أجرى الكاتب أنوار مجيد قراءة في كتابٍ حول “استبداد الليبرالية” لصاحبه باتريك دينين، من خلال ترجمة قام بها الكاتب عبد العزيز جدير، بهدف تسليط الضوء على الليبرالية ومعناها ونجاحها تارة، وأسباب فشلها تارة أخرى، مذكرا في الوقت ذاته بما ورد في كتاب “الجنة الحقيقية والوحيدة” لكريستوفر لاش الذي نُشر قبل أكثر من عشرين عاما.
هذا نص المقال:
باتريك دينين جامعي أمريكي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة نوتر دام، من بين إسهاماته الرئيسية دوره في هيئة التحرير الـ”New Polity”. عني بإعادة تقييم الليبرالية، وكتب كتاب “لِم فشلت الليبرالية؟”، الكتاب الرئيس في الفلسفة السياسية. ويقول في هذا الباب إن “الليبرالية فشلت لأن الليبرالية نجحت”! وهو يقصد “وإذا فشل المشروع فلأن مقدماته تم كشفها في زماننا هذا”. فما هي أسباب فشل النظام الليبرالي؟ تجيب عن بعض السؤال قراءة أنوار مجيد للكتاب، الذي صدرت طبعة ثانية منه منذ وقت قصير.
وأخيرًا، تحدى أستاذ متميز، دأب على نشر أعماله بأهم دور النشر الأكاديمية الكبرى، قوانين المعرفة الواسعة، بطرائقها الرصينة والجافة والمملة (الأساليب المختلفة التي فقدت الحيوية وتعتبر علامات رمزية للعمل الجاد والعقلاني) واتجه مباشرة نحو منبر الوعظ داخل كاتدرائية المعرفة الشاسعة لينشد مرثاة حول زوالنا الوشيك في محاولة عبثية لإنعاش أنواع تسير منذ أمد طويل في طريقها إلى الانقراض دون وجود أدنى أمل في سبيل العثور على الخلاص قبل أن ينفخ في البوق إعلانا عن “نهاية الزمان”. وها هو باتريك دينين، مؤلف كتاب “لماذا فشلت الليبرالية”، يذكرنا بأن ما نعتبره رمزًا طوطميًا لانتصار الحضارة الغربية، والمؤشر النهائي لتفوق الغرب على الشعوب التي لم تؤت قدرها من العلم وسقطت في فخ التقاليد التي لا أمل في الخلاص منها، قد تبين أنه فشل بأبعاد مروّعة وكارثية.
يمكن اعتبار كتابه تقريبًا عملاً يمثل نعمة تحمل الخلاص للإنسان، وتحذيرًا للجماهير التي حرمت من البعد الروحي وتأثرت بمفهوم الحرية الذي لم تكن له سوابق ولا شهد نظائر له في الماضي البعيد. والليبرالية، سواء كتبناها بحرف “L” كبير أو صغير، أو كانت صنفا أو تنويعا نبع من الزمن الذي يطلق عليه الكلاسيكي أو من الصنف الأكثر حداثة (كيفما تخيلتها)، سجنتنا في قفص حديدي، وحكمت علينا بحيوات تشبه البخار قابلة ومعرضة للزوال، وإذا لم تتغير فهي في طريقها لتحويل كوكبنا الغني إلى كرة من رماد.
ويشير مصطلح- الليبرالية- نفسه بشكل مخادع إلى مفهوم الحرية، أو “Libertas”، الذي ارتبط في العصور القديمة والعصور الوسطى بحياة الفضيلة التي تحققت من خلال تعليم قائم على الفنون الليبرالية وتقديس التقاليد. أن تكون حراً حقًا يعني أن تجد طرقا لتحقيق ذلك المبتغى ضمن القيود الطبيعية والاجتماعية. كان الفرد جزءًا من نسيج مجتمعي، يتحرك ويتفاعل في تناغم جنبًا إلى جنب مع إيقاعاته، مشبعًا بنظرة مأساوية للحياة حيث تخضع الإمبراطوريات، مثل البشر، لدورات الزمن- الولادة والنمو والانحطاط. وقد تحولت، تدريجيًا، هذا الفكرة أو هذا المفهوم الأنثروبولوجي للإنسان في المجتمع- بدءًا من نيكولا مكيافيلي، ثم رونيه ديكارت، وتوماس هوبز، وفرانسيس بيكون، والعديد من ورثتهم- إلى مخلوق وحيد، متوحد تتمثل رغبته النهائية في السعي وراء تحقيق طموحاته بالتغلب على الحدود والقيود الاجتماعية والطبيعية.
يقول لنا دينين إن “الفرد بصفته فاعلًا اقتصاديًا منفصلا عن الغير، ويعنى بذاته والمصالح لم يوجد من قبل في الواقع في ظل أي وضع طبيعي فعلي، بل إنه كان تشكيلا/ إبداعا نتج عن تدخل مدروس ودقيق من قبل الدولة الناشئة في بداية الحداثة، مع بدايات النظام الليبرالي”. وقد تم تفكيك وتذويب الروابط القوية للمجتمع في مجموعة غير منضبطة من الأفراد الذين عهدوا لدولة قوية تتوسع باستمرار لحماية استقلاليتهم وتسهيل استنزافهم الشره للموارد الطبيعية والبشرية في سعيهم لتحقيق منافع خاصة. في هذا العالم الهوبيزي، “تشبه الصداقات وحتى العلاقات العاطفية التحالفات الدولية- والتي يُفهم منها أنها تخدم المنفعة الشخصية”.
بالاعتماد على كتاب دانيال جوزيف بورستين، “جمهورية التكنولوجيا”، يصف دينين الليبرالية بأنها “نوع جديد من التكنولوجيا السياسية الذي يحل محل التوصية القديمة بالفضيلة والطموح إلى تحقيق الصالح العام عبر المصلحة الذاتية، والطموح المنطلق والجامح للأفراد، بينما يتم التركيز على الأنشطة الخاصة عوضا عن الاهتمام بالصالح العام، والقدرة المكتسبة على إعادة النظر في أي علاقات تحد من حريتنا الشخصية”. ولما كان هذا النظام الليبرالي يتشكل، على ما يبدو، من عدد لا حصر له من الثقافات، فهو في واقع الحال مناهض للثقافة بشكل عميق ومناهض للديمقراطية أيضا، مما يجعله يتحول من (res publica)؛ الشأن العام، أي دولة التي يحكمها ويديرها مواطنون أحرار إلى (res idiotica)، أي سياسة نظام حكم من المستهلكين “الخاصين” و”المعزولين” الذين يتم تصنيع وتدبير موافقتهم من خلال تقنيات مختلفة للسلطة (بما في ذلك الوثائق المقدسة مثل دستور الولايات المتحدة). وحين لا توجد مجتمعات محلية قوية لحمايتهم من القوة المزدوجة أو التوأم للدولة البوليسية والاقتصاد القائم على الاستغلال، يعيش مواطنو الأنظمة الليبرالية في ظل أنظمة استبدادية بعيدة الأثر والانتشار أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى في عصور ما قبل الحداثة.
لست أدري لم نحن في حاجة إلى الديمقراطية لحكم شعب متأصل بعمق في ثقافته وتقاليده؛ قد يكون من الصائب جدًا أن الديمقراطيات التي نشأت مع النظام الليبرالي الجديد لا علاقة لها بالنموذج الأثيني. لقد كان النظام الأرستقراطي، بنظامه التسلسلي الهرمي، أكثر ملاءمة لنوع المجتمع الذي يتصوره دينين، بل إن المؤلف يستشهد بالمراقب الفرنسي الداهية ألكسيس دو توكفيل قائلاً إن الطبقة الأرستقراطية “تربط بين جميع الناس، من فلاح إلى ملك، في سلسلة طويلة واحدة. والديمقراطية تكسر السلسلة وتتحرر كل حلقة فتصبح منفصلة… وهكذا، فإن الديمقراطية لا تجعل الرجال ينسون أسلافهم فحسب، بل إنها تشوش أيضا على رؤيتهم تغشي بصرهم وتمنعهم من الرؤية الصحيحة لأحفادهم وتعزلهم عن معاصريهم. كل إنسان يستعيض عن الآخر بنفسه يظل منعزلا إلى الأبد، بل ويتهدده خطر أن يحبس نفسه في أعماق ذاته”. لقد كانت مخاطر الديمقراطية معروفة بشكل جيد لمؤسسي الولايات المتحدة، تمامًا كما كانت معروفة لثيودور هرتزل الذي عبر، في رؤيته لتأسيس دولة يهودية، عن تفضيله لـ”ملكية ديمقراطية” أو “جمهورية أرستقراطية” لأن الديمقراطية غير الخاضعة للرقابة “تنتج تلك الطبقة الذميمة المرفوضة من الرجال- السياسيون المحترفون”. أن يصبح نظام ليبرالي استبدادي معترَفاً به عنوانَ الديمقراطية في عصرنا هو الدليل على إفلاس الفكرتين.
وباعتباره أكاديميًا في هذا الزمن شديد الاستقطاب، حيث يبدو أن الليبرالية، شديدة الولع بالاستقلالية درجة التقديس، لا تعرف حدودا (“بلا حدود” أو يجب محو “الحدود والحدود القائمة على الجغرافيا، والتاريخ، والطبيعة بشكل متزايد وفق منطق الليبرالية”)، لا يسع دينين سوى التفكير في مصير الفنون الليبرالية، التي روحها العلوم الإنسانية. والتعليم الوحيد الذي يعتبر المحرر حقًا، إذ يعني “أمر أن تكون حرًا- ليبراليًا- أن ذلك كان فنًا، شيئًا لا يتم تعلمه عن طريق الطبيعة أو الغريزة ولكن عن طريق الصقل والتهذيب والتعليم”. وفي ظل عبادة الكفاءة والفعالية وعائدات الاستثمار، يبدو التعليم الذي يطبع في النفس الفضيلة ويرسخها كأنه شيء من بقايا ماض مظلم، يتم التغلب عليه ببهجة من خلال صعود ثورة علمية تُخضع الطبيعة لجشع الإنسان وتقيم الحياة اليومية على دعامتي الصناعة والربح. إن التخلي عن الفنون الحرة لصالح ما كان يُعتبر سابقًا “تعليمًا قائما على الخنوع والإذلال”، تعليما يهتم حصريًا بجني المال وحياة العمل، وبالتالي مخصص لأولئك الذين لم ينعموا بلقب “مواطن”، يعد مسمارًا إضافيًا يدق في نعش النظام الليبرالي.
في كتابه “الجنة الحقيقية والوحيدة”، الذي نُشر قبل أكثر من عشرين عاما، أعرب كريستوفر لاش، الذي يتجسد صوته النبوئي وشجاعته بسعة وإسهاب في كتاب “لماذا فشلت الليبرالية”، عن هذا التغيير المهم بشكل رائع عندما كتب “إن السلطة التي تم منحها/ تداولها/ عبر دعوة/ تفويض، عبر كل الإيحاءات الأخلاقية والروحية، يمكن بالكاد أن تزدهر في مجتمع أفسحت فيه ممارسة الدعوة الطريق لنوع من الوصولية الآثمة والخبيثة بشكل خاص، كان يرمز إليها بشكل لا لبس فيه، في الثمانينيات، من خلال صعود شباب حضريين وناجحين”.
وما دمنا أشرنا إلى لاش، فهو في نقده لإيديولوجية التقدم، حذر من إيجاد العزاء في الحنين إلى الماضي، أو في الماضي بكل بساطة، دون أي صلة بالحاضر. وكتب لاش “إذا كان لفكرة التقدم التأثير الغريب الذي يتمثل في إضعاف الرغبة أو الميل في توفير الترتيبات الذكية للمستقبل، فإن الحنين، توأمها الأيديولوجي، يقوض القدرة على استخدام الماضي بذكاء”. وبالنسبة إلى لاش، يمكن للأشخاص الذين يستنيرون بأخلاق مسيحية قوية وبالتعلق البطولي بالقيم الجمهورية أن يتجنبوا السقوط في هذا الفخ؛ ولكن ها هنا، مرة أخرى، نحن نتحدث عن أنواع محتضرة، وليس عن الأس الأساس لبديل عن الليبرالية أو للأيديولوجية المدمرة للتقدم.
يبدو أن الأصوات التنبؤية مثل صوت دينين ترتفع عندما نكون تجاوزنا نقطة اللاعودة منذ أمد طويل. ذلك أنه منذ الأيام الأولى للاستعمار المبكر وصولاً إلى يومنا هذا، كان ما ميز أمريكا وعرفت به هم المحتالون المخادعون، والباحثون عن الفرص ومغتنموها، وصائدو المكافآت (بالمعنى الواسع للكلمة)، وليس أعضاء المجتمعات المستقرة مثل فلاحي العالم القديم الذين أذعنوا مستسلمين لثرواتهم التي وهبها الله لهم ولمراتبهم في النظام الاجتماعي. ولم يكن هؤلاء أقل من الحاكم الأول لأمريكا، ويليام برادفورد، الحاج/ المهاجر على متن سفينة مايفلاور الذي وقع على أول وثيقة سياسية أمريكية، وهي ميثاق مايفلاور، حتى قبل المنفيين الذين اختاروا المنفى، والذين اقتلعوا أنفسهم من موطنهم الأصلي وألقوا المِرساة في ماساتشوستس (بليموث)، وتحسروا على الحجاج/ المهاجرين الذين هجروا الكنيسة بحثا عن ثروات الأرض الجديدة المتاحة والمعروضة. وكما يخبرنا المؤرخ والتر آلن ماكدوغال في كتابه “الحرية فقط قريبة الزاوية”، “لم يتمكن المستعمرون البيوريتانيون أبدًا من التوفيق بين طموحاتهم الإلهية وطموحاتهم الدنيوية، متذبذبين بين الإرضاء الذاتي وإدانة الذات”. لقد كان “هذا المذهب المرعب” “لا يستدعي شيئا آخر غير النفاق”.
قد يقول قائل إن الجزء الباقي من التاريخ الأمريكي هو وقائع التوتر اللانهائي الذي يثير توقًا حقيقيًا لمجتمع متين الدعائم يتمتع بعلاقات دافئة ضد الدافع الفردي العميق والمتأصل لمطاردة الثروات والمنافع من أجل حماية النفس من تهديدات ومخاطر الغرباء والحكومات الاستبدادية. وقد تبين أن أرض الفرص هي عدو تجربة إنسانية غنية. هذا ما منحنا إياه، في النهاية المطاف، الإرث الليبرالي.
المصدر: وكالات