في أولى تجربة لها تحتضن مدينة أكادير تظاهرة “بيلماون.. الكرنفال الدولي لأكادير”. ونزل المنطمون برنامجا غنيا يتنظرون منه أن يوصل المدينة إلى نفس مرتبة المدن الكرنافالية العالمية أو أن تقترب من ذلك على الأقل، ولعل أبرز فقرات التظاهرة استعراض أو كرنفال “بيلماون” الذي جاب أهم شوارع أكادير.
وللوقوف أكاديميا على موضوع الكرنفال وتحليل تمظهراته كممارسة ثقافية شعبية، يقول الدكتور عز الدين الخراط، الباحث في المسرح وفنون العرض: “في الكرنفال الكل مشاركون نشطون، والكل يقدمون قربانهم بالفعل الكرنفالي. الكرنفال لا يشاهده الناس، وإن أردنا الدقة لا يؤدى تمثيلا، وإنما يعيش الناس فيه حياة كرنفالية. أما الحياة الكرنفالية فهي حياة خرجت من خطها الاعتيادي، إنها في حدود معينة حياة مقلوبة وعالم معكوس”.
“يرتبط كرنفال بيلماون عندنا بعيد الأضحى، ويتحلق حوله جمهور غفير من الناس يساهمون في صناعة الفرجة. إذ كلما بلغ الاحتفال ذروته كلما ازدادت نسبة حضور الجمهور، وتفاعله مع كل مراحل عبور الفرجة من لحظة الخفاء إلى لحظة التوهج. ويمكن تصنيف تعبيرات هذه الثقافة الكرنفالية وتجلياتها المتعددة إلى ثلاثة أصناف كبرى: أشكال الشعائر والعروض الفرجوية، أعمال هزلية لفظية، وأشكال وأجناس مختلفة من القاموس المألوف والبذيء”، يضيف الخراط في حديث لهسبريس.
وأوضح أن تلك الأصناف تعبر في تنافرها عن “نفس المظهر الهزلي للعالم، وتكون مترابطة فيما بينها بشدة وتمتزج مع بعضها بطرق مختلفة”، مشيرا إلى أن “الكرنفال ترتبط به بعض المقولات والمفاهيم، تتمثل في طابع الحميمية التي تسود بين المشاركين والمتفرجين، واللاتكافؤ الكرنفالي والتدنيس. كما يعمل الكرنفال على جمع المقدس بالمدنس، الرفيع بالوضيع، العظيم بالحقير، الحكيم بالغبي، وتوحيدها ومزاوجتها وربطها. إنها أفكار طقوسية موكبية متجسدة حسيا، أفكار تم خبْرها واستنفادها في شكل الحياة نفسها”.
وعن تمظهرات تجسيد الكرنفال، يقول الباحث: “اللافت في هذا السياق كون الفرجة، التي يصنعها المؤدون والمتفرجون، تعتمد بشكل كبير على حضور الجسد باعتباره أداة للفعل ومحورا للمشهدية عبر التمثيل واللعب والتسلية والسخرية، ثم تحضر اللغة من خلال اللعب بالكلمات وبالتعابير داخل سياقات الفرجة كأساس لتأسيس الفعل الساحر انسجاما مع ما يؤكده باتريس بافيس بأن ملفوظا معينا يعد ساخرا عندما يتجاوز معناه البدهي والأصلي إلى معنى آخر مختلف، أو مناقض، ويتوسل في ذلك ببعض العلامات اللغوية كالنبر أو التنغيم، أو بواسطة السياق اللغوي. هكذا تتم معرفة الحقيقة الموصوفة حين يتم تخطي المعنى الحرفي وتعويضه بمعناه الضدي”.
وتابع قائلا: “كما تستدعي الفرجة حضورا مكثفا للمتفرجين، فالمتفرجون لا يشاهدون الكرنفال، بل يعيشونه جميعهم، إذ من حيث فكرته ذاتها هو معمول من أجل عموم الشعب، وطوال مدة الكرنفال لا أحد يعيش حياة مغايرة لحياة الكرنفال، إذ يستحيل الإفلات منها. ليس للكرنفال أي تخم فضائي، وعلى امتداد الاحتفال لا يمكن العيش إلا وفق قوانينه، أي حسب قوانين الحرية. إن الكرنفال يتخذ طابعا شموليا، إنه حالة خاصة للعالم بأسره، انبعاث وتجديد له، فيهما يشارك كل الأفراد. هذا هو الكرنفال من حيث فكرته، بل في ماهيته، وجميع من يشارك في احتفالاته يحسونه بحيوية شديدة”.
وختم الباحث قائلا إن صانعي فرجة “بيلماون” يلجؤون إلى الاستعانة بـ”اللغة الساخرة، وعلاوة على ذلك، فهي تعتمد على مجموعة من العناصر الأساسية التي تتجلى في فن القناع الذي يكتسي أهمية كبرى، وهو نمط معقد جدا ومحمل بكثير من المعاني في الثقافة الشعبية. إن القناع يترجم فرحة التناوب والتناسخ، النسبية الفرحة، النفي المرح للهوية وللمعنى الأحادي، نفي التطابق الساذج مع الذات. إن القناع تعبير عن الانتقالات، عن التحولات المسخية، عن اختراقات الحدود الطبيعية، عن الاستخفاف، عن الألقاب. إنه يجسد مبدأ لعبة الحياة، ونجد في قاعدته العلاقة المتبادلة المميزة كليا بين الواقع والصورة، والتي تسم الأشكال الأكثر قدما للشعائر والعروض الفرجوية”.
“وينبغي الإشارة إلى أن ظواهر من قبيل الباروديا، الكاريكاتير، عبوس الوجه، التصنع، التقليد المضحك ليست سوى مشتقات من الضحك، ففي القناع يظهر بجلاء جوهر الغروتيسك العميق. كما يرمز القناع إلى لعبة الاختباء أو الاحتماء خلف مادة مصنعة واهمة للتحرر من وجه إنساني يطفح بكثافة علاماتية مكشوفة، أو لتصريف خطابات الاحتجاج على واقع معين لا يبعث على الاطمئنان، أو تعبير رمزي عن تمفصلات فارقة بين الصورة بحمولاتها الاجتماعية والثقافية، والوهم بحمولاتة الفنية والأدائية. وبالتالي إذا كانت الأقنعة تعمل على خلخلة نظام الأشياء، فإنها تنصهر كذلك في الأجساد وتضاعفها، وتمنح قدرة فائقة على التنكر، الذي يمثل إحدى التقنيات الأولى لبروز الجسد الكرنفالي الذي يشع في أجساد لطخت بالسواد وتبدلت سحنتها، وفي وجوه ذكورية أصبحت ذات طلعة أنوثية. إذ بدل تأكيد الذات فيما تنطوي عليه من فردانية أو صميمية، فإننا لا نعتبر سوى ملامح ما هو خارج الجسد إلى أن نضيع في عالم الغيرية، غيرية تأخذ صفة معكوسة داخل نظام القيم. مثلا: نستطيع أن نطلي الجسد بالريش لنتستر بين الحيوانات، أو نسود الوجه لنختفي في الظلمة التي ستجري فيها عملية التقنع. كل ما هناك هو أن الجسد يروم بكل بساطة إلى الانمحاء، وبالتالي فإن التطري بالمساحيق يعني الابتذال لأنه بقدر ما أغير سحنتي بقدر ما أبدو أقل وضوحا بالنسبة لمن ينظر إلي”، يضيف الباحث.
يقطع المؤدون مسافات طويلة لتقمص أدوار اجتماعية جديدة، عبر وسيط القناع أو الجسد السخري أو لتمرير خطابات طافحة بطقوس الاحتجاج الرمزي وتعرية مكامن الخلل وتكسير الطابوهات، التي تنعكس آثارها في الصراعات الخفية في المجتمع بين قوتين تتأرجحان بين التقليد والحداثة، وبين قبول تراث الأجداد أو رفضه، وبين استهجان بعض المواقف التي تخلخل التماسك الاجتماعي، والتي تغلغلت تدريجيا في أوساط بعض الأسر المغربية، والشطط في استعمال السلطة من طرف من يتحمل المسؤولية في تدبير الشأن العام، أو كثرة الأنماط الاجتماعية التي تشوش على الحرية الفردية. إنها مواقف تشكل في العمق “مجموعة من التمثيلات الاِجتماعية/ الأيديولوجيات الملائمة في المقامات التي يحدث فيها التنافس والصراع والهيمنة بين الجماعات، أي أنها جزء من الصراع الاِجتماعي combat social) (le، وهذا ما يفسر أن العديد من البنيات الأيديولوجية متقاطبة (polarisées) ، أي بين من ينتمي إلى الجماعة ومن هو مقصى منها، أي بين من ينتمي إلى “نحن” ومن ينتمي إلى “هم””.
المصدر: وكالات