قال جواد القسمي، باحث في القانون الدولي والعلاقات الدولية، إن “القرار الفرنسي الأخير بدعم خطة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب سنة 2007 تحت السيادة المغربية، شكل منعطفا تاريخيا في مسار قضية الصحراء الغربية المغربية”.
ووصف القسمي “الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء” بـ”انعطافة تاريخية نحو أفق جديد”، مشيرا في مقال له إلى أن “باريس ومدريد تتحدثان بصوت واحد حول قضية الصحراء المغربية”، مبيّنا كيف قادت البراغماتية الفرنسية إلى اختيار الرباط على حساب الجزائر، مقاربا في الوقت ذاته الموقف الفرنسي ومأزق الدبلوماسية الجزائرية.
نص المقال:
شكل القرار الفرنسي الأخير بدعم خطة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب سنة 2007 تحت السيادة المغربية منعطفا تاريخيا في مسار قضية الصحراء الغربية المغربية، وهو بذلك ينضاف إلى سلسلة من المواقف والاعترافات الدولية التي أكدت كلها على وحدة الأراضي المغربية، والتي كان أهمها الاعتراف الأمريكي الصريح بمغربية الصحراء. هذا التحول الجذري في الموقف الفرنسي، الذي جاء بعد سنوات من الغموض والحياد الحذر، يعكس تحولات عميقة في المشهد الدولي وتغيرا جذريا في الموازين الدولية واعترافا بالواقع التاريخي والسياسي والقانوني وتعزيزا لشرعية الوحدة الترابية للمغرب على أقاليمه الجنوبية، كما يمثل في المقابل ضربة موجعة لأوهام الانفصاليين ومن يدعمهم ويزيد من عزلتهم على المستوى الدولي، وهو كذلك انتصار للدبلوماسية المغربية وخطوة مهمة نحو حل نهائي لهذا النزاع المفتعل.
باريس ومدريد تتحدثان بصوت واحد حول قضية الصحراء المغربية
الموقف الفرنسي الحاسم حول مغربية الصحراء جاء بعد الموقف الإسباني الداعم لخطة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب، باعتباره الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف في الصحراء الغربية المغربية، ليضع حدا لعقود من الحياد الحذر الذي طبع الموقف الإسباني، هذا التحول الاستراتيجي في موقف الدولة الإيبيرية مثل اعترافا صريحا بواقعية خطة الحكم الذاتي وكفاءتها في تحقيق تسوية عادلة ودائمة لهذا النزاع الإقليمي المفتعل.
فبعد خيبة أمل الذين كانوا ينتظرون تراجع إسبانيا عن قرارها بالاعتراف بمغربية الصحراء من خلال دعم خطة الحكم الذاتي، جاء الموقف الفرنسية ليزيد من رسوخ الموقف الإسباني السابق، بل ذهبت فرنسا أبعد من ذلك بتأكيدها أن هذا المقترح هو الحل الوحيد والعادل والدائم لهذا النزاع، وقطعت بالتالي الطريق على أي وسائل أخرى للتسوية باستثناء ما اقترحه المغرب.
يمثل الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء وقبله الاعتراف الإسباني أهمية تاريخية ودبلوماسية بالغة وتحولا نوعيا في مسار النزاع، إذ يضفي على الموقف المغربي قوة دفع لا تضاهى، كون هاتين الدولتين الاستعماريتين السابقتين للمغرب قد اتخذتا هذا الموقف المدروس بعناية وحسمتا موقفهما بشكل نهائي، بعد إدراكهما العميق لواقع الأمور وحتمية هذا الحل، وهما الدولتان اللتان عايشتا عن قرب تاريخ المنطقة وتجليات النزاع.
التحول الأخير يشكل نقطة تحول في الديناميكية الدولية حول قضية الصحراء المغربية، إذ يمهد الطريق أمام دول أوروبية أخرى ويشجعها على اتباع النهج نفسه واعتماد مواقف أكثر وضوحا ودعما للمغرب، ويبدو أن المملكة المتحدة على وجه الخصوص تبقى الأقرب للانضمام لهذا التيار المتزايد على المستوى الدولي، وخاصة في الأوساط الأوروبية، مما سيعزز من مكانة المغرب كفاعل أساسي في المنطقة ويزيد من حشد الدعم الدولي لمبادرة الحكم الذاتي، وفي المقابل يعمق عزلة الأطراف المعادية لوحدته الترابية.
إن المكانة التي تتميز بها فرنسا على المستوى الدولي وإعلانها على لسان رئيسها أنها ستدافع عن موقفها على المستوى الدولي، لا شك يجعلها قوة مؤثرة داعمة لخطة الحكم الذاتي المغربية، فتكفي الإشارة إلى كونها عضوا دائم العضوية في مجلس الأمن، الجهاز المعني حصرا بتدبير هذا الملف، ولها حق النقض (الفيتو)، وهي عضو في مجموعة الصحراء الغربية (المغربية) التي تضم كذلك كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وإسبانيا والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى العلاقات الفرنسية المتميزة والمتشابكة مع الكثير من الدول حول العالم.
مستقبل الاعتراف الفرنسي بمغربية الصحراء: هل يمكن التراجع؟
يعد الاعتراف الدولي بمغربية الصحراء، سواء الفرنسي أو الأمريكي أو الإسباني… نقطة تحول استراتيجية في العلاقات الدولية المتعلقة بقضية الصحراء، إذ يمثل خطوة حاسمة في ترسيخ الوضع القائم. إن طبيعة القرارات السياسية المتخذة على أعلى مستوى، التي غالبا ما تترافق مع شراكات اقتصادية وسياسية متعمقة، تجعل من الصعب للغاية، إن لم يكن مستحيلا، التراجع عنها. فبمجرد ما يصبح الاعتراف بمغربية الصحراء حقيقة واقعة، تترسخ المصالح المتبادلة بين المغرب والدول الشريكة، مما يجعل أي تغيير في هذا الموقف محفوفا بالمخاطر ويؤدي إلى زعزعة الاستقرار في العلاقات الثنائية.
إن التحولات الجيو-سياسية الحالية وتزايد الوعي بأهمية الاستقرار الإقليمي سيعززان حتمية استمرارية هذا الاعتراف. فالدول التي تعترف بمغربية الصحراء تجد نفسها أمام خيارات استراتيجية واضحة، إذ إن المكاسب الاقتصادية والسياسية التي تجنيها من خلال هذه الشراكة تفوق بكثير أي خسائر محتملة. علاوة على ذلك، فإن مرور الوقت يساهم في ترسيخ الوضع القائم، مما يجعل من الصعب على أي حكومة جديدة أن تتخذ قرارا يتعارض مع المصالح الوطنية طويلة الأجل، ودليل ذلك ما تم الترويج له حول إمكانية تراجع الرئيس جو بايدن عن قرار الاعتراف بمغربية الصحراء الذي اتخذه الرئيس دونالد ترامب.
يمكن القول إن الاعتراف بمغربية الصحراء ليس مجرد قرار سياسي، بل هو استثمار استراتيجي طويل الأمد. فالدول التي تتخذ هذا القرار تدرك جيدا أن المغرب هو شريك موثوق به، وأن الاستثمار في العلاقات الثنائية مع المغرب هو استثمار في المستقبل.
براغماتية فرنسية تقود إلى اختيار الرباط على حساب الجزائر
يمثل الموقف الفرنسي الداعم لمغربية الصحراء عبر خطة الحكم الذاتي تحولا استراتيجيا في علاقتها بدول المغرب العربي، لا سيما الجزائر. إن هذا التوجه يعكس أولوية باريس لعلاقاتها مع الرباط على حساب علاقاتها مع الجزائر، وهو ما يفسر استعدادها لتحمل تداعيات هذا القرار.
إن باريس، التي كانت تدرك مسبقا رد الفعل الجزائري الغاضب، قد اتخذت هذا القرار بعد دراسة متأنية للأبعاد الإقليمية والدولية للقضية، فقرارات من هذا الحجم لا تتخذ بسرعة ولكن تسبقها دراسات عميقة تحكمها نظرة براغماتية لحجم الربح والخسارة. فبالرغم من التنديدات الإعلامية والخطوات الاحتجاجية المتوقعة من الجزائر، مثل سحب السفير الجزائري من باريس، إلا أن فرنسا ترى أن هذه الإجراءات لن تؤثر بشكل جوهري على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
يعكس تحول الموقف الفرنسي تقييما جديدا لموازين القوى الإقليمية حيث باتت الرباط تمثل شريكا أكثر استقرارا وأكثر قدرة على المساهمة في الأمن والاستقرار في المنطقة. كما أنه يعكس رغبة باريس في تعزيز نفوذها في شمال إفريقيا، ومن خلاله في غربها، وذلك من خلال دعم الشريك الذي ترى فيه حليفا استراتيجيا.
يأتي الموقف الفرنسي كذلك في انسجام تام مع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، لا سيما تلك الصادرة منذ عام 2007، التي تؤكد ضرورة إيجاد حل سياسي وواقعي لهذا النزاع، وهي عناصر يتميز بها مقترح الحكم الذاتي، إذ يمثل حلا واقعيا وذا مصداقية وقادرا على إنهاء هذا النزاع المستمر. كما أن هذا الاعتراف الفرنسي يدعم الإجماع الدولي الآخذ في التشكل حول عدم جدوى الخيارات الانفصالية التي أثبتت فشلها في تحقيق أي تقدم ملموس على أرض الواقع. إن المجتمع الدولي بات مقتنعا بأن مشروع الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الحل الأمثل والأكثر استدامة لهذا النزاع المعقد.
الموقف الفرنسي ومأزق الدبلوماسية الجزائرية
يشكل فشل الدبلوماسية الجزائرية في قضية الصحراء المغربية مؤشرا واضحا على محدودية تأثيرها على الساحة الإقليمية والدولية، إذ عجزت عن حشد الدعم الدولي لهذه القضية. وشكلت الاعترافات المتكررة لمسؤولين جزائريين بفشل الدبلوماسية الجزائرية على المستوى القاري تأكيدا لهذا التقييم. فبعد أن فشلت في تحقيق أي تقدم ملموس على المستوى الإفريقي، تكبدت خسائر فادحة على الصعيد الأوروبي والأمريكي.
إن هذا الفشل الذريع يطرح تساؤلات جدية حول فعالية الاستراتيجية الجزائرية في التعامل مع هذه القضية، التي تقوم بالأساس على الإنفاق الهائل على الدعاية والتضليل. فبالرغم من الموارد المالية الضخمة التي تخصصها الجزائر لدعم القضية الانفصالية، إلا أنها لم تتمكن من تحقيق أي تقدم يذكر. هذا يدل على أن الموارد المالية وحدها لا تكفي لتحقيق الأهداف السياسية، بل إن النجاح يتطلب رؤية استراتيجية واضحة وقدرة على بناء علاقات دولية متوازنة.
إن الإصرار الجزائري على دعم قضية خاسرة يمثل عبئا كبيرا على الاقتصاد الجزائري، ويؤثر سلبا على حياة المواطنين. فبدلا من توجيه هذه الموارد الهائلة نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يتم صرفها على مشاريع عقيمة لا تحقق أي فائدة للجزائر وشعبها، إن هذا التوجه يضعف مكانة الجزائر على الساحة الدولية ويؤثر سلبا على سمعتها.
في المقابل، حقق المغرب نجاحات كبيرة في التعامل مع قضية الصحراء المغربية، وذلك بفضل دبلوماسيته الرزينة وبرامجه التنموية الشاملة في الأقاليم الجنوبية. إن النموذج التنموي المغربي يمثل بديلا مقنعا للنموذج الانفصالي، وقد لاقى استحسانا واسعا على المستوى الدولي.
الاعتراف الفرنسي تتويج لجهود الدبلوماسية المغربية
يعد الموقف الفرنسي الأخير تتويجا لجهود دبلوماسية مغربية حثيثة وممنهجة، إذ أبرزت هذه الخطوة كفاءة الدبلوماسية المغربية في إدارة الملفات المعقدة وتعزيز مكانتها على الساحة الدولية. إن هذا التحول الإيجابي في الموقف الفرنسي يعكس قوة الأوراق التي يملكها المغرب في علاقاته الخارجية، ويرسخ مكانته كشريك موثوق به في المنطقة.
إن النجاح المغربي في استمالة دول عريقة كفرنسا وإسبانيا يؤكد أن الدبلوماسية الناجحة لا تقوم فقط على الموارد الاقتصادية، بل تتطلب رؤية استراتيجية واضحة، وبناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. إن المغرب من خلال دبلوماسيته الرزينة والمدروسة، استطاع أن يحول التحديات إلى فرص، وأن يثبت للعالم قدرته على إدارة ملفاته الخارجية بمهارة واقتدار.
يمكن القول إن هذا النجاح هو نتاج طبيعي لنهج دبلوماسي مبني على الحوار البناء والتعاون المثمر، إذ تمكن المغرب من إرساء علاقات شراكة متوازنة مع مختلف الأطراف، مما عزز مكانته كقوة إقليمية مؤثرة.
المصدر: وكالات