ذاكرةُ دم ورماد تحضر في وثيقة بصرية حول الوشم الأمازيغي، وتغير الذهنيات والمعيش المغربيّين، وجمال آيِلٍ للاندثار يخلّده الفيلم الوثائقي “ذاكرة جسد” لمخرجه محمد زاغو ومنتجه الحسين حنين.
يخلّد هذا العمل ذكرى آخر جيل من المغربيات تزيّنّ بأوشام شملت معظم الجسد، بما في ذلك الوجه، كما يوثّق تغيّرا مسّ في القرن العشرين معايير الجمال، واستيعاب الفضيلة، والانتماء.
وبين الوشم معيارا للفخر والزينة والانتماء، والنظر إليه باستصغار اليوم، حتى من طرف حاملاته، ينقل هذا الوثائقي شهادات نساء عجائز ممن وُشمن واستوشَمن صغيرات وعبّرن عن رغبتهن في محوه، لو استطعن، لحرمته، فيما تشبثت أخريات به رمزا للانتماء و”وصية للجدات”.
هذه الأوشام، كما نقلت ذلك شاهدات الفيلم، اللائي رحلن عن دنيا الناس بعد تصويره، كان “يُفاخر بها”، و”تُرى للناس”، ويُعرف بها الانتماء القبليّ؛ لأن أشكال الأوشام تتغير من قبيلة إلى أخرى، وكانت معيارا للجمال، ولا يمكن الزواج بدونِها: “لا تكونين مقبولة من دونه”، “قبيحة من لا تضعه”، و”هو سبيل الغواية (…) فلا تعجِبُ الرجلَ غير الموشومة، ولا تتزوج”.
هكذا تحمل هؤلاء النسوة ذكرى الطفولة التي أنهاها ألم إبرة الوشم؛ علامة الاستعداد للزواج. لذا تحكي كل منهن جَبْرها على الوشم من طرف الجدة أو الأم أو الأب، فيما تذكر أخريات أسباب أخرى للاستيشامِ، من بينها دفع “العَين” و”السحر” وجلب الخصوبة وحفظ المواليد.
“لكن انقلبت الأمور”، كما تقول إحدى الشاهدات، وصار على لسان جل المتحدثات: “لم نكن نعي أنه حرام” بصيغ متعددة، وحضرت شهادات قالت إن المال ووضْعَ جلد الجسد سببُ الخوف من إزالة الأوشام، بل هناك من نُصحت بنزع هذه الرموز بـ”الما القاطع”، الحمضِ الذي يستطيع إذابة الحديد والحجر!
وبين الشاهدات وُجدت متمسّكات بأوشامهن دون عقدة نقص، “حتى القبر” لأن هذهِ طريقةُ العيش في المنطقة، و”العار يلاحق من يخرج عن وصية الأجداد”.
ومن بين ما يشهد عليه فيلم “ذاكرة جسد” سرديات توفيقية، اعتقدت بها نساءٌ: الوشم إرث نبوي، أو الوشم يحمي من الشر، أو “الاستغفار عن الوقوع في محرّم” بمسح الأوشام بثوب أبيض، ومنحه لمن هم ذاهبون للحجّ براءةً.
ويطبع هذا الفيلم مرحٌ، وشهادات باسمة عمّا ولّى بمُسعده ومُحزِنه. مرحٌ مرحَ شاهداته الباسمات في وجه الزمن، والشارحات للصِّلات بين الطبيعة ورموز الأوشام ورموز الزرابي التي تنسجها بعضهنّ، والشاهدات على أعمال انقرضت في صيغتها الأصلية مثل الواشمة المتخصصة في أوشام قبيلة من القبائل، الواعية برموزها الخاصة واستعمالاتها، التي يُنتقل إليها أو تطوف بالمنازل سائلة هل من بنت حقَّ عليها الوشم أو امرأة تبتغي زيادة أوشام على أوشامها.
ما يوثّقه هذا الفيلم، الغنيّ بصريا ومضمونا، ليس مجرّد تخلّ عن الرماد المحفور في الأجساد، وعفوٍ عن الدم المراق في سبيل القبيلة، بل تغيُّرٌ جوهري مسّ الذهنيات ومعيار الجمال، ولم يقتصر على رؤية نسوةٍ أنفسَهن، وما يريده الرجل، وما ينبغي تحقيق استمراره من تقاليد القبيلة وعلاماتها، بل مسّ الفضاء العام أيضا، والإنسان نفسه؛ فكما قالت إحدى شاهداتِ الشريط الوثائقي: “كانت الأوشام في كل مكان، لكن تغير الزمن اليوم. لا، بل الزمن هو نفسه. لقد تغير الناس”.
المصدر: وكالات