تتأكد عظمة الإنسان حين يقف بجوار قرد. يهدد الخيال العلمي هذا التفوق المؤقت حسب فيلم جديد عن كوكب القردة التي لا ذيل لها، وتمشي عموديا وقد تطورت بدورها وصارت تتكلم وتريد محو تاريخها الكولونيالي في الأقفاص التي صنعها البشر لسجنها (كوكب القردة المملكة الجديدة، ماي 2024 من إخراج ويس بال).
كيف سيستدرك القرد التطور الذي حصل للإنسان؟
يتطور ذكاء القرد صناعيا، يكتشف أن الرموز لها معنى. في البدء كانت الكلمة، والآن جاء الذكاء الصناعي والمؤثرات البصرية والسمعية التي تمنح احتمالية كبيرة بل وصدقية لفرضية التخييل السينمائي “ماذا لو؟”. بفضل هذه الدقة التصويرية قل الحوار واقتصر على ما لا يمكن تصويره. كل ما أمكن تصويره حذفه من الحوار، تم عرضه لا قوله.
كلف الفيلم 160 مليون دولار وحقق 513 مليون دولار في ظرف شهر من صدوره في 8-5-2024. وهذا تقييم جماهيري لا تحصل عليه كل أفلام المهرجانات النخبوية مجتمعة في زمن دمقرطة الفن. يخجل النقاد التقليديون من الكتابة عن أفلام الكواكب الخارقة والحيوانات، لكن الربح مضمون مع الأفلام التي تنقذ البشر من الواقعية المفرطة التي يعيشونها. يبدو أن القرد – ابن الطبيعة – معروف للبشر، وهو أكثر جاذبية للمشاهدين من سوبرهيرو المفبرك. لم تخيّب القردة توقعات المنتجين. لا تشيخ حكايات الخيال الخصب. هكذا صار الخيال العلمي في خدمة العجائبي.
كوكب القردة التاسع فيلم عن عجائب المخلوقات الخارقة. ماذا ينقص كوكب البشر ليشتد فضولهم لمعرفة كوكب القردة؟.
أولا، عالم جديد في طبيعة بكر: قرد له سمات إنسانية ومنخرط في أفعال إنسانية ويتأمل فراخ نسر.
تُعرض حكايات هذه الحيوانات في قاعة سينما رباعية الأبعاد. لم يخطر هذا ببال الحكائين الشفويين إيسوب وابن المقفع ولافونتين، ولا ببال صاحب البعد الثالث في الرسم الزيتي فيليبو برونليسكي (1377- 1446م).
ثانيا، تقدم الكاميرا سردا بصريا يمنح مشاهد الماء المتدفق من علٍ في الشاشة العملاقة تأثيرا نفسيا مذهلا… فيشعر المشاهد بأنه تبلّل بينما هو يعيش مشاهدة حسية على كرسي هزاز. هذه درجة تماه حسية تتعزز بالمشاهدة الجماعية في قاعة سينما.
تصور الكاميرا المشهد من فوق. يتسلق القرد الشجر بينما الكاميرا فوق، فيشعر المشاهدون وكأن القردة تقصدهم مثل قطار الأخوان لوميير 1895.
كانت تقنية العرض رباعية الأبعاد بضعف ثمن تذكرة الدخول العادي تجعل المشاهدة تجري من الداخل؛ يقفز القرد فيميل كرسي المشاهد للخلف. يطير النسر فيندفع الكرسي كأنه يحلق… تبقى المسافة ثابتة بين النسر والكاميرا، أي بين النسر وعين المشاهد. الكاميرا هي الوسيط البشري الوحيد الذي يحلق.
ثالثا، ملّ البشر كوكبهم الشرير وحياتهم مثلما حصل للوكيوس أبوليوس وهم يطلبون مرْهم التحول – المسخ من الفن. يتم في هذا السرد اللعب على تناص الحكايات. تتم مطاردة قميص فيه رائحة… هكذا تحضر محكيات صغرى تتناص مع حكايات عتيقة معلومة للمتلقي… عن سفينة الطوفان وقميص يرجع البصر، وقرد يحكم ويشرّع…
يتم إسناد أفعال الإنسان للحيوان فيخترق العجائبي حاجزي الزمان والمكان. العجائبي هو سلوك أو حدث منظور إليه من طرف تَمثلٍ وفهمٍ خاضعٍ لقوانين الطبيعة. بالبحث عن السمات الثابتة والمتكررة لهذا النوع الفيلمي يظهر أولا أن الفاعل ليس قوة غيبية خارقة، بل نتائج تطور البحث العلمي التي تخلق الاستثنائي. لا محل للعادي في العجائبي.
ثانيا أن الأحداث تقع في المستقبل لا في الماضي كما يحصل في الأساطير. كذا تجسر السينما المسافة بين التفكير الأسطوري العتيق والعلم الحديث.
رابعا، كان يا ما كان قديما… يكتشف المشاهد المرفه في المدينة نمط عيش الإنسان الصياد ما قبل الثورة الزراعية…
سرديا، جرى تجسيم البدايات التي كانت منبع حكايات الحيوانات غير المدجنة… ثم قفز السرد للمستقبل.
تسرب فيروس من مختبر وتسبب في كارثة… هذه مقدمات صحيحة تمنح المصداقية للنتائج المتخيلة، تجعلها ممكنة، قابلة للحدوث.
من هنا تنبع الأسئلة:
هل يعقل أن يكون القرد أكثر إنسانية من الإنسان؟
كل من يبحث عن جواب يكون قد حقق هدف مبدعي الفيلم في التأثير على الجماهير.
قرد طبيعي ضد قرد معدل جينيا بعد حقنة تزيد الذكاء، وهذا قد يساعد على علاج ما سماه ألبرت آينشتاين الغباء اللامحدود لدى البشر.
يعرف القرد ماضيه بالقفص. ثم صار القرد سيبرمان يضع عينه على المنظار فيرى شكل المستقبل الواعد.
فيلم يفجر حدود الخيال بوجوه عليها ماكياج أقل لكي تكون معبرة. القيصر القرد يحاول التحكم في العالم بواسطة المعرفة المخبأة في هيكل سفينة عملاقة قديمة جدا… تتناص مشاهد الفيلم مع خزان الصور في ذاكرة المشاهدين:
تشعل النار للجلوس لسماع الحكايات. الحاكم العادل المؤسس قيصر حقيقي مات وجار البحث عن بديل صالح. بعد سبعين دقيقة تظهر قصة الجميلة والوحش. تجري صفقة ويقدم وعد فوق مقبرة… تحضر مشاهد الحضارة الرومانية. يذكر هجوم النسور على القردة بغربان ألفريد هتشكوك 1963.
رغم استثماره التراث السردي يحترم السيناريو المبني على رواية (كوكب القردة 1963 للكاتب الفرنسي بيير دول) خطاطة فلادمير بروب النمطية عن الشخصيات السبعة. لا يغامر المنتجون بتغيير قوانين السرد المُجربة والراسخة. (بروب فلادمير: مور فلوجية الخرافة. ترجمة إبراهيم الخطيب الشركة المغربية للناشرين المتحدين الدار البيضاء الطبعة 1، 1986)
بسبب الشرير، وهو القائد المزيف، يرحل البطل نوح بعيدا عن قريته للقيام بمهمة عاجلة؛ في الطريق يلتقي بالعجوز المساعد راكا المسلح بالكتب. يستفيد البطل من دروس القرد العارف الذي يبدو كحمورابي يضع القوانين، وأولها: لا يقتل القردُ القرد. (وهذا ينفي التحذير الوارد في فيلم ماوغلي 2018:احذرْ شعبَ القردة، لأنه شعب بلا قوانين).
يعاني نوح من تصرفات البطل المزيف الذي ينتحل صفة قيصر. جرت محاولة لكسر الباب للوصول للمعرفة. مستحيل. من يملك السر يحقق “افتح يا سمسم”.
الرهان كبير، معرفي. عصب كل ثورة وتغيير هو المعرفة.
بعد فتح الباب وحصول الطوفان الذي جرف الأعداء حصل البطل على الجائزة: حرر قبيلته.
هكذا كان الخيال العلمي في خدمة العجائبي لتصوير ثورة القردة ضد دكتاتورية الزعيم المزيف.
يقدم “كوكب القردة” متخيلا أنثروبولوجيا مكثفا متعدد الروافد في فيلم موجه لكل العالم وليس لجمهور ضيق، وهذا ما يفسر المداخيل في ظرف أسبوعين. يعرض الفيلم حاليا 10 مرات يوميا في مركب سينمائي واحد خصوصي في كازابلانكا.
السينما لم تمت بعد.
هذه رسالة عملية للذين ينعون القاعات السينمائية في زمن المنصات الرقمية.
المصدر: وكالات