تمهيد
تستعرض جريدة هسبريس الإلكترونية تجربة نقدية جديدة بتقديم شخصية سينمائية من خلال ثلاثة أفلام بارزة تعكس رحلته النقدية والفنية، عبر ثلاثة مقالات متتالية. ونقدم هنا سيدني بواتييه من التمثيل نحو الإخراج، فتتأمل في فيلم Lilies of the Field / “زنابق الحقل” (1963) صدق الأداء وقوة المشاعر التي جعلت شخصية الراهب تُحيي ضمير المشاهد وتفتح قلبه للتأمل في الإنسانية. ويُحلل فيلم The Defiant Ones / “المتحديان” (1958) تعقيد العلاقات البشرية والصراع مع القسوة الاجتماعية والتمييز، فيرى بواتييه كيف يمكن للتمثيل أن يصبح أداة نقد للمجتمع.
ويقف عند فيلم Stir Crazy / “مجنون القيد” (1980) ليكشف تحوله إلى المخرج، حيث يوازن بين الكوميديا والرمزية ويصنع لحظة سينمائية تنبض بالحرية والمقاومة. ويؤكد على قدرة السينما على تقديم الإنسان بكل ضعفه وقوته، ويقول بواتييه: “السينما هي حياة تُروى وحقيقة تُحس”. وتقرّب هذه التجربة النقدية الحساسة القارئ المغربي والعربي من عمق الفن، وتمنحه قدرة على قراءة السينما كمرآة للحياة والروح الإنسانية في أبهى صورها.
فيلم “زنابق الحقل”
كيف يمكن لفيلم بسيط الملامح، محدود المكان، قليل الشخصيات، أن يهز أعماق الإنسان كما يفعل Lilies of the Field؟ وكيف يمكن لرجل ببشرة سمراء عابر في الصحراء، لا يحمل سوى سيارته المتهالكة وكرامته، أن يتحوّل إلى أيقونة للبناء الداخلي قبل الخارجي؟ وهل يمكن لحكاية عن كنيسة صغيرة تُشيّد ببطء تحت شمس قاسية أن تصبح مرآة لأسئلة الوجود، ولجروح الهوية، ولتعقيد العلاقات بين البشر؟ وما الذي يجعل لقاءً عابرًا بين رجل أسود مهاجر وراهبات بيض من أوروبا الشرقية يتحوّل إلى درس بليغ في الإنسانية، أعظم من أي خطبة أو خطاب؟
يأتي الفيلم ليطرح السؤال الأكثر إحراقاً: ماذا يبقى من الإنسان حين يُسلب منه كل شيء إلا قدرته على الفعل؟ ويهمس هومر، في لحظة صادقة تُشبه الاعتراف: “أحياناً لا نعرف ما نبنيه، حتى نرى ما غيّرته أيدينا في أرواح الآخرين”. وهكذا يترك الفيلم المشاهد واقفاً أمام ذاته، متسائلاً ليس عن الكنيسة التي بُنيت، وإنما عن تلك التي تنتظر البناء في داخله.
استحق هذا الفيلم جائزة الأوسكار لأفضل ممثل لسيدني بواتييه (1964)، مُغيراً ملامح صورة البطل الأبيض الذي كان يستحوذ على عرش الشاشة.
بناء الجدران وبناء الذات
يأتي فيلم Lilies of the Field (زنابق الحقل) (إنتاج 1963 / المدة 94 دقيقة)، وهو المأخوذ عن رواية للكاتب ويليام إي. باريت، وإخراج رالف نيلسون، ليقدّم أحد أكثر الأعمال السينمائية بساطةً في الشكل وعمقاً في المضمون. وكتب سيناريو الفيلم جيمس بو، بينما تتولى الموسيقى التصويرية الهادئة والمؤثرة أن تكون بتوقيع جيري غولدسميث، الذي ينسج ألحاناً خفيفة تكشف البعد الروحي العميق للعمل. ويقوم ببطولة الفيلم سيدني بواتييه في دور هومر سميث، وليليا سكالا في دور الأم ماريا، إلى جانب مجموعة من الراهبات اللواتي يصنعن الحضور الجماعي الذي يمنح الفيلم طابعه الإنساني.
تبدأ الحكاية بالصدفة، حين يقود هومر سميث سيارته عبر الصحراء الأمريكية الواسعة، فيتوقف عند دير متواضع تديره مجموعة من الراهبات المهاجرات من أوروبا الشرقية. وتظهر شخصية سميث، منذ أول مشهد، كرجل عابر لا جذور له، يحمل مطرقة وأسئلة، ويعيش من عمل يومي غير مضمون. ويستقبل الدير الرجل بفضول واحتياج، خصوصاً مع سلطة الأم ماريا التي تجسّد إيماناً صلباً لا يتزعزع، وتطالبه بالمساعدة كأن القدر أرسله خصيصاً إليها. ويقول هومر في اعتراض ساخر: “أنا رجل أعمل بأجر، ولست رسولاً من السماء”، فترد الأم ماريا بصوت ثابت: “الله يرسل الرجال حين يحين وقتهم، لا حين يطلبون”. ويكشف هذا الحوار المبكر عن النبرة الفلسفية التي سترافق الفيلم كله: المواجهة بين الإرادة الفردية والنداء الروحي.
تتقدّم السردية ببطء تأملي، حيث تتحول الصحراء إلى فضاء وجودي يختبر فيه هومر معنى العمل ومعنى أن يُطلب منه بناء كنيسة صغيرة في مكان لا ينتمي إليه. ويصبح البناء هنا مساراً مزدوجاً: بناء جدران، وبناء ذات. ويرسم السيناريو شخصية هومر عبر لغة جسدية شديدة الوضوح؛ التعرق، رفع الحجارة، طرق الطوب، حمل الماء. وتبدو كل حركة جزءاً من مواجهة داخلية، وكأن الرجل يضرب الطين في الخارج ليطرّي شيئاً قاسياً في داخله. وفي لحظة هدوء نادرة قرب نهاية أحد الأيام، يعترف قائلاً: “ربما كنتُ أهرب طوال حياتي”، جاعلاً العمل اليدوي مرآة لكشف جراحه القديمة.
تقدّم شخصية الأم ماريا نموذجاً آخر من الصلابة الروحية. فهي ليست مجرد راهبة، بل امرأة هاجرت خوفاً من القمع الأوروبي، وتحمل جراحاً ثقافية وسياسية عميقة، وترى في الكنيسة حلماً يعيد إليها معنى العالم. وتقول لهومر في أحد أكثر العبارات تأثيراً: “نحن نؤمن لأننا لا نملك شيئاً آخر نتمسك به”، كاشفةً بذلك جذور اليقين الذي يمنحها القدرة على قيادة نساء أخريات في أرض غريبة.
تأتي موسيقى جيري غولدسميث لإضفاء طبقتها الجمالية الخاصة، فتستخدم النغمات الخفيفة والروحانية لتجعل الصمت ناطقاً، والضوء الأبيض في اللقطات النهارية جزءاً من خطاب الفيلم. ويظهر تأثير الموسيقى خصوصاً في مشاهد العمل الجماعي، حيث تتناغم الحركة الإنسانية مع اللحن ليبدو وكأن الجسد يغني بينما يعمل.
وتكشف بنية الفيلم الخطابية عن اعتماد كبير على التواصل غير اللفظي، فالنظرات والإيماءات والصمت جزء أساسي من السرد. ولا يحتاج الفيلم إلى خطابات مطوّلة لشرح تحول هومر الداخلي؛ يكفي أن يقف فوق الجدار الذي بناه بيديه ليفهم المشاهد حجم المعركة التي خاضها ضد شكّه وخوفه. وتقول إحدى الراهبات وهي تراقبه يغادر في نهاية الفيلم دون وداع: “لقد جاء من لا مكان، وترك لنا كل شيء”، مانحةً الرحيل معنى القداسة.
وتتخذ الهوية الفيلمية للعمل طابعاً متفرّداً يمزج الواقعية بالرمزية. فالمخرج لا يقدّم قصة دينية تقليدية، بل يقدّم رحلة بحث عن الذات عبر الفعل، رحلة تبرهن أن الإنسان قد يجد خلاصه في عمل بسيط يضعه في مواجهة نفسه. وتتحول الكنيسة إلى استعارة للروح الإنسانية، تُبنى ببطء على يد رجل لم يقصد يوماً أن يكون بانيًا لأي شيء سوى مستقبله.
وتستمد القيمة الجمالية للفيلم قوتها من هذا التناقض بين بساطة الأدوات وعمق الدلالة. فليس هناك مؤثرات ضخمة، ولا حبكة متشابكة، ولا صراعات خارجية، بل هناك إنسان يقف تحت الشمس ويبني. وتصبح كل طوبة رمزاً لإمكانية الخلاص، وكل قطرة عرق تأكيداً على أن المعنى لا يولد من الكلام بل من الفعل.
ويظل Lilies of the Field عملاً يجعل الإنسان محور الكون، ويجعل من هومر سميث بطلاً بلا خطابات ولا انتصارات صاخبة. إنه فيلم يذكّر بأن بناء جدار قد يكون، أحياناً، بناءً لحياة كاملة.
تشكيل الذات من الداخل
يتقدم فيلم “زنابق الحقل” نحو إعادة تعريف معنى البطولة من خارج قوالب السينما التقليدية، إذ يبني صورة هومر سميث بوصفه بطلاً لا يطلب الاعتراف، ولا يحتاج إلى مظاهر القوة، بقدر ما يصنع حضوره عبر تواضع الفعل وصدق الإحساس. ويبدو واضحاً أن سيدني بواتييه، بأدائه المتزن، يرسّخ نموذجاً فريداً للبطل الأسود في سينما الستينيات من القرن العشرين، نموذجاً لا يعتمد على الصدام أو القوة البدنية، وإنما على القدرة الأخلاقية التي تجعل الشخصية قادرة على حمل العالم في صمت. ويكاد الفيلم يقول من خلاله: “إن البطولة ليست في أن تُرى، بل في أن تفعل ما يجب فعله دون انتظار التصفيق”.
وتبدأ الصورة البطولية في التشكل حين يتورط هومر في مهمة لم يخترها، لكنه لا يهرب منها، لأن الظروف تفرض عليه مواجهة ذاته قبل مواجهة العالم. ويعترف لنفسه في لحظة صدق صامتة: “كنتُ أظن أنني أعرف نفسي، لكن هذا المكان يعرّيني”. ويكشف هذا الاعتراف عن حساسية البطل تجاه التجربة التي يخوضها، فهو لا يدخل عالم الراهبات كمنقذ خارجي، وإنما يدخل كإنسان يبحث عن توازنه الداخلي. وتبرز هنا الفكرة المركزية للفيلم: البطولة ليست إنقاذاً للآخرين فحسب، بقدر ما تمثل إنقاذاً للنفس عبر الآخرين.
وتعمل السينما هنا على نحت حضور البطل من خلال التوتر بين صورته في أعين الآخرين وصورته أمام نفسه. فالأم ماريا ترى فيه رسولاً جاء في الوقت المناسب. والراهبات ينظرن إليه كقوة عملية تنقذهن من العجز. أما هو، فيرى نفسه مجرد رجل يبحث عن رزقه. وتقول الأم ماريا في لحظة من لحظات توتره: “أحياناً لا يرى الإنسان ما يراه الله فيه”. وتضع هذا العبارة هومر في مواجهة سؤال عميق: ما الصورة التي يحق للإنسان أن يحملها عن ذاته؟
ويندفع هومر بين رغبة في الرحيل ورغبة في إثبات قيمته. ويشعر، مع تقدّم العمل، بأن الراهبات ينظرن إليه نظرة انتظار لا يستطيع الهروب منها. ويقول في أحد المشاهد وهو ينظر إلى السماء: “كلما حاولتُ الابتعاد، وجدتُ نفسي أقرب”. ويعبّر هذا الأمر عن تحوّل البطل من رجل مستقل إلى رجل مرتبط بالمكان والناس عبر خيط من المسؤولية الإنسانية.
وتتداخل نظرته إلى الأشياء مع تغير علاقته بالآخرين، إذ يبدأ بالنظر إلى الطوب والماء والشمس كعناصر تشارك في تشكيل مصيره. ويبدو وكأنه يعيد اكتشاف العالم من حوله، فلا يعود البناء مجرد عمل جسدي، بل حواراً بينه وبين المادة التي يشكّلها. وفي أحد أجمل مشاهد الفيلم، يقول لهومر طفل من أبناء المنطقة بعدما يراه يعمل دون توقف: “أنت لا تبني كنيسة، أنت تبني قلباً”. ويبتسم هومر في صمت، كأن الطفل كشف سراً لم يستطع هو نفسه الاعتراف به.
في معنى البناء البسيط والهادئ
تبرز القضايا التي يدافع عنها البطل من خلال سلوكه لا من خلال خطاب مباشر. فهو يدافع عن الكرامة حين يرفض الاستغلال، ويدافع عن المساواة حين يقف بجانب نساء لا يملكن سوى إيمانهن، ويدافع عن الإنسانية حين يفهم أن البناء ليس واجباً وإنما تعاطفاً. ويظهر هذا الموقف في المشهد الذي يقول فيه هومر للأم ماريا بعد خلاف بينهما: “أنا لا أعمل من أجل الصلاة، بل من أجل أن أكون صادقاً مع نفسي”. ويكشف هذا التصريح أن البطولة، عنده، فعل صدق قبل أن تكون فعل تضحية.
وتتجلى الحساسية الفنية في طريقة نظرته للآخرين. فهو لا يرى الراهبات كمجرد نساء متدينات، وإنما يرى خوفهن وذكرياتهن وتمسكهن بالحلم. كما يرى الأطفال وهم يتجمعون حول المكان كإشارة إلى أن ما يبنيه يتجاوز اللحظة الحاضرة. ويتحول النظر إلى الآخرين لدى هومر من نظرة غرابة إلى نظرة انتماء. ويبدو كأنه يعيد النظر إلى نفسه عبر العيون التي تراقبه.
وتنجح السينما في تقديمه كصوت يخرج من قلب المجتمع الأمريكي آنذاك، صوت رجل أسود يواجه هوية وطنية تتشكل وتتكسر في الوقت ذاته. وفي هذا المعنى يصبح البطل رمزاً لمجتمع كامل يحاول أن ينهض بشجاعة هادئة، دون صخب، ودون ضجيج. ويؤكد الفيلم، من خلاله، أن التغيير الحقيقي يبدأ من إنسان واحد يقرر أن يبني، حتى لو كان البناء بسيطاً.
ويظل حضور هومر سميث درساً بصرياً وفلسفياً في معنى أن يكون الإنسان بطلاً في عالم يفضّل الضوضاء على الحقيقة. فهو يبني مكاناً، لكنه قبل ذلك يبني صورة جديدة لذاته، صورة تستطيع أن تواجه العالم دون خوف، وأن تنظر إلى الآخرين دون حذر، وأن ترى في الأشياء جمالاً لم يكن ظاهراً من قبل. وفي هذا البناء الهادئ، تتحقق البطولة في أنقى صورها.
العمق غير المرئي في فيلم “زنابق الحقل”
يتسع فيلم Lilies of the Field ليقدّم طبقات دلالية تتجاوز حكاية بناء كنيسة في صحراء أمريكية فقيرة، إلى تأمل عميق في البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحيط بشخصياته. ويبدأ الفيلم بتقديم مشهد لأمريكا الهامش، ذلك الفضاء الذي تتعايش فيه الفقرات الاقتصادية مع هشاشة الهويات، حيث لا يمتلك أحد ما يكفي ليشعر بثبات وجوده. ويرى هومر سميث، منذ لحظة وصوله، أن المكان يكشف أكثر مما يخفي، وأن الفقر ليس مجرد غياب للمال، بل هو أيضاً غياب للتوقعات. ويقول في إحدى لحظات التأمل: “الفقر يجعل الأرض ثقيلة، لكنه يجعل القلب خفيفاً حين نبدأ أخيراً في البناء”.
وتبرز الأبعاد الاجتماعية في الطريقة التي يلتقي بها هومر مع الراهبات اللواتي يمثلن فئة مهاجرة قادمة من ذاكرة سياسية قاسية في أوروبا الشرقية. وتجد هؤلاء النساء أنفسهن في مجتمع أمريكي ريفي لا يتعامل معهن بالرفض المباشر، وإنما باللامبالاة. ويجسّد الفيلم بذلك شكلاً من أشكال الاغتراب الاجتماعي الذي لا يحتاج إلى عدائية حتى يجرح. وتقول الأم ماريا في أحد المشاهد مخاطبة هومر: “نحن لسنا غريبات لأننا بعيدات عن الوطن، بل لأن لا أحد يرى أننا هنا”. ويجعل هذا الاعتراف حضور البطل أكثر أهمية، فهو وحده الذي يتعامل معهن بوصفهن قوة، لا عبئاً.
وتتحرك الأبعاد السياسية في الفيلم عبر ظلالها، إذ لا يصرّح الفيلم بخطاب سياسي مباشر، لكنه يعرض واقعاً سياسياً من خلال صورة رجل أسود يساعد نساء بيضاً في مجتمع يعاني من إرث الفصل العنصري. ويلامس الفيلم بهذه العلاقة فكرة العدالة التي لا تفرضها السلطة، وإنما تفرضها الإنسانية. ويبدو هومر، في حواره مع أحد سكان المنطقة الذي يشكك في دوافعه، ساخراً ومراً في آن واحد، حين يقول: “ليس عليّ أن أكون منكم، كي أساعدكم”. وتكشف هذه العبارة عن موقف سياسي رقيق لكنه عميق، يؤكد أن الانتماء الأخلاقي أقوى من الانتماء العرقي.
وتتعمق الأبعاد السياسية في كون الفيلم يصوّر رجلاً أسود البشرة في مرحلة حسّاسة من التاريخ الأمريكي، حيث كانت الحقوق المدنية في بدايات انطلاقتها. ويأتي أداء سيدني بواتييه ليقلب الصورة النمطية، فيظهر رجلاً قوياً وواثقاً، يفرض احترامه ولا يتنازل عن كرامته. ويمنح المخرج الشخصية سلطة أخلاقية تتفوّق على السلطة الدينية نفسها، فيتحول هومر إلى محور القوة الهادئة التي تدفع الجميع إلى الأمام. ويصبح هذا الخيار الإخراجي موقفاً ثقافياً في حد ذاته.
وتتجلى الأبعاد الاقتصادية في علاقة العمل نفسها. فالراهبات لا يمتلكن المال لدفع أجر لهومر، فيما هو يبحث عن العمل كي يتجاوز وضعه الاقتصادي الهش. وينشأ هنا تناقض جذري: عمل بلا مقابل، ومال بلا قدرة على التوفير. ويصبح العمل، في هذه المفارقة، قيمة رمزية تتجاوز الاقتصاد. ويقول هومر، حين يحاول مغادرة الدير بعد خلاف مع الأم ماريا: “لو كنتُ أبحث فقط عن المال، لكنتُ تركت هذا المكان منذ اليوم الأول”. ويكشف هذا التصريح أن الضرورة الاقتصادية ليست إلا بداية رحلة روحية واقتصادية في آن واحد.
الخطوة الصغيرة التي تصنع التغيير
تقودنا الأبعاد النفسية إلى عمق الشخصية، حيث تتحول الصحراء إلى مرايا داخلية تعكس مخاوفه القديمة. ويشعر هومر، مع كل خطوة يخطوها في البناء، أنه يواجه نفسه أكثر مما يواجه الراهبات أو العمل. وتقول إحدى الراهبات له حين ينهار تعباً: “أحياناً يحتاج الإنسان للتعب كي يسمع صوته الداخلي”. ويبدو أن الفيلم يجعل التعب الجسدي وسيلة للوصول إلى السلام النفسي، كما لو أن الجسد هو الطريق الأكثر صدقاً للكشف عن الروح.
وتتحرك الرمزية في الفيلم عبر صور متعددة، أبرزها الكنيسة نفسها بوصفها رمزاً لمعنى الوجود. فهي ليست مكاناً للعبادة فقط، وإنما استعارة للحياة التي تحتاج إلى جهد جماعي، وإيمان، وصبر. وتتحول الطوبة إلى رمز للخطوة الصغيرة التي تصنع التغيير. ويقف هومر أمام الجدار الذي بناه، متأملاً، ويقول ببطء: “كل طوبة تحمل أثر يديّ، لكن كل جدار يحمل أثر أرواحكنّ”. ويكشف هذا القول عن فهمه العميق لفكرة المشاركة، وعن تطور رؤيته للآخرين، ولمكانه بينهم.
وتتجلى الأبعاد الجمالية من خلال استخدام الضوء الطبيعي، وإيقاع العمل، وصمت الصحراء الذي يبتلع الحوار دون أن يلغيه. ويجعل المخرج من المشاهد الطويلة لحركة الجسد جوهراً بصرياً للفيلم، حيث يصبح العرق لغة، والجهد قصيدة. وتبدو الموسيقى التصويرية لجيري غولدسميث كهمس يأتي من بعيد، لا يغطي على المشهد وإنما يرافقه كظل. وفي لحظة اكتمال البناء، تقول الأم ماريا وهي تلمس الجدار: “لقد بُني هذا المكان من الإيمان، لكن ما يلمع فيه هو العطاء”. وتجعل هذه العبارة المكان نفسه رمزاً للجمال الإنساني الذي يولد من الفعل المشترك.
وتنعكس هذه الأبعاد كلها على صورة البطل، الذي يتحول من رجل بلا هدف إلى رجل يترك أثراً. ويغادر المكان دون أن يطلب اعترافاً، لأن ما بناه أهم من أي شكر. وتقول إحدى الراهبات وهي ترى سيارته تبتعد: “بعض الرجال يأتون ليمكثوا، لكنه جاء ليُغيرنا ثم يمضي”. ويجعل هذا الختام الفيلم شهادة على أن البطولة الحقيقية لا تُعلن، بل تُعاش.
وهكذا يكشف Lilies of the Field عن عالم صغير في حجمه، كبير في معناه، عالم يلتقي فيه الفقر بالكرامة، والهجرة بالإيمان، والعمل بالروحانية، ليقدّم درساً في أن الإنسان قادر على بناء شيء جميل، حتى وهو واقف على أرض قاحلة.
خاتمة
يترك Lilies of the Field قلب المشاهد معلّقاً بين بساطة الحكاية واتساع معناها، بين جدران المكان الطيني وروح الإنسان الذي شيّدها وهو لا يدري أنه كان يعيد بناء ذاته. ويهمس الفيلم بأن الإيمان ليس صراخاً ولا زعيقاً ولا شعارات، بل هو فعل صغير يتكرر حتى يصير معجزة. وتلتف القلوب حول حضور هومر الذي يمضي كما جاء، خفيفاً وشامخاً وضرورياً كنسمة صيف. وتقول الأم ماريا بلهجة تذيب العناد الأخير: “أحياناً لا يرسل الله الإجابات، بل يرسل الأشخاص”. وهكذا يغلق الفيلم صفحته على نور داخلي يبقى مضيئاً لا يُطفأ.
المصدر: وكالات
