لا تخطئ أعين القادمين إلى أصيلة منذ الجمعة أن ثمة رواجاً ما؛ حركيّة ما مثيرة للانتباه، في “القصبة” وفي أزقّة المدينة العتيقة، وفي المطاعم، وفي الساحات والخط السّاحلي المزيّن بأعلام العديد من البلدان. ومبدئيّا، يعتقد جلّ أبناء هذه المدينة والفاعلين فيها الذين صادفتهم هسبريس خلال صبيحة الثلاثاء المشمسة أن “موسم أصيلة الثقافي الدولي الـ44، في دورته الخريفية، فاعل أساسي في هذه الديناميّة”.
ولا تستطيع أصوات الأمواج المتلاطمة بقوّة في سواحل هذه المدينة الصّغيرة، التي تحتضن “أحداثا ضخمة كمّا ونوعاً”، وتحتل مكانة خاصة في أفئدة المثقّفين المغاربة وغيرهم، أن تخفي أو تدفع إلى خانة الثّانوي هذا الزّخم المتدفّق من الوافدين من عوالم السياسة والثقافة والاقتصاد والأدب، إلخ؛ لاسيما أولئك الذين يريدون لأصيلة أن تكون ملاذاً لصوت لا يحصل على الإجماع في مناطق أخرى.
انتعاش.. بألسنتهم
بدر الدين لوديي، فاعل سياحي، قال في تصريح لجريدة هسبريس: “منذ 20 سنة وأنا أعايش هذا الموسم، وأرقب كيف ينتظره الفاعلون في القطاع السّياحي هنا بفارغ الصّبر، سواء في المطاعم أو الفنادق أو المحلاّت التّجارية، التي تكون مداخيلها حصراً مع السّائح”، مشيراً إلى أن “الموسم يساهم في إشعاع مدينة أصيلة، ويساهم في تأكيدها كوجهة، بحكم أن العديد من القنوات المغربية والعربيّة وغيرها تسلط الضوء عليها”.
وأفاد لوديي، وهو يتحدّث بحماس عن “الانتعاشة الاقتصادية” التي خلقتها فعاليات الموسم، بأن “الفترة التي تستقبل فيها أصيلة ضيوف الموسم يكون الرواج لافتاً ويستطيع الجميع ملاحظته”، مؤكداً أن “هذه الحركيّة تلقي بظلالها على القطاعات الاقتصادية الأخرى، وتساهم في تقديم صورة جيدة عن مدينة ساحلية صغيرة ومنفتحة على الآخر، وقادرة على استيعاب متطلبات الزوار، الباحثين عن أجواء الهدوء والصفاء وجميل العيش”.
ولا يبدو أن التوافقات مشروخة، هنا، بحدّة حول أثر الموسم، لكن هسبريس تستمرّ في التوغل داخل شوارع القصبة. محلاّت تفتح باكراً وأخرى تؤجّل العملية التبادلية إلى وقت يناسب أرباب الدكاكين. الأزقة مدثرة بالأبيض والأزرق، القطط في كل مكان وروائح البحر تخترق الأسوار العازلة… ترحاب متواتر من الباعة يلزم الحدود، ويحترم حميميّة الآخر، حوانيتٌ صغيرة تعرض أشياء ثمينة ماديا ورمزيا، وأخرى تبيحُ مواد خشبيّة وجلدية محليّة الصّنع.
نواصلُ فنصادف دكاكين أخرى تعرضُ ملابس “جبليّة” مصنوعة بالشّمال تصلح لمقاومة البرد في الشتاء. تبدو أصيلة مثل “أختها التّوأم”: الصّويرة، تؤكّدان علامة: “صنع في المغرب”. نتوقف عند مراد، بائع بالمدينة العتيقة، الذي أكد أن “الرهان يكون في العادة على السّائح الأجنبي، الذي يزور أصيلة في هذه الفترة، لكن الموسم يساهم في تحريك المياه الراكدة، ويرسم شكلاً جديدا للتبادلات التجارية في المجال السياحي”.
ودعا المتحدث ذاته إلى أن ينظم القائمون على الموسم جولات سياحيّة للضيوف كل نهاية أسبوع طيلة أيام الفعاليّة، سواء في الدورة الخريفية أو الصيفية، وذلك لتكريس الحركية؛ “فحين تأتي الوفود مجتمعة وفي أسراب فهي تقتني مواد مهمة بأثمان مناسبة”، مسجلا أن “أصيلة تتلاءم مع القدرات الشرائية للسياح، فالقادمون من مختلف الأوطان تبدو لهم الأثمان عادية، كما يجدها المغاربة مناسبة وغير ‘منفوخة’”.
“هوية ثقافية”
نلتقي ياسين ايصبويا، عضو اللجنة الإعلامية لموسم أصيلة الثقافي الدولي، أمام مكتبة الأمير بندر، ليتحدث عن الأثر الذي يخلقه هذا الموسم للقطاع السياحي بالمنطقة والمغرب، موردا أن “الحديث عن الجانب السياحي وعلاقته بموسم أصيلة هو استدعاء لـ44 دورة، وبالتالي 44 سنة، أكسبت أصيلة هوية ثقافية وفنية تستطيع أن تقدم نفسها بصورة حضارية بالكثير من الحصريّة”، وزاد: “هذا الموسم لا يخدم أصيلة فقط، بل المغرب أيضا، إذ يؤكد أمنه واستقراره”.
وأوضح ايصبويا، في حديثه إلى هسبريس، أن “طبيعة النخب التي تأتي إلى أصيلة سنويا على هامش هذه التظاهرة، من رؤساء دول ووزراء ومثقفين ومفكرين وفنانين، تساهم في استقطاب مقاربات إعلامية تغذي الترويج السياحي للمنطقة”، مؤكدا أن “العديد من الفعاليات السياسية والفكرية تُغرم بهدوء المدينة وجمالها وطيبة ساكنتها؛ كما أن هناك العديد من النقاشات التي تكون على الهامش خارج قاعات الندوات تبين أن هناك انطباعات إيجابيّة”.
ولفت “ابن المدينة” إلى أن هذه الملاحظات يجب التقاطها، “فهي تفصح عن إشادات دولية متواصلة بالساكنة المنفتحة وقدرتها ككل المغاربة على الجمع بين الأصالة والمعاصرة”، مبرزا أن “العديد من الوافدين يكنّون احتراما لبلدنا”، وأن “هناك تطورا واعدا يسجّله المغرب”، وزاد: “هذه التصورات التقديرية تذكرنا باقتراب وطننا من احتضان كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2023 بتنظيم مشترك مع إسبانيا والبرتغال، وهو ما يعزّز تجذر المغرب في العمقين الإفريقي والعربي”.
وذكر المتحدث ذاته أن “هذا الموسم هو مختبر للمعرفة، نظراً لما يدور فيه من حوارات سياسية وفكرية مهمة، وما يناقشه من قضايا تسلط الضوء على مختلف المسائل الرّاهنة في العالم”، مبينا أنه “يخلق أثرا إيجابيا للقطاع السياحي، سواء في ما يخص النقل الجوي أو السّككي أو الطرقي، وأيضاً الخدمات الفندقيّة والإطعام”، وأفاد: “بعد رؤية البلد، فالزّوار لا محالة سيشجّعون أسرهم ومعارفهم وذويهم، وسينشرون صورهم في المغرب”.
“مداخل الثقافة”
نغادر مكتبة بندر، لنلتقي على الخط الساحلي للمدينة الطاهر الطويل، وهو كاتب وإعلامي مغربي يشارك في فعاليات الدورة، لفهم العلاقة بين الثقافي والسّياحي، لكن من “وجهة نظر المثقّف هذه المرّة”؛ بحيث فسر لنا أن “لهذا الموضوع المتعلق بالتواشج الحيوي بين الثّقافة والسّياحة سياق دولي”، موضحا أن “هناك نماذج عالمية عديدة له، لكن الأمر في المغرب يتعلق بثلاثة نماذج رائدة”.
ومن ضمن المدن التي استطاعت أن تستقبل سياحاً انطلاقا من مدخل الثقافة يقدم الطويل “أصيلة، التي نتواجد فيها الآن، في المقام الأول”؛ قائلاً: “هذه المدينة كانت عبارة عن بلدة أو قرية صغيرة جداً يمارس فيها الصيد والتجارة؛ وبالأحرى مجرّد نقطة عبور نحو طنجة ومدن أخرى”، وتابع: “ينضاف إليها في هذه المهمّة ما كرسه مهرجان فاس للموسيقى الروحية، الذي يحتل مكانة اعتبارية على المستوى الدولي، من تدفق للسياح”.
وفي المقام الثالث، يعتبر الباحث أن “مهرجان كناوة وموسيقى العالم بالصويرة لعب الدور نفسه وأثر إيجابا على الاستقطاب السياحي”. لكن الطويل يعود لموسم أصيلة ليؤكد أن “محمد بنعيسى بمعية محمد المليحي ومجموعة من الفنانين والمثقفين الذين كانوا يساندون هذا المشروع في نهاية السبعينيات تمكنوا من تأسيس تظاهرة ثقافية ضخمة احتضنت أسماء فكرية ومرجعية من المنطقة والعالم”.
وكشف الكاتب المغربي أن “هذا النوع يندرج في إطار ‘سياحة المؤتمرات’؛ فكل مؤتمر يستقطب فنانين ومبدعين وكتابا وشخصيات رفيعة المستوى، يخلقون تلقائيّا رواجاً في الخدمات السياحيّة”، منبها إلى الدور الذي يلعبه “الإشعاع الإعلامي الذي تخلقه مثل هذه الملتقيات، الذي يساهم في التعريف بهذه المدن، ويحرك الرغبة في زيارتها”، وقال في الختام: “أصيلة كسبت هذا الرهان، وجعلت الثقافة واجهة رئيسية للاستقطاب السياحي”.
المصدر: وكالات