ما تزال كاتيا دحان تعرف نفسها مغربية رغم اقترابها من استيفاء 60 سنة من الاستقرار في كندا، وحين يتم استفسارها عن السبب الكامن وراء هذا التمسك بالهوية الأصل، تذكر أن العديد من الأمور لا تحتاج إلى نسج تبريرات كي تبرز للعيان، خصوصا إذا كانت تجليا للحقيقة ومصدر نشر للراحة الوجدانية.
خاضت المرأة مسارا مهنيا طويلا نسبيا قبل الاستقرار على ميدان تنظيم عروض الفرجة بشكل عام، والمواعيد الفنية الإبداعية بكيفية خاصة، عابرة مجالات أخرى، أبرزها التشييد العقاري والإيواء السياحي، وترى أن تجربتها تمثلها فعلا؛ لأنها تبقى كاتيا دحان وإن جرى استبدال الحيز الذي تقف فيه.
نشأة يهودية مغربية
رأت كاتيا دحان النور في أحضان أسرة يهودية مغربية مستقرة في مدينة الدار البيضاء، وعانقت الفرحة أقاربها عند حلولها بينهم في سنة 1962، لكن الحزن تمكن من الجميع حين جاء وقت الرحيل عن المغرب بالتوجه مباشرة إلى كندا في سنة 1965، وقد كانت كاتيا من بين مجتازي مياه المحيط الأطلسي للالتحاق بفضاء الاستقرار الجديد.
تقول دحان: ‘’لم يكن عمري قد تخطى 3 سنوات وقت الهجرة نحو مونتريال، دون أن تحضر القطيعة بيني وبين وطني الأم طيلة السنوات العشرين الموالية، فقد بقي أجدادي في الدار البيضاء وصار ضروريا أن نتنقل كل سنة لزيارتهم، لذلك كبرت معتادة على قضاء الفترة الصيفية على التراب المغربي’’.
كما تحكي كاتيا أنها حظيت مع أخيها بتربية تستحضر الثقافة المغربية اليهودية حتى النخاع، بتأطير مباشر من والديها وبمشاركة أصدقائهما في الهجرة، إضافة إلى حضور أسرة الأب التي رافقته نحو الديار الكندية، لتراكم نشأة قائمة على التقاليد والعادات، وتتعزز بالوجبات الغذائية والأنغام الموسيقية المغربية.
السير نحو الفنون
أقبلت كاتيا دحان على التخصص في الرياضيات عند الوصول إلى طور التعليم العالي، وبعدما تخرجت من جامعة مونتريال غاب عنها شغف التعامل بـ’’لغة الأرقام’’، واختارت إطلاق الاشتغالات من خلال مواكبة الأوراش العقارية، لكنها تعرضت لحادث تسبب في عجز بدني نسبي، ما اقتضى الابتعاد عن هذا المجال المهني.
في المرحلة الموالية، حضرت المغربية نفسها شريكة في مشروع مأوى للشباب، بطاقة استيعابية تعادل 250 سريرا، وساهمت في إدارة المنشأة التي واظبت على الترحيب بالسياح من كل أنحاء المعمور على مدى 17 موسما، ثم حضرت النهاية بعدما قررت مدينة مونتريال استرجاع البناية التي تملكها وتوظيفها في استعمالات مغايرة.
تعلق دحان على ذلك الوقت بالقول: ‘’عشت تجربة رائعة في مأوى الشباب، لكن الأفضل كان في انتظاري بعد ذلك؛ إذ بادرت إلى الاشتغال في إنتاج العروض الفنية، كما أستعين حاليا بالخبرة التي راكمتها لتمكين الزبائن من خدمات تساعدهم في أعمالهم المتعاطية مع المهن الإبداعية، ويمكنني القول بأنني قمت بما أحب فعلا’’.
الجمع قبل القسمة
تعتبر كاتيا دحان أن الانتماء إلى المغرب يجعل المرء يفهم ما معنى تدبير الاختلاف بمعناه الواسع، وسيادة التفاهم بين الناس، والعارف بالتاريخ العريق للبلد لا يستحضر أي تساؤل بخصوص إمكانية عيش المسلم واليهودي جنبا إلى جنب، كما لا يضطر للبحث عن نماذج عملية تتيح جمع الناس في قالب وطني متناغم.
تقول المنتمية إلى الجالية المغربية في كندا: ‘’زوابع فكرية متتالية دفعتني ومجموعة من الأصدقاء إلى تأسيس تكتل، يبقى قائما من سنة 2010 إلى الآن، تحت مسمى الذاكرة والحوار، يبتغي إعادة التذكير بما يجمع اليهود والمسلمين على ضوء التجربة المغربية، إذ ما زلنا نملك طموحات مثالية نفرغها، من حين لآخر، في مواعيد قادرة على ضمنا مرارا وتكرارا’’.
كما تبرز دحان أن العمل في ميدان تنظيم التظاهرات الفنية والأنشطة الإبداعية قد جمعها بعدد من المغاربة المتميزين على صعيد كبيك خصوصا، وكندا عموما، خاصة وقت الإشراف على مهرجان “سيفاراد” في مونتريال، وأيضا عند التعامل مع أجندات الموسيقى الكلاسيكية وحفلات الأوركسترا الفيلهارمونية لكبيك.
بين الفرح والحزن
تبتسم كاتيا دحان عند استفسارها عن طبيعة العلاقة بالمغرب، ثم تختار الرد بالقول: ‘’لم أسافر كثيرا إلى المغرب منذ وفاة أجدادي، وشاءت الأقدار أن ألبي دعوة حضور زفاف في ماربيا، لكن الشطر الأول من الرحلة الجوية جاء نحو الدار البيضاء قبل الطيران إلى إسبانيا، وحين حطت المركبة على المدرج المغربي غمرني إحساس بالفرح أعجز عن تفسيره إلى الحين’’.
وتستحضر ذات الأصل المغربي الأحزان في المقابل، معلنة أن زلزال 8 شتنبر 2023 لم يكن في الحوز والمناطق المجاورة له بالأطلس الكبير، بل اهتزت الأرض تحت أرجل كل من يحب المغرب، وغمر الحزن جميع الناس الذين يعرفون الطينة الطيبة للشعب المغربي، وأولهم أبناء الجالية.
‘’رد الفعل الأول حينها كان الاتصال بمن أعرف أنهم مواظبون على زيارة المغرب، وقد تابعت التطورات الظرفية عبر الأخبار، ثم جاء دور المشاركة في جهود جمع التبرعات لصالح عمليات الإنقاذ وإعادة البناء، إذ أبان مغاربة كندا على تضامن مثالي في هذا الإطار، وهناك أناس مستعدون للقيام بمبادرات إضافية مستقبلا؛ لأن جهود إعادة البناء ستتواصل في المستقبل أيضا’’، تضيف دحان.
نصيحة ثلاثية الأبعاد
تعتبر كاتيا دحان أن الإقبال على الدراسة بجد يبقى مفتاحا أساسيا للنجاح في أي مكان، خصوصا عند الهجرة، وتعلن أن والدها قد اشتغل مديرا للمعهد الفرنسي بمونتريال في الماضي، وأنه عمل ما بوسعه لاستقدام طلبة مغاربة، وهناك رعيل أول من الوافدين استفاد من تأطيره لإعلاء مستوى التحفيز.
وتشدد المتواجدة في كبيك منذ 6 عقود على أن معانقة النجاح ترتبط بالعمل بغض النظر عن المكان، وتتضاعف هذه الحاجة الكمية والنوعية إلى الاشتغال كلما صار الشخص بعيدا عن بيئته الأصلية، مثلما يصبح ضروريا البصم على أداءات جدية إذا ما ارتبط المرء بأحلام لا تحدها غير السماء.
‘’بجوار التركيز على الدراسة والبذل في الحياة المهنية، يحتاج المقبلون على الاستقرار في كبيك، وبمختلف أنحاء كندا، أن يولوا الأهمية للتواجد في الأنشطة المجتمعية التي بمقدورهم أن يقبلوا عليها؛ وهناك أسماء مغربية بارزة شدت الانتباه بهذه الخطوة لنيل فرصتها في الارتقاء على مختلف الأصعدة’‘، تختم كاتيا دحان.
المصدر: وكالات