلى للفنون في مونتريال. كما يتوفر على عضوية مجموعة من هيئات التحكيم بمؤسسات مانحة لأصناف من الدعم الثقافي، كما لديه نشاط إعلامي في برنامج يحمل اسم ‘’أدب وفنون’’، ورصيده يتخطى 350 من الحوارات مع مبدعين متنوعين.
وسط الإنتاجات الأدبية
تبرز من بين الإنتاجات الببليوغرافية لكمال بنكيران عناوين متنوعة ترتبط بـ8 كتب حتى الحين، إذ تتشكل من 3 دواوين شعرية ومجموعتين اثنتين للقصة القصيرة، إضافة إلى إصدارين يرتبطان بالرواية، وبجانب هذا كله يلوح مؤلف واحد يتناول مسببات وآثار الهدر المدرسي في كيبيك.
ويقول من يعيش ثالث عقود الهجرة إلى كندا: ‘’البنية السوسيولوجية لهذه الأرض الأمريكية الشمالية توفر من يهتمون بنظرات كاتب مقيم لديه أصل مغربي، خاصة أن المنطلق الخاص بي يراعي فكرة التجسير الثقافي، وتغمرني السعادة المخلوطة بأحاسيس الافتخار لكون بعض مما أسطره قد وجد طريقه إلى المحتوى المدرس في عدد من الجامعات المغربية”.
وعلى الرغم من اعترافه بصعوبة مزاولة الكتابة على هامش التركيز في أعمال بدوام كامل، يواصل كمال بنكيران التحلي بالإصرار الذي يتيح له مسايرة الإيقاع في الإنتاج الأدبي، والانخراط في مبادرات مشجعة على النشر الإلكتروني، والمساهمة أيضا في تنظيم ندوات القادرة على تعزيز التشبيك بين الفاعلين الثقافيين من بين مغاربة العالم.
على الورق والإنترنيت
يثمن كمال بنكيران نتائج التطورات الإلكترونية التي شهدتها العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، ويرى أنه لا مفر من الثقافة الرقمية، كما لا يمكن تفادي الحاجة الملحة إلى التأقلم مع المنتجات الافتراضية، لكنه يستدرك: ‘’رغم ذلك أرى أن القراءة على الورق لن تندثر، إذ لا يزال هناك مستهلكون مهتمون، من ناحية، وسياسات عمومية توفر الدعم والمساندة لمهنيي القطاعات المعنية، من ناحية ثانية”.
ويقول متخطى 20 سنة من الوجود في مونتريال: ‘’لدى الرقمنة إيجابيات عديدة؛ أبرزها إتاحة إمكانية الاطلاع على الأخبار من جميع أنحاء العالم، والتواصل بسرعة ووضوح بين الناس أينما كانوا. كما لا ينبغي أن ننسى أن النشر على الأنترنيت أسهم في دمقرطة الولوج إلى الكتب، إلا أن تحمس المهتمين بالورق لا يزال حاضرا، وقد استشعرت ذلك وقت الانتماء إلى منتدى للكتاب الرقمي مدة سنة، إذ توقفت التجربة بسبب المائلين إلى إبقاء النشر مرتبطا بالورق”.
سواء كان الحضور إلكترونيا افتراضيا أو ورقيا ملموسا، يرى كمال أن مشاريعه المستقبلية لا محيد لها عن الكتابة، وأن تنهل مواضيعه من ما يراه ميدانيا في كل مناحي الحياة. كما يملك بنكيران تطلعات لمباشرة العمل في ‘’جمعية جسور’‘ كي تنخرط في خطوات مميزة، غايتها الأبرز تتجلى في منح الأداء الثقافي أبعادا أوسع، خاصة أن الرقمنة تقرب المسافات بين الناس.
الأهداف والحضارة
يعتبر كمال بنكيران أن الجيل المتكون من المغاربة الوافدين حديثا على كندا أو أولئك الراغبين في خوض التجربة قريبا يبقى مدعوا إلى تحديد أهداف واضحة يريد الوصول إليها من خلال الاستقرار خارج الوطن الأم، والعناية بهذا كله عبر الابتعاد عن التأثيرات المحبطة التي يقوم بها الرفقاء السلبيون.
ويورد الساكن في مونتريال بهذا الخصوص: ‘’أوصي حديثي العهد بالهجرة بأن يضعوا نصب عيونهم ثلاثة أهداف؛ الأول دراسي والثاني مهني والثالث شخصي، وأن يتحلوا بإصرار وازن يتيح لهم البقاء واقفين في وجه التحديات، كما يجب أن يفهموا أن عثرات البداية مؤشرات على بذل المجهودات الباحثة عن النجاحات”.
“المغرب مرادف للحضارة حقا، وهذا ما يجعل المهاجرين المغاربة مجبرين على التعامل مع انتمائهم الوطني بناء على هذه النظرة، وأن يعبروا عن محبتهم لبلادهم، وأن يواظبوا على الافتخار بالانتماء إليها أينما كان المستقر، وأن يبادروا إلى رفع الراية المغربي بأخلاقهم العالية حيثما حلوا وارتحلوا’’، يختم كمال بنكيران.
المصدر: وكالات