يشكل دخول قانون المسطرة الجنائية حيز التنفيذ محطة بارزة في مسار تحديث العدالة الجنائية، بما يعكسه من توجه تشريعي ومؤسساتي نحو مراجعة القواعد المؤطرة للممارسة القضائية، في سياق وطني يتزايد فيه الاهتمام بقضايا العدالة والحقوق والحريات.
ويثير هذا القانون، بما يتضمنه من مستجدات، نقاشا حول ما يُنتظر من إيجابيات عند تفعيله، والرهانات المعقودة عليه لمعالجة إشكالات مطروحة، ما يجعله مدخلا لفهم التحولات المرتقبة في منظومة العدالة الجنائية واستشراف مآلات هذا الورش التشريعي.
تطوّر المسطرة الجنائية
نبيل ناجي، باحث في العلوم القانونية، قال إن “قانون المسطرة الجنائية الجديد 03/23 المعدل والمتمم للقانون 22/01 بدأ العمل به رسمياً في 8 دجنبر الجاري، وذلك انسجاما مع توجيهات الدستور المغربي والتزامات المغرب الدولية في مجال حماية الحقوق والحريات، كما أنه يعد محطة مفصلية في تطور العدالة الجنائية بالمغرب”، مضيفا أن “هذا القانون يأتي محمّلاً بحزمة من المستجدات الجوهرية التي تمسّ بنية الإجراءات والمساطر، وتعيد ضبط العلاقة بين سلطات البحث والتحقيق من جهة وحقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة من جهة أخرى”.
وأكد ناجي، في تصريح لهسبريس، أن “القانون الجديد لا يقتصر على إدخال تعديلات تقنية، بل يشمل تحولات عميقة في منهجية تدبير الدعوى العمومية، وتوسيع صلاحيات النيابة العامة، وإعادة تنظيم مساطر التوقيف والبحث التمهيدي، مع تعزيز آليات الرقابة القضائية؛ كما يتضمن أحكاماً جديدة في مجال العدالة الرقمية، وتبسيط المساطر، وتقوية حماية الضحايا، خاصة الفئات الهشة”.
وأفاد المتحدث ذاته بأن “دخول هذا النص التشريعي حيّز التنفيذ يشكّل بداية مرحلة مختلفة في الممارسة اليومية للفاعلين في المنظومة الجنائية، ويستدعي استعداداً مهنياً وفهماً دقيقاً للمقتضيات الجديدة التي ستؤثر بشكل مباشر على عمل ضباط الشرطة القضائية، وهيئات الدفاع، والقضاة على حدّ سواء”.
ونبّه الباحث نفسه إلى أن “القانون الجديد يستهدف تحديث المسطرة الجنائية بما يضمن تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة وحق الدفاع، وترشيد استعمال التدابير التقييدية، مثل الاعتقال الاحتياطي والحراسة النظرية، وتشديد شروطها، وتوسيع استخدام وسائل العدالة التصالحية كبدائل للإجراءات التقليدية في بعض القضايا بالعقوبات البديلة، بالإضافة إلى دمج التكنولوجيا الرقمية في بعض إجراءات التحري والمرافعة لتحسين كفاءتها”.
ومن أبرز المستجدات العملية التي جاء بها قانون المسطرة الجنائية الجديد ذكر نبيل ناجي “صلاحيات النيابة العامة”، موضحا أن “القانون أعاد تنظيم صلاحيات وكلاء الملك والنيابة العامة في متابعة الشكايات والوشايات، من مرحلة بداية الدعوى إلى تنفيذ الأحكام، مع إرشادات تطبيقية صادرة عن الوكيل العام لمحكمة النقض”، ومشيرا ضمن الستجدات أيضا إلى “التحقيق الإعدادي، إذ تم إدخال قواعد جديدة تُحسّن حماية حقوق المتهمين في مرحلة التحقيق، وتشترط – في بعض الحالات – إجراء تحقيق أولي قبل مباشرة الأبحاث القضائية، ولا سيّما في ملف الوشايات مجهولة المصدر”.
الحراسة النظرية والمحاكمة العادلة
ومن بين المستجدات التي ذكرها الباحث في العلوم القانونية “بدائل التصرف في الدعوى”، موردا أن “القانون توسع في بدائل متابعة الدعوى العمومية، مثل المصالحة في قضايا معينة، بدل التوجه تلقائيًا إلى التحقيق والمحاكمة”، مبرزا أيضا “حقوق الدفاع”، ومفسّرا إياها بأن “القانون أكد على ضرورة إعلام المتهم بحقوقه في التمثيل القانوني، وتسهيل حصوله على محامٍ منذ المراحل الأولى للتحقيق”.
وأكد ناجي “إعادة رسم ملامح العدالة الجنائية في مختلف مراحلها جراء دخول قانون المسطرة الجنائية حيز التنفيذ، من التبليغ والشكاية إلى التحقيق والمحاكمة وتنفيذ الأحكام، من خلال مقاربة تقوم على ثلاثة مرتكزات، هي تعزيز حقوق الدفاع، وتحديث العمل القضائي، وتقوية وسائل مكافحة الجريمة”.
وعن تعزيز الحقوق وضمانات المحاكمة العادلة أورد المتحدث أن “القانون الجديد ركز على وضع المتقاضين، وخاصة المشتبه فيهم، في قلب العملية القضائية، من خلال توسيع الحماية القانونية وإقرار آليات رقابية دقيقة”، مردفا: “أصبح لزاماً على النيابة العامة إشعار المشتكين بالإجراءات المتخذة بشأن شكاياتهم داخل أجل أقصاه خمسة عشر يوماً. كما أُتيح لمن تضرر من قرار الحفظ تقديم تظلّم أمام الوكيل العام للملك”، ومضيفا أنه “تم تعزيز دور المحامي بشكل كبير، إذ بات بوسعه حضور الاستنطاق أمام النيابة العامة، وتقديم طلبات الفحص الطبي، والإدلاء بالوثائق، وطرح ملاحظات بعد انتهاء التحقيق الأولي”.
ومن المستجدات التي وصفها نبيل ناجي بـ”البارزة” “وضع معايير دقيقة للجوء إلى الحراسة النظرية باعتبارها تدبيراً استثنائياً لا يُعتمد إلا لأسباب ستة حصراً، من بينها الحفاظ على الأدلة أو حماية الشهود أو تفادي فرار المشتبه فيه، مع إحداث سجل إلكتروني وطني للحراسة النظرية يمكن للسلطات القضائية مراقبته عن بعد، بما يحد من أي تجاوز محتمل”، وواصل: “كما تم تكريس حق المشتبه فيه في الصمت، والتنصيص على أنه لا يُعدّ اعترافاً بأي شكل، بالإضافة إلى ضمان الاتصال بالمحامي منذ الساعة الأولى للوضع تحت الحراسة النظرية، إلا في حالات قليلة مرتبطة بجرائم خطيرة”.
وبخصوص الاعتقال الاحتياطي قال الباحث إن “القانون أحاطه بضمانات صارمة، إذ لم يعد ممكناً إلا بقرار معلل ولأسباب محددة، مع تقليص مدته القصوى في الجنح إلى شهر واحد قابل للتمديد مرة واحدة فقط”، وتابع: “كما مُنح المتهم حق الطعن في قرار الإيداع بالسجن أمام هيئة قضائية تبت في الموضوع بشكل مستعجل، ما يعزز الطابع الاستثنائي للاعتقال”، مضيفا أنه “في سياق الشفافية وسّع القانون حق المحامي في الاطلاع على الملف والحصول على نسخ من وثائقه دون قيود، باستثناء قضايا محددة ذات طابع حساس؛ كما برز الاهتمام بحماية السلامة الجسدية للموقوفين، إذ أصبح الفحص الطبي ضرورياً عند وجود قرائن أو بطلب من الدفاع، فيما يبطل الاعتراف إذا رفضت السلطات إجراء الفحص رغم طلبه”.
الرقمنة والأمن القضائي
وشدد نبيل ناجي على أن “القانون الجديد سعى إلى تقليص الضغط على المحاكم وتسريع البت في الملفات عبر تعزيز العدالة التصالحية، إذ توسعت مسطرة الصلح لتشمل عدداً كبيراً من الجنح، من بينها النصب وخيانة الأمانة والعنف الخفيف وإصدار الشيكات بدون مؤونة، بشرط موافقة الطرفين”، وزاد: “كما أصبح من الممكن إيقاف تنفيذ عقوبة سالبة للحرية بعد صدور الحكم النهائي إذا تنازل الضحية وتم أداء الغرامات والمصاريف، وهو ما يرسخ توجهاً نحو معالجة النزاعات بشكل مرن وعملي”.
ومن جانب آخر ذكر الباحث في العلوم القانونية أن “القانون الجديد انفتح على الرقمنة بشكل واضح، سواء من خلال اعتماد المحاضر الإلكترونية والتوقيع الرقمي، أو تمكين المحاكم من تسجيل الجلسات رقمياً وإفراغها في محاضر لها الحجية القانونية؛ مع إدراج إمكانية الاستماع عن بعد للأطراف أو الشهود أو الضحايا عندما تقتضي الضرورة ذلك، بما يوفر الوقت ويقلل من المشاكل اللوجستية”.
وعن “الوسائل الجديدة لمحاربة الجريمة وتعزيز الأمن القضائي” أفاد المتحدث بأن “القانون كرّس صلاحيات إضافية للنيابة العامة في مواجهة الجرائم المعقدة، خاصة تلك المرتبطة بالأموال والجرائم المعلوماتية، حيث أصبح بإمكانها طلب تجميد أو حجز الممتلكات المرتبطة بأفعال جرمية، وإجراء أبحاث مالية موازية لتحديد مصادر الأموال المشبوهة؛ مع توسيع استعمال التقنيات الحديثة في البحث الجنائي، بما في ذلك الخبرة الجينية وتحليل البيانات الرقمية والولوج إلى الأنظمة المعلوماتية وفق ضوابط محددة”.
وواصل ناجي توضيحاته بالتأكيد على أن “آلية ‘الاختراق’ تُعد من أبرز المستجدات، إذ تتيح لضابط الشرطة القضائية التظاهر بالمشاركة في نشاط إجرامي قصد فك شبكات الجريمة المنظمة، خاصة تلك المتعلقة بالاتجار بالمخدرات، والإرهاب وغسل الأموال”، خاتما: “كما تم تنظيم مسطرة التحقق من الهوية بشكل أدق، مع تحديد سقف زمني لا يتجاوز ثماني ساعات قابلة للتمديد، وإمكانية أخذ البصمات الجينية بإشعار النيابة العامة”.
المصدر: وكالات
